«من يفز في إسطنبول، يفز بتركيا»... هكذا قال الرئيس التركي رجب طيب إردوغان ذات يوم سابق، ولعلّه سيتذكر هذا القول بمرارة بعد «الضربة الموجعة» التي تلقّاها في هذه المدينة، بهزيمة حزبه ومرشحه فيها، وفوز مرشح «حزب الشعب الجمهوري» المعارض، أكرم إمام أوغلو، في انتخابات الإعادة لرئاسة بلديتها (23/6)، بفارق واضح وصل إلى نحو 800 ألف صوت، مقارنة بـ 13 ألفاً في المرة الأولى، أو بقرابة 54 % من الأصوات مقابل 46 % لمرشح الحزب الحاكم بن علي يلدريم، رئيس الوزراء السابق.
مغزى الهزيمة؟
ويكمن إذلال الهزيمة في كون أردوغان وحزبه «العدالة والتنمية»، عملا المستحيل من أجل إعادة الانتخابات، بعدما طعن بنتائج الاقتراع الأول الذي نُظم في 31 آذار/ مارس الماضي، بحجة «حصول مخالفات». ما يعني أن الهزيمة بمثابة «رسالة مباشرة إلى الرئيس التركي بأن زمن انتصاراته قد ولّى، وأن الشعب التركي لم يعد ينخدع بشعاراته ووعوده مع تراكم الأزمات الاقتصادية والسياسية والأمنية في البلاد»، كما خلص كثير من المحللين.
وقد أثارت هذه الهزيمة تساؤلات عدة بشأن تداعياتها وانعكاساتها مستقبلاً، إذ أنّ خسارة إسطنبول؛ بدلالاتها المادية والمعنوية (الرمزية)، لا تعني مجرد خسارة السيطرة على أكبر مدينة في تركيا ومركز الثقل الاقتصادي فيها فحسب، بل تشير جلّ التقديرات إلى أن الهزيمة فيها ستترك أثرها على قواعد وأنصار الحزب الإسلامي في تركيا، في وقت تُعدّ فيه إسطنبول بمثابة «المحرّك المُشغّل للماكينة الدعائية لحزب العدالة والتنمية»، وخاصة بعد أن استأثر بها لفترة طويلة مكّنته من تقوية قاعدته الشعبية والانتخابية فيها.
يُذكر هنا أنّ منصب رئيس بلدية إسطنبول كان نقطة انطلاق مسيرة العمل السياسي لأردوغان نفسه، وإذا تمكن إمام أوغلو (49 عاماً) من أداء مهمته بشكل جيد فيها، فقد يجد الرئيس نفسه حينئذٍ أمام «منافس» في المستقبل.
«القلب الاقتصادي» لتركيا
والحال، فإنّ إسطنبول تمنح رئيس بلديتها موارد ضخمة تصل إلى عشرات المليارات من الدولارات، فضلاً عن أنها منصّة سياسية من الدرجة الأولى، حيث يقطنها 15 مليون نسمة، أي نحو خُمس عدد سكان تركيا البالغ 82 مليون نسمة. ووفقاً لبعض التقديرات، فإن المدينة تستوعب رُبع إجمالي الاستثمارات العامة، وتمثل ثلث اقتصاد تركيا الذي يبلغ حجمه 748 مليار دولار.
وهناك من يعتبر أنّ إسطنبول هي «صورة مصغرة لتركيا»، ففيها ولد حزب العدالة والتنمية حتى ارتقى إلى ما وصل إليه، وبالتالي فإنّ تراجع الحزب الحاكم في هذه المدينة على رغم استغلاله المقيت لسلطاته، وتوجيه آلة الإعلام لصالحه، يُعدّ «إشارة إلى بداية النهاية لأردوغان»، كما قال كثيرون.
وثمة من ربط هزيمة الحزب الحاكم في هذه المدينة، بالتراجع الاقتصادي الذي تشهده تركيا في السنوات الأخيرة، (متمثلاً في تراجع العملة التركية وإفلاس عدد من الشركات، وارتفاع معدّل البطالة، واحتمال حدوث كساد.. الخ)، بل وهناك من ذهب حدّ الحديث عن فشل «التيار الأوراسي الاقتصادي»، (توصياد)، المكون من رأسماليّي الأناضول، الذي صعد بالتوازي مع صعود التيار الإسلامي بقاعدته الانتخابية المحافظة، مقابل، عودة نهوض التجمع التقليدي للرأسمال التركي الليبرالي، (موصياد)، مستغلاً الأزمة الاقتصادية، حيث حشد قواه المدينية، والقوى العاملة، إضافة إلى كتلة كبيرة من الناخبين الأكراد.
موقف الكرد
ولعب الناخبون الأكراد البالغ عددهم الملايين في إسطنبول، دورا كبيراً في فوز إمام أوغلو، وسط غضبهم وسخطهم من قمع الحكومة للنشطاء الأكراد، ورمي الحزب الرئيسي الموالي للأكراد، بثقله خلف مرشّح المعارضة، حيث برز علمه بشكل واضح في احتفالات الفوز.
ووُصفت ألاعيب أردوغان و«مكائده» الانتخابية، بأنها ساهمت في أن «ينقلب السحر على الساحر»، ذلك أنّ آماله التي عقدها على استمالة الزعيم الكردي السجين، عبدالله أوجلان، ودعوته لأنصاره بالتزام الحياد، انقلبت عليه وأدّت إلى انفضاض حلفائه من «حزب الحركة القومية» اليميني المتشدّد من حوله، وتصويت قسم منهم لمرشّح المعارضة، «انتقاماً» منهم لمهادنته المفترضة للأكراد، ومحاولته مسايرتهم عبر السماح لزعيمهم أوجلان بلقاء محاميه، وإرسال رسائل إلى أنصاره.
اهتزاز
وتوقع محللون أن تسعى قيادة حزب العدالة والتنمية إلى التقليل من أهمية الانتخابات، والتصرّف وكأنها «ليست بالأمر المهم». وفي المقابل، شدّد آخرون على أن أردوغان سيكون «أضعف من ذي قبل»، بعد أن «اهتزت صورة رجل تركيا القوي»، وعادت كلمة «خسارة» إلى حساباته السياسية، بعد أن غادرتها منذ سنوات، مُرجّحين أن يواجه منافسة قوية داخل حزبه، وسط معلومات تفيد بأن قياديين سابقين في الحزب، (بينهم الرئيس السابق عبدالله غل ورئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو)، سيعاودون نشاطهم السياسي، وبأنهم يدرسون تأسيس حزب جديد، علماً أنّ غل وأوغلو كانا انتقدا قرار إعادة انتخابات بلدية إسطنبول.
صعود إمام أوغلو
أما بالنسبة لإمام أوغلو فقد تحوّل بعد حرمانه من الفوز في المرّة الماضية، من سياسي مغمور إلى «أمل» كانت تبحث عنه المعارضة منذ عقود، ومنافس جدي لأردوغان، على رغم شيوع تكهنات بأن الأخير سيعمد إلى عرقلة مهمات إمام أوغلو في البلدية، إذ أن «العدالة والتنمية» يسيطر على غالبية المقاعد في المجلس البلدي.
وقال مراقبون: «لقد تحول إمام أوغلو إلى قائد وطني ملهم، وأمام أردوغان مهمة صعبة لتحييده»، دون تحويله إلى شهيد و«التسبب عن غير قصد في زيادة شعبيته». وكان أوغلو قد وعد «ببداية جديدة» في إسطنبول، وعبر عن رغبته في العمل مع الرئيس أردوغان، وتعهد باحتضان سكان إسطنبول جميعهم دون أي تمييز، وبـ«بناء الديمقراطية ومستقبل أفضل في المدينة وإتاحة المجال أمام حقبة من السياسات الأخلاقية».
بقلم/ فيصل علوش