أربع سنوات بعد المئة: شيخ فلسطيني كشف أهم أسرار طول العمر قبل رحيله

 المسن الفلسطيني علي أبو حسين، المكنى "القاضي"، من قرية عرابة البطوف داخل أراضي 48 ، تناوبت على حكم بلاده فلسطين ثلاث دول بعدما كان ولدا في الحقبة العثمانية، وعايش الانتداب وما نتج عنه.
خرج الحاج علي حسين المعروف بالقاضي إلى النور في نهايات الحكم العثماني، لكنه ظل حتى يومه الأخير صافي الذهن، مدخرا مساحة من روح الدعابة والمزاح. وقد سمي بالقاضي لإلمامه بالشرع والدين. كانت صحيفة "القدس العربي" اللندنية قد زارت الراحل أبو حسين على فنجان قهوة سادة داخل منزله في عرابة البطوف، فتجاذبنا أطراف الحديث، فغرف من بحر ذاكرته ولم تثقل عليه الشيخوخة سوى ثقل السمع، لكن القدر شاء أن يرحل قبل نشر أقواله.
في اللقاء تحفظ من رغبة أحفاده في الاحتفال بعيد ميلاده المئة والأربع سنوات. كعادته، يصد أبو حسين دعوات ذريته (100 ولد وحفيد) الاحتفالية الملحاحة بـ "خفة دم" وتودد، لافتا إلى أن الاحتفالات تلفت النظر وتستدرج عين الحسد. وأضاف مازحا " الله يعينا على المية الثانية".
وكانت ذاكرة  أبو حسين الذي شهد أواخر الحكم العثماني في فلسطين فولاذية تساعده على استعادة أيام الانتداب الإنكليزي، فقال إن أعزها على قلبه هي فترة الثورة الكبرى عام 1936 التي شارك فيها ولا يزال فخورا ببندقيته " الألمانية". وأضاف "والله كانت رصاصاتها تصدر كزغرودات النساء ولكن خسارة افتقدنا للذخائر والقيادة".
وتمتع بصفاء الذهن وبصحة ممتازة إلى درجة أنه لا يذكر أنه زار عيادة طبيب عدا طبيب العيون، وربما ساعدته بنيته النحيفة في درء مخاطر الأمراض، كاشفا أحد أهم "أسرار" طول العمر" الاستعانة بالفكاهة والمزاح وتحاشي تسرب الزعل إلى القلب، والعمل بالأرض". لكن الأيام نالت من قدرة أبو حسين على السمع حيث كان يرد على أسئلتنا بمساعدة ولده الشيخ أبو غسان (82 عاما) الذي كان يتحدث إليه عن قرب ليظهرا الى جانب بعضهما البعض كصديقين لا كوالد وولده بفعل توالي السنين التي صبغتهما بلون الشيخوخة.
ورغم تلاشي الفوارق المظهرية بين الأب والابن، كان الأول ما زال يتحدث للثاني بلغة الأمر والنهي، حيث اهتم بإصدار تعليماته في ختام اللقاء بضرورة إعداد وجبة العشاء للضيف كما تقتضي "التقاليد الاجتماعية". واغتنم أبو حسين فرصة زيارتنا له للسؤال عما إذا كانت الطريق الى مدينة جنين مفتوحة كي يزور طبيب العيون والحصول على نظارة جديدة. ولفت إلى انه دأب قبل النكبة وبعدها على زيارة جنين وتأمين احتياجاته منها. وأضاف مبتسما " دكاترة العيون هون مش نافعين". وأثنى على النظارة الزجاجية كونها تعينه في قراءة القرآن الكريم، والى جانب سريره كانت مكتبته الخاصة مليئة بالكتب، ومنها "لسان العرب" وديوان أبو فراس الحمداني و"طبقات الشعراء". وعلى أحد رفوف المكتبة احتفظ أبو حسين بالأجهزة الواقية من الغازات الكيميائية التي كانت وزعتها السلطات الإسرائيلية يوم قصف الرئيس صدام حسين إسرائيل بالصواريخ عام 1991. ولما سئل عن سر الاحتفاظ بها رغم زوال نظام البعث العراقي واعتقال صدام حسين خلف القضبان والأقفاص قبل إعدامه، قال أبو حسين محدقا بنا بعينين بارقتين كأنه يستشرف الآتي  إنه يعتقد بأن الحاجة لها لا تزال قائمة، معلقا "شو بعرفك الأيام دول..".
وطيلة حياته استهل أبو حسين يومه بالاستيقاظ مبكرا للقيام بصلاة الفجر وقراءة بعض الآيات القرآنية وتناول وجبة الفطور المكونة من الألبان وزيت الزيتون وخبز القمح والعسل. أما وجبة الغداء المحببة على قلبه فهي الحساء والأكلة الفلسطينية الأكثر شعبية "المجدرة" التي تعرف بطعام الفقراء، فيما يستنكف أبو حسين عن تناول الأطعمة أثناء الليل.
أما السيجارة فهي ألد أعداء الرجل الذي يفاخر بأنه لم يلتق بها ولو مرة واحدة في حياته المطولة واهتم بإيقاع الفرقة بينها وبين أولاده الأربعة حتى اليوم.
واستذكر أبو حسين أيام النكبة وقيام الصهاينة باعتقال 84 أسيرا من قريته عرابة وإيداعهم في معتقلي عتليت وصرفند جنوب حيفا لمدة تسعة شهور خلال نكبة 1948، لافتا إلى عمليات التجويع والتعطيش التي تعرض لها آلاف الأسرى من الفلسطينيين والعرب. وأضاف "استخدم اليهود الجوع والعطش والضرب من أجل إقناعنا بالرحيل، إذ خيرونا بالبقاء في المعتقلات بشروط قاسية وإما الإفراج عنا والذهاب إلى الأردن، يعني التهجير".
وعن الاعتقالات في عرابة قال إن الجنود الإسرائيليين دخلوا عرابة البطوف وقاموا بتفتيشها وطلبوا بنادق واعتقلوا العشرات. وتابع "أخذونا في 29.10.48 إلى مستوطنة نهلال وتركونا بلا أكل. عند الساعة السابعة أو الثامنة حشرونا في باص وأخذونا ومعنا المختار. كانت درجة الحرارة مرتفعة وكان المختار صديقي فطلب مني  التزام الصمت كي لا يطلقوا النار علينا لكني طلبت ماء للشرب فأتوا بفنجان ماء لكل واحد. جعنا فجاء القائد وأبلغنا أن الطعام "على الطريق وكانوا يقدمون رغيفا لكل اثنين".
ويستذكر أنه عمل داخل المعتقل مسؤولا في المطبخ، وظل معتقلا خمسة شهور في عتليت وفي تل لفينسكي حيث تم اعتقال 100 جندي أسير من مصر منهم واحد برتبة ميجر". وتابع "زارنا وفد من الصليب الأحمر من خمس دول فسألوني: هل أنت مبسوط هنا؟ فقلت: لا.. فقال: أنت مبسوط .. الآن رأيتك تشارك في دبكة مع زملاء لك، فقلت: لو كنت مكاني كيف تكون مبسوطا وأنت بعيد عن زوجتك وأولادك؟ هذه الدبكة كي نبقى صامدين ولا نموت هّما وغمّا.. فقالوا: شهر شهرين وستعودون لبيوتكم".وأوضح أن الأسرى كانوا يبعثون رسائل إلى عائلاتهم للاطمئنان عليهم ومحاولة مساعدتهم في تقديم طلبات لم الشمل لمن نزح وطرد  الى الخارج. وتابع "وكان أهل بلدة الرامة في الجليل يساعدون الأسرى في الكتابة. في رسالة بعثتها لابني حسين قلت فيها سلام وكلام وبعدين قلت: اسع في طلب الرزق وتوكل على الله".
ويستذكر أبو حسين قيام أحد الحراس في معسكر " عتليت "بإطلاق النار على أسير من قرية فراضية المهجرة قضاء صفد " وخوفا من ردة الفعل أجبرونا على دخول الخيم الخاصة بنا تحت تهديد السلاح". كما يستذكر أن "بعض الأسرى حفروا  تحت أسلاك المعسكر وهربوا من تحت أنف الحارس صاحب الناظور".
ونوه إلى انه ساهم في إقناع الأسرى بمواجهة السجانين في المعتقل عام 48 بالإضرابات والاحتجاجات أمام الصليب الأحمر رغم حملات التهديد والوعيد حتى صارت المعاملة أكثر إنسانية إلى الإفراج عنهم. ويقول إنه بعدما أطلقوا سراح الأسرى خططوا لمنحهم إقامة مؤقتة فكنت ممن دعوهم للرفض وللمطالبة ببطاقات هوية حفاظا على البقاء ومنعهم من الطرد. وأضاف "فقدموني الى محكمة  في حيفا فقلت للقاضي: أنظر هذه قصاصة ورق.. أعطونا إياها… نحن مواطنون ونريد هويات وهكذا حصل".

المصدر: الناصرة- وديع عواودة -