قرأتُ ملحمتي الإلياذة والأُوديسة للشاعر اليوناني القديم " هوميروس" مرات عديدة في ترجماتها العربية ، فكان أولها منذ أكثر من أربعين سنة عندما كنتُ طالباً بجامعة الإسكندرية ، وكان آخرها منذ أيام معدودات. استوقفتني قصة طريفة في الأوديسة أطرفتني ، فأحببت أن أُطرفكم بها - أيها الأصدقاء.
في ملحمة الأوديسة يصف لنا الشاعر الخالد " هوميروس " رحلة العودة لأحد أبطال إسبرطة (الإغريق) وما أصابه هو ورفاقه الشجعان من شدائد ومعاناة وهم يصارعون الموت من أجل البقاء والرجوع إلى الزوجات والأولاد. هؤلاء الأبطال الذين انتصروا على أعدائهم بعد أن تمكَّن أخيليوس بطل الإغريق من قتل هكتور بطل طروادة في مبارزة حامية. واستطاع الإغريق الإسبرطيون فتح طروادة والاستيلاء عليها بدخولهم إليها في بطن حصان خشبي ضخم اختفى في جوفه جماعة من خيرة أبطال الإسبرطيين المقاتلين؛ عُرف في التاريخ بـ (حصان طروادة) وهي حيلة عسكرية من بنات أفكار الإلهة " أثينا " التي كانت تناصر الإسبرطيين - الإغريق . فقَتل الإسبرطيون كثيراً من خصومهم ودمروا طروادة وأشعلوا فيها الحرائق. فانقسم آلهة جبل الأُولمب على أنفسهم بمن فيهم كبيرهم الإله الأكبر " زيوس "، فمنهم المؤيد للإسبرطيين ومنهم المناصر والداعم للطرواديين .
ركب البطل " أوديسيوس " وعدد من خيرة رفاقه أبطال الإغريق سفينتهم التي تجري بهم وهي تمخر عباب البحر وتتقافز فوق أمواجه تدفعها الرياح الهادئة الحنون بكل أمان واطمئنان . ولكن عدوهم اللدود ، رب البحار " نيبتون " الذي لم يرُق له ما جرى لطروادة ، قد ثار عليهم ؛ وأثار الرياح العاصفة ضدهم ، واستنهضَ همة الأمواج وغضبها لإهلاكهم ، فتحطمت ألواح السفينة ، وغرق منهم بعضهم .
نشط " أوديسيوس " والآخرون الأحياء يصارعون الموت من أجل البقاء ، فأصابهم الإعياء وشارفوا على الموت وكادوا يغرقون جميعاً لولا تدخُّل (رب النسيم العليل) الذي نفث من جعبته هذه الأنفاس المنعشة التي جلب نسائمها من فوق سطوح بحر " إيجة " فأحيا بها الغرقى وأنقذهم من الهلاك المحقق. وكان اسم رب النسيم " زفيروس " .
استوقفني هذا الاسم وأبحرتُ أنا الآخر في اجتهادي باحثاً عن علاقة تربط بين الزفير وهو إحدى عمليتي التنفس (الشهيق والزفير ) وبين اسم الإله " زفيروس " ، فعثرت من خلال رصدي لهذه الكلمة أن هذا الزفير الذي نفثه رب النسيم " زفيروس " ليس كزفير الإنسان والحيوان المشبع بثاني أوكسيد الكربون الخانق القاتل ، وإنما هو زفير عناصر الطبيعة : كالبحار والأنهار ومياه الينابيع والأشجار وسائر النباتات ، فزفير الطبيعة مشبع بأوكسيد الحياة وهو الأوكسجين الذي يداعب الروح وينشِّط عضلة القلب وينقي الدم الذي يجري في الأوردة والشرايين ، فيمدُّ الأحياء بالحياة ويبعد عنهم خطر الموت بتلوث الهواء وفساد نقائه .
لم أكتفِ بهذا القـدر من المعلـومات، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك ، فرُحتُ أفتش في قـواميس
اللغة الإنجليزية علني أجد ضالتي . فوجدت فيها عجباً هدَّأ من روعي وأشبع نهمي وأراح عقلي حين قرأتُ هذه الكلمة ذاتها ومشتقاتها في بعض ما لدي في مكتبتي المتواضعة من قواميس إنجليزية، وأخص بالذكر قاموس المورد : ( انجليزي - عربي) ، و قاموس الـ advance (انجليزي - انجليزي) - وهو يضاهي قاموس oxford من حيث الكم والكيف - فرصدتُ فيها الآتي من الالفاظ وتتبعتُ معانيها :
الزفيران : مادة مُطهِّرة ( zephiran ) .
الدَّبُور : الريح الغربية ، النسيم العليل (zephyr ) .
الزَّفير : إحدى عمليتي التنفس وهو إخراج الهواء من الرئتين ( zephyr ) .
الدَّبُور : وهي الريح الغربية الآتية من فوق البحار وسائر المياه ( zephyrus ) .
أي : النسيم العليل الصادر من جهة الغرب ، وهي المقابِلة لريح الصَّبا (بفتح الصاد) التي تهب من الشرق ، وزفيروس (zephyrus ) هذا هو رب النسيم في الأُوديسة . وليس غريباً انْ نجد كلمة زفير العربية مأخوذة من أصلها في اليونانية ، فهناك غيرها الكثير من الألفاظ الدخيلة على لغتنا العربية جاءت من أصول لاتينية وسنسكريتية وطورانية ، ومما يُعرف باللغات الهندو - أوروبية . فدخلت هذه الألفاظ الأجنبية إلى اللغة العربية نتيجة لاحتكاك العرب بتلك الأقوام عن طريق التجارة سواء قدومهم إلى بلاد العرب أو سفر العرب إلى بلادهم والاختلاط بهم ، فكان التأثير العربي فيهم والتأثر بهم ، ومن هنا نشط علماء العربية لمواجهة الدخيل من الألفاظ التي يفتقدونها ويحتاجون إليها في حياتهم اليومية وخاصة المسميات ، فأدخلوها في لغتهم وِفق نظامهم اللساني وطوَّعوها حسب النظام الصوتي العربي ، فدرجت على ألسنتهم وصارت من حيث الاستعمالات اللسانية كلمات عربية فصيحة . وإننا لواجدون بعض مفرداتها في القرآن الكريم وهو أكرم مصدر وأصدق مرجع الذي أنزله الله على رسوله(ص) بلسان عربي مبين، قال تعالى : " فأما الذين شَقُوا ففي النار لهم فيها زفيرٌ وشهيق " 106 هود . و " لهم فيها زفيرٌ وهم فيها لا يسمعون " 100 الأنبياء . و " إذا رأتْهُم من مكان بعيد سَمعوا لها تغيُّظاً وزفيرا " 12 الفرقان. فرخَّص لها نُزُولُها - هي وغيرها كثير - في القرآن الكريم أن تكون ألفاظاً عربية ، مثل: الصراط (من أصل لاتيني strata ، ومن اللاتينية الأُم إلى ابنتها الإنجليزية street)، والإبريق والسندس والإستبرق والزنجبيل والكافور والكأس والفردوس وجهنم ..... إلخ . كما نجدها في أشعار فحول الشعراء الجاهليين أمثال إمرئ القيس ، الذي ورد في معلقته لفظة السجنجل وهي كلمة لاتينية دخيلة تعني المرآة ذات الزوايا الستة (سكس أنجلوس) فحوّرها العرب حسب نظامهم الصوتي فكانت : السَّجَنْجَل، وغير ذلك كثير يعرفه دارسو فقه اللغات المقارن وعلم الصوتيات . ا هـ .
... وبعد ، فإني أعتذر من المتخصصين في اللغة الإنجليزية وآدابها إن كنت قد تعديتُ عليهم واخترقتُ مجالهم ، أو إن كنت قد أخطأتُ في شيء مما ذُكِر ، فما أنا إلا مجتهد أخطئ وأُصيب ، كما أعتذر من أصدقائي عن الإطالة ، ولكن مُجْرَيات البحث فرضت عليَّ ذلك . نفعنا الله وإياكم بكل ما فيه غذاءً للروح ونشاطاً للعقل معاً وسوياً . ودمتم . *
بقلم/ عبدالحليم أبوحجاج