في هذه الأيام من تاريخنا يصنع مجد الأمة وتتحقق العزة والكرامة.. عزة وكرامة تتجسّدان اليوم في انتصارات محور المقاومة في سورية والعراق واليمن وفلسطين، وقبل ذلك في لبنان.. واليوم في إيران الثورة.. التي ومنذ انتصارها الكبير على نظام الشاه، عميل وشرطي الولايات المتحدة في الخليج وخادم كيان العدو الصهيوني، لم تهدأ او تتوقف عن مقاومة المستعمر الأميركي، ودعم المقاومة ضدّ الاحتلال الصهيوني.. وهي تقدّم درساً جديداً في مقاومة الإمبريالية والهيمنة الأميركية وترسم لها حدوداً بإسقاط طائرتها التجسّسية الأحدث.. فردعت ترامب وفريقه الحربي من التمادي والانزلاق إلى الاعتداء على إيران خوفاً من الثمن الذي ستدفعه القوات الأميركية في الخليج، انْ هي اعتدت على إيران.. انها مقاومة وإرادة الشعوب الحرة الأبية.. اللغة الوحيدة التي تفهمها الدولة الاستعمارية الأميركية المارقة.. ودرس جديد لمن يريد أن يعيش بكرامة وعزة ويرفض الخضوع والإذلال.. تجسّده اليوم إيران الثورة.. وقائدها الإمام الخامنئي الذي رفض تسلّم رسالة ترامب او تبادل الرسائل معه لأنه لا يثق بأميركا وعهودها، او ايّ اتفاق معها، بعدما انسحبت من الاتفاق النووي الذي وقعت عليه وتحوّل إلى اتفاق دولي، وأقدمت على شنّ حرب اقتصادية على إيران في محاولة لإجبارها على الجلوس إلى طاولة المفاوضات وإرغامها على تعديل الاتفاق النووي بما يحقق الأهداف الأميركية التي تخدم استراتيجية أميركا الاستعمارية في المنطقة وكيان الاحتلال الصهيوني.. لقد شكلت المواجهة المستمرة بين إيران والولايات المتحدة في الخليج، وإقدام الجمهورية الإسلامية على إسقاط طائرة التجسّس الأميركية لدى اختراقها السيادة الإيرانية ورفضها الامتثال للإنذارات، ومن ثم ارتباك إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، من قرار الردّ على إيران إلى التراجع عن القرار وإطلاق المواقف التي وصلت حدّ التنويه بإيران لعدم إقدامها على إسقاط الطائرة الأميركية الثانية التي كانت تقلّ 38 جندياً أميركياً..
لقد شكل كلّ ذلك تطوّراً لافتاً ذي دلالات هامة، فمن جهة فإنّ إيران ردّت على الخرق الأميركي لسيادتها بإسقاط طائرة التجسّس مما دلل على مستوى القدرات العسكرية الإيرانية وجاهزيتها لمواجهة أيّ عدوان يستهدفها، وأشّر من جهة ثانية إلى انّ إيران ليست لقمة سائغة تستطيع الولايات المتحدة أن تنتهك سيادتها واستقلالها من دون أن تدفع ثمناً باهظاً، ومن جهة ثالثة وجه صفعة قوية للقوة الأميركية زادت من تراجع سطوة وهيبة ومكانة الولايات المتحدة على المستوى الدولي وبين حلفائها، ومن جهة رابعة برهن بما لا يدع مجالاً للشك بأنّ الإمبراطورية الأميركية لم تعد قادرة على فرض سلطانها ومشيئتها، رغم أنها لا تزال أقوى دولة في العالم على المستويات كافة، ومن جهة خامسة كشف بأنّ القوة الأميركية باتت تعاني من العجز وانّ إمبراطورية الولايات المتحدة دخلت في مرحلة الانحدار، وبالتالي دنا استحقاق إقرار واشنطن بأنّ زمن هيمنتها على العالم قد ولى إلى غير رجعة، وأنها إذا كانت تريد تجنّب المزيد من التراجع في مكانتها ودورها، على الصعيد الدولي، عليها أن تقرّ بأنّ العالم لا يمكن أن يُحكم وفق إرادتها وقانونها الاستعماري القائم على الهيمنة والتسلط والإخضاع، وبالتالي عليها أن تقرّ بأنّ العالم قد تبدّل وتغيّر، فلم يعد كما كان عليه بعد الحرب العالمية الثانية، ولا كما أصبح بعد مرحلة انهيار الاتحاد السوفياتي، وتسيّد أميركا على عرش القرار الدولي لفترة من الزمن اختلّ فيها التوازن في العالم.. انّ هذا العالم أصبح اليوم متعدّدا، فبات هناك توازن للقوى عسكرياً واقتصادياً، وبالتالي لم يعد بالإمكان استمرار نظام القطب الأوحد الأميركي، وباتت هناك حاجة ملحة لبناء نظام دولي متعدّد الأقطاب يقوم على احترام ميثاق الأمم المتحدة والقوانين الدولية.. فمهما حاولت واشنطن استعراض قوتها واستخدام سلاح هيمنتها على النظام المالي الدولي الذي تأسّس بعد الحرب العالمية الثانية، فإنّ ذلك لن يقود سوى إلى زيادة تصميم الدول، الرافضة للهيمنة ونظام العقوبات الأميركية، على التكاتف والتعاون لمجابهة نظام العقوبات الأميركي ووضع حدّ له من خلال إيجاد آليات مالية وتجارية تقوم على التبادل بالعملات الوطنية بدلاً من الدولار الأميركي، وكذلك انتهاج سياسة تقلص من الاحتياطات بالدولار لصالح سلة من العملات الدولية..
الأمر الأكيد أنّ تنامي قدرات إيران على مدى 40 عاماً من الحرب الأميركية ضدّ ثورتها الإسلامية التحررية، شكل دليلاً قوياً على إمكانية بناء اقتصادات وطنية متطوّرة، رغم الحصار الاقتصادي الأميركي، ويؤكد أنه يمكن الاستغناء عن العلاقات الاقتصادية مع الولايات المتحدة، واليوم تتوافر لإيران وغيرها من الدول، التي تواجه الحصار الاقتصادي الأميركي، حلفاء أقوياء في العالم مثل روسيا والصين، وغيرهما من الدول التي ترفض سياسة العقوبات الأميركية، مما يسهم في كسر هذا الحصار ويحبط خطط واشنطن لمحاولة استعادة هيمنتها الأحادية، بل ويجعلها مستحيلة التحقق..
لكن الأكيد بأنّ نجاح إيران في التصدّي للحرب الأميركية عليها، اليوم وعلى مدى العقود الماضية، لم يكن ممكناً لولا توافر القيادة الثورية، التي تملك مشروعاً وطنياً تحرّرياً غير تابع سياسياً واقتصادياً لقوى الاستعمار.. وما يقلق الولايات المتحدة وكيان العدو الصهيوني أنّ إيران باتت قوة إقليمية كبرى لم يعد بالإمكان عزلها بعد انتصارات محور المقاومة وتنامي قوته في سورية ولبنان والعراق واليمن، في مقابل تراجع قوة ونفوذ الأنظمة الرجعية وفي مقدّمها النظام السعودي الذي يعاني من تفاقم فشل حربه الوحشية ضدّ اليمن، ومن تزايد كلفة هذه الحرب مادياً وبشرياً وعجز أميركا عن حماية النظام السعودي من الضربات اليمنية في العمق السعودي بوساطة الطائرات المسيّرة والصواريخ..
انّ محاولة واشنطن العودة إلى التركيز على مواجهة إيران عبر الحرب الاقتصادية والتهويل عليها بحشد حاملات طائراتها وسفنها الحربية، بعد فشل حربها الإرهابية الكونية ضدّ سورية، عمود محور المقاومة، لن يقود إلا إلى المزيد من الفشل الأميركي في المنطقة، وتفاقم مأزق القوة الأميركية وكشف عجزها وتراجع هيبتها وسطوتها، وهو ما تعبّر عنه مواقف وتصريحات ترامب المتناقضة والمتخبّطة والمضطربة…
بقلم/ حسن حردان
كاتب وإعلامي
كتاب بناء2019-06-24