عقد مركز مسارات على مدار يومين مؤتمره السنوي بعنوان "القضية الفلسطينية: مسارات المستقبل وإستراتيجيات التغيير"، وكان خطوة إلى الأمام في استخدام تقنيات الدراسات المستقبلية والتفكير الإستراتيجي، الذي شرع المركز في استخدامه منذ سنوات، ويعمل من أجل إحداث قفزة نوعية في أقرب وقت ممكن في هذا الاتجاه.
حددت الورقة المفاهيمية للمؤتمر ضرورة التزام الأوراق المقدمة بمنهجية استشراف المستقبل وتحليل السيناريوهات المتوقعة والعوامل والمتغيرات ذات التأثير على اتجاه المسار أو المسارات التي تؤدي إلى كل منها انطلاقًا من الوضع الراهن. واقترحت الورقة أربعة سيناريوهات، هي: سيناريو استمرار الوضع الراهن، وهو غير مرجح، وسيناريو العودة إلى أوهام التسوية، وهو مستبعد، وسيناريو الاستمرار بفرض حلول أحادية بالقوة، عبر فرض الوقائع على الأرض، والسعي لخطوات أكبر في مجال الاستيطان والضم، وربما التهجير، وهذا السيناريو محتمل الحدوث، بل يجري تطبيقه حاليًا، وأخيرًا، سيناريو الخلاص الوطني، وهو الخيار المفضل، ويجب العمل على تحقيقه. وطلبت الورقة من معدي الأوراق دراسة كل من هذه السيناريوهات على مدى السنوات القليلة القادمة، وتفاوتت الأوراق بالالتزام بهذه المنهجية، وتوفير مستلزماتها العلمية وغيرها.
هذه المحاولة مهمة بحدّ ذاتها، وهي تفكير خارج الصندوق، إذ اعتادت النخبة الفلسطينية، وخصوصًا السياسية، على التفكير في سيناريو واحد، والإصرار على أنه الوحيد، أسود أو أبيض، وعادة ما يكون ذلك مبنيًا على التنبؤ والتنجيم والخبرة والحدث والتخيّل، بلا معطيات أو منهج بحثي علمي يربط ما بين استشراف المستقبل وعملية التخطيط للتأثير على مسار الأحداث بما يخدم تحقيق الخيار المفضل.
ولو أخذنا السلطة على سبيل المثال، حيث كان محورًا أساسيًا من محاور المؤتمر بعنوان "مستقبل السلطة ما بين البقاء والانهيار"، نرى أن هناك من يطالب بحل السلطة أو انهيارها، من دون أن يقف أمام الاختلاف بين الحل والانهيار. فحل السلطة يعد قرارًا إراديًا يجب أن يكون مبنيًا على دراسات دقيقة تضع ماذا يجري في اليوم التالي لحل السلطة بالحسبان، خصوصًا لجهة ضرورة بناء البديل عنها حتى لا تحل محلها الفوضى والفلتان الأمني وتعددية السلطات، مثلما حصل في أواخر الانتفاضة المجيدة الأولى، التي قد تتحول هذه المرة إذا حدثت إلى سلطات/إمارات متعددة، تتنافس مع بعضها البعض وتكون مرجعيتها الاحتلال.
أما الانهيار فهو سيناريو مرفوض، ويحدث نتيجة تضافر عوامل متعددة، داخلية وخارجية، أو جرّاء مسعى مقصود من الاحتلال، أو نتيجة لتبلور وضع لا تجد فيه السلطة القدرة على توفير الأموال وفعالية المؤسسات، وتقديم الخدمات، وفقدان ما تبقى لها من الشرعية، أو نتيجة المواجهة مع الاحتلال الذي سيرفض بشدة تحويل السلطة من سلطة مقيدة بالتزامات مذلّة إلى سلطة مجاورة للمقاومة، وأداة من أدوات المنظمة الموحدة، تسعى لتوفير مقومات الصمود والتواجد البشري الفلسطيني على أرض فلسطين.
إن تناول موضوع السلطة بشكل متكامل يشير إلى أن الاحتمالات لا تقتصر على بقاء السلطة أو انهيارها أو حلها، بل يمكن أن تبقى كما هي الآن سلطة ضعيفة، ويمكن أن تعود إلى ما كانت عليه بعيد توقيع اتفاق أوسلو، أي أقوى مما هي عليه الآن، أو تصبح أضعف بعد نزع ما تبقى لها من دور سياسي، وبالتالي تقبل بـ"صفقة ترامب"، أو تشق الطريق لإنهاء الاحتلال وتجسيد الدولة.
يرفضُ نمطُ التفكير السائد وضع كل هذه الاحتمالات، بل دأب على التركيز على احتمال واحد، وبالكثير على اثنين وإهمال الاحتمالات الأخرى. فهناك من يرى أن حل الدولة الفلسطينية انتهى تمامًا، وأن انهيار السلطة أو حلّها حتمي، أو أن الدولة الواحدة قامت، أو هي الخيار الوحيد الآن، وهناك من يرى أن البديل عن الاستقلال الوطني للدولة الفلسطينية هو إسرائيل الكبرى، التي تضم الأرض من دون السكان.
أما منهج الدراسات المستقبلية، فيرى ضرورة دراسة كل السيناريوهات، حتى الذي يبدو مستحيل الحدوث، لدرجة سميت بعض السيناريوهات بسيناريو المعجزة أو الكارثة، وحددت نسبة 5% لكل منهما، وتوصلت إلى إمكانية حدوثها إذا حدث ما يسمى "الحوادث الشاردة"، ما يفرض على مثل هذا النوع من التفكير أن يضع أسئلة ماذا لو حدث كذا رغم أنه يبدو مستحيل الحدوث، وماذا لو لم يحدث كذا رغم أنه يبدو مؤكد الحدوث، لدرجة أشار أساتذة الدراسات المستقبلية إلى أن العديد من القادة العسكريين العظام قالوا إننا كنّا نضع الخطط على أساس أن العدو سيهاجمنا من الجهات الأربعة، لنفاجأ أنه هاجمنا من جهة خامسة لم تكن بالحسبان.
وحتى ندرك أهمية ما سبق علينا أن نتذكر الأخطاء التي ارتكبت في المسيرة الفلسطينية السابقة، إذ تمّ التركيز في البداية على المقاومة المسلحة، وأهملت أشكال العمل والنضال الأخرى بشكل كبير، ثم تم الانتقال إلى المفاوضات كأسلوب وحيد وإلى الأبد، إلى أن بدأنا الانتقال بتردد إلى الجمع ما بين أشكال النضال والعمل السياسي، بحيث يمكن ممارسة أشكال عدة في وقت واحد، أو ممارسة شكل وتجميد شكل آخر ثم العكس، والجمع ضروري في كل الأحوال، فالمقاومة تزرع والسياسة تحصد، مع أن هناك من لا يزال يعتقد أن المقاومة المسلحة هي وحدها التي تجدي، لدرجة التساؤل عن جدوى المقاطعة، رغم أنها الآن أكثر ما يقلق إسرائيل جراء الخسائر المادية والمعنوية والأخلاقية التي تسببها.
قدّم مؤتمر مسارات بروفة أفضل من سابقاتها أكثر جدية وعلمية، مع أنها لم تصل إلى المستوى المطلوب بعد، لأنها بحاجة إلى استخدام المعلومات بصورة أكبر، في ظل صعوبة الحصول عليها، إضافة إلى تعزيز التحليل بمؤشرات علمية، على طريق إرساء هذا العلم والفن (الدراسات المستقبلية)، حيث اختلف العلماء على وصفها، فهناك من اعتبرها علمًا وهناك من اعتبرها فنًا، وهناك مع يعدّها علمًا وفنًا في الوقت نفسه، لذلك أخذ بعض مراكز الأبحاث المعنية بالتفكير الإستراتيجي يربط ما بين استشراف المستقبل والرؤية التي تستند إلى عنصر التخيل أيضًا، الذي يعزز الرؤية بتصورات حول ما يجب أن يكون عليه المستقبل، ولذلك تضم إلى طاقمها أدباء وفنانين للاستفادة من قدرتهم على التخيل الذي من دونه لا يمكن التوصل إلى استشراف المستقبل والاستعداد للتأثير عليه، فنحن لا ندرس لكي نتعلم فقط، أي معرفة من أجل المعرفة، بل من أجل وضعها في سياق يخدم أهداف الشعب الفلسطيني وأحلامه.
تأسيسًا على ذلك، لا حظنا أن مختلف الأوراق وهي تضع مختلف السيناريوهات ركزت على السيناريو المفضل، وهو سيناريو الخلاص الوطني، ورأت أن هناك من العوامل ما تزكيه، ودعت إلى العمل قبل فوات الأوان لتوفير مستلزماته وإلا سيحدث السيناريو الأسوأ أو السيئ.
ولأول مرة تميّز مؤتمر مسارات هذا العام بأنه وفّرَ مِنصَّةً للشباب، إذ شارك حوالي 20 شابًا وشابة عبر مجموعات في إعداد الأوراق حول مختلف محاور المؤتمر، وفي تقديم المداخلات الرئيسيّة، وكانوا على مستوى الحدث، وهذا الأمر أصبح ممكنًا بعد أن أولى المركز اهتمامًا خاصًا بالشباب بوصفهم أصحابَ الطاقةِ والكفاءةِ والإبداعِ وأملَ المستقبل.
فقد شارك في إعداد وإصدار الأبحاث السياساتية والأوراق الصادرة عن مركز مسارات منذ تأسيسه في العام 2011 أكثر من 150 شابًا، كما خرّج المركز أربعة دفعات (90 خريجًا وخريجة) من برنامج التفكير الإستراتيجي وإعداد السياسات، ويستعدُ لتخريج الدفعة الخامسة في الشهر القادم.
وقد شارك في هذا البرنامج منذ إطلاقِه في العام 2015، 120 شابًا وشابةً، حصلوا على مهاراتٍ ومعرفة، وأنتج كلُ واحد منهم ورقةَ تقدير موقف، وأنتجوا عبر مجموعات أوراقَ تحليل سياسات وأوراقَ حقائق، وكلهم أعضاءٌ طبيعيون في منتدى الشباب الفلسطيني للسياسات، الذي يشرف عليه مركز مسارات، والذي يواصل العلاقة ما بين الشباب الخريجين ببعضهم البعض وبالمركز، كما يتيح لهم الفرصة لإنتاج أوراق بحثية تخضع للمراجعة والتحكيم مقابل مكافآت أسوة بالكتاب والباحثين المحترفين.
بقلم/ هاني المصري