نمر في غزة بشارع طويل يحمل اسم " مصطفى حافظ " تخليدا لذكراه، ونرى مدرسة بنات في الرمال بغزة وأخرى للبنين في خانيونس تحمل كلتاهما اسمه إلى يومنا هذا، اعترافاً بوطنيته وتمجيدا له ولبطولاته التي يجهلها الجيل الحالي ولا يعرف عنها وعن صاحبها شيئاً. فإننا في هذه المقالة نستنشق نفحات سيرته العطرة على مسرح الحياة، ونذكَّر به أولادنا وبناتنا ليتجدد خلوده في ذاكرتنا التاريخية ووجداننا الوطني، وهو أقل الواجب علينا وفاء لهذا البطل العربي المصري شهيد فلسطين، إنه: الضابط مصطفى حافظ الذي أرسلته القيادة المصرية إلى غزة 1954 بعد أن رُقِّي إلى رتبة صاغ (رائد) ليتولى إدارة المخابرات المصرية بقطاع غزة، فكوَّن أول كتيبة فدائية عُرفت بـ (كتيبة 141 فدائيون)، وقد أشرف بنفسه على انتقاء رجال كتيبته من بين المسجونين في سجن غزة بتهمة اجتياز خط الهدنة، وآخرين من العارفين بجغرافية فلسطين، وكان عددهم سبعمئة فدائي من خيرة الرجال الصناديد الذين تم تدريبهم الأولي بغزة، ثم أُرسِلوا إلى مصر لتلقي تعليمهم العسكري العالي هناك، ليواجَه بهم غارات الوحدة رقم 101 العسكرية الإسرائيلية التي شكلها "أرئيل شارون" لشن غاراته على الفدائيين الفلسطينيين والانتقام منهم، بُغية رفع معنويات السكان والجنود الإسرائيليين الذين أُصابهم الذعر والهلع بعد أن أوجعتهم ضربات الفدائيين في شتى مفاصلهم. لم ينجح شارون في مهماته، ولم يفلح في القضاء على كتيبة الفدائيين، فأصدر رئيس الوزراء "ابن جوريون" أمره إلى " موشى دايان" رئيس أركان الجيش الإسرائيلي بالتخلص من مصطفى حافظ؛ الضابط المخطط والمُدبِّر الأول لعمليات (الإرهابيين!)، والمسؤول الأول عن ضربات الفدائيين الدامية التي أوجعت خاصرة الأعداء، وأقضُّت عليهم مضاجعهم. فأسند موشى دايان هذه المهمة لجهاز المخابرات الإسرائيلية الذي أرسل له طرداً ملغوماً مع عميل مزدوج، وما إن فتح مصطفى حافظ الطرد حتى انفجر به اللغم مساء 11/7/1956، فأودى بحياته وحياة اثنين من ضباطه الأكفاء أحدهما فلسطيني، وإصابة آخرين. وارتقى هو إلى جوار ربه ليلة 12/7/1956 في مستشفى تل الزهور بغزة عن عمر يناهز الرابعة والثلاثين عاماً. ولكن الشهيد وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة برَّأ ساحة العميل المزدوج من تهمة التآمر عليه والخيانة به، ولكنَّ مجموعة من الفدائيين لم تبرئه وقتلته.
وبهذه المناسبة تحضُرني قصة واقعية حدثت فعلا لمجموعة من أبطال (كتيبة 141 فدائيون). وكانت بدايتها في الهزيع الأخير من ليلة من ليالي إبريل 1956 إذ سمعتْ أم العبد (أُمي) طرقاً خفيفاً على الشباك الخارجي المصنوع من الصفيح، فاستيقظتْ من نومها مفزوعة، وكان في هذا الشُّبَاك خُرم يمكن من خلاله رؤية ما خلفه، وما إن نظرت أُمي حتى رأت رجليْن مسلحيْن، يحمل كل منهما رشاشه (كارلوجوستاف). خافت أُمي وانزعجت، واستيقظتُ أنا وأختي الصغيرة على صوت أُمي المرتعش يسأل عن كينونة الطارق، فأجابها أحدهما أنه يريد يوسف عبد الواحد أبو حجاج (أبو العبد)، وطمأنها أنهم آتون من طرف أخيه محمد الساكن في الرملة، وما إن سمعتْ أُمي مقالتهم حتى زال عنها الخوف ورُدت إليها الحياة، وأسرعتْ تفتح الباب للقائهما، وبعد أن رحبت بهما ساقتهما إلى أبي الذي كان نائماً في دكانه الذي لا يبعد عن البيت سوى بضعة أمتار. وما إن سمع أبي عن أخيه محمد أخباراً سارة، وأنه وأسرته بخير حتى انتشى فرحاً وسروراً، وأخذ ينثر عليهما أنواعاً شتى من الحلوى والسكاكر. ثم بدأ الرجل الكبير واسمه (يونس مبارك؛ رحمه الله) يسرد ما حدث قائلا: " كنا خمسة أنا وإخوتي الثلاثة وابن عمي هذا (وأشار إلى رفيقه واسمه مبارك مبارك)، في طلعة لنا داخل فلسطين، وكان ميدان مأموريتنا في الرملة، ولبدنا في بيارة طرف المدينة، نختبئ فيها بالنهار، ونقوم بأعمالنا الفدائية بالليل، وبينما كنا نكمن خلف أشجار البرتقال في أول نهار لنا حتى سمعنا صوت أقدام تقترب منا، أخذنا حذرنا وانتشرنا متباعدين، فاقترب من الكمين رجل أشقر يرتدي ملابس إفرنجية ويضع على رأسه قبعة ذات رفرف دائري كالتي يلبسها الأوربيون وقت العمل، استوقفتُه وأشهرتُ سلاحي في وجهه وطلبت منه الصمت والهدوء، ارتبك قليلا من هول المفاجأة ولكنه لم يرتعب، وجال ببصره فينا يتفحصنا، ثم قال بلهجة فلسطينية: عليكم أمان الله، أنا عربي زيكم واسمي محمد، وجلس معنا قليلا، وحينما استأنسنا به واطمأننا له، التففنا حوله نسأله عن أشياء تخصنا، ثم طلبنا منه طعاما، فغادر أبو جمال (وهذه كنيته على اسم الزعيم جمال عبدالناصر) لبعض الوقت وعاد ومعه الطعام والماء، يكفي خمستنا. فأكلنا وشربنا وحمدنا الله على أن ساق لنا هذا المحمد العربي الفلسطيني؛ الذي ظننا أنه يهودي أوروبي. وهكذا مرت علينا خمسة أيام ونحن في الرملة، ننتشر في الليل للعمل فيها، ونختبئ في النهار في هذه البيارة برعاية محمد (ابوجمال) وحراسته، وعندما أخبرناه في الليلة الأخيرة أننا سنغادر في منتصفها، لم يتركنا وظل معنا لوداعنا والاطمئنان على سلامتنا حتى أوصلنا منطقة الأمان. وقبل أن نفترق عانقنا طويلا وحمَّلنا السلام لك ولأسرتك، وهو الذي أخبرنا عن عنوانك حسب ما سمعه منكم في الراديو عبر برنامج سلام وتحية ".
لم يمض أسبوع حتى جاء مَن يُحضِر دعوة لأبي لمقابلة مسئول المخابرات بقطاع غزة الصاغ مصطفى حافظ ، وتمت المقابلة بحضور أحد الضباط وبوجود الفدائي العظيم يونس مبارك ؛ كبير الفدائيين في الكتيبة 141 الذي نقل إلى مصطفى حافظ الصورة كاملة، فأحب مصطفى حافظ أن يكافئ محمد عبد الواحد ابوحجاج (أبو جمال) على وطنيته ورعايته لخمسة من أبطال الفدائيين والمحافظة على سلامتهم حتى أنجزوا مهماتهم الموكَّلين بها في الأرض المحتلة، والذين عادوا إلى ديارهم سالمين غانمين. ولأنه يتعذر تقديم الشكر لصاحب الفضل حيث يقيم في الرملة، فقد اقتضى الأمر أن يُكَرَّم " محمد أبوحجاج " البطل المجهول من خلال تكريم أخيه يوسف الموجود في مخيم النصيرات. وكانت مكافأة معنوية ومادية وعينية، وفوق كل ذلك كان الصِّيت الطيب والسمعة الوطنية الحسنة والفخر والاعتزاز بما قدَّمه عمي محمد ؛ ابن قرية صميل الخليل التي هُجِّر منها أهلُها عنوة، ولكنه لم يغادر.
في سنة 1974 خلال زيارتي الأولى للقطاع بعد نزوح طويل، التقيت عمي أبا جمال وسألته عن تلك الحادثة، فقال: " لقد كانوا أمانة في رقبتي وضميري، ولأجلهم أهملتُ عملي وأهملت واجباتي الأسرية، وراح كل تفكيري واهتمامي صوب نجاة الفدائيين وبسلامتهم. وكان الحرص والحذر مبلغ همي. فقد كان لي زميل آخر بياري معي فافتعلتُ معه خلافاً، وقسَّمتُ بيننا العمل بحيث يكون عمله في جزء من البيارة بعيداً عن المربَّع الذي يختبئ فيه الفدائيون. ثم كنت مفرطاً في توجسي من أي إنسان أو من أي عمل أقوم به، فمثلا لم أخبر أحداً بوجود الفدائيين، فأخفيت ذلك عن زوجتي واولادي، وصرفت زميلي بإبعاده عن مكمنهم في البيارة رغم أنه فلسطيني مثلي ولا يقل عني وطنية، ولكنه الحذر والخوف من المجهول اللذين تطلَّبا مني السرية المطلقة، وفرضا عليَّ التكتم التام. ثم واجهتني مشكلة توفير الطعام لخمسة أفراد، وأنا الذي كنت دائماً أشتري حاجتي من الدكان طعاماً لفرد واحد كما هو معروف لهم، فماذا سيقول البائع لو أني اشتريت منه طعاما لثلاثة أو لخمسة؟ طبعاً سيثير ذلك تساؤلهم ويوقظ فيهم فضولهم الذي قد يُفضي بهم إلى الريبة، أو هكذا صوَّر لي قلقي وخوفي عليهم وعلى نفسي أيضاً، فعمدتُ أن أشتري طعاما لفرد واحد من دكان، ثم أذهب إلى دكان ثان ليس قريباً عن الأول، واشتري منه طعاماً مثله، ثم من دكان ثالث ورابع وخامس، ولا أشتري أكثر ما اعتادوا عليه مني قبل ذلك، حتى لا أثير شكوك البائعين في أمري ". ثم يختم عمي أبو جمال قوله: " في إحدى زياراتي لغزة بعد هزيمة يونيه 1967 سألت أباك عنهم فأخبرني أن يونس مبارك وابن عمه مبارك قد استشهدا - رحمها الله - وأما من بقي منهم حياً فغادر إما إلى الأردن أو إلى مصر، ولا أحد يعرف أخبارهم. رحم الله الشهيد مصطفى حافظ الذي رُقي بعد وفاته بقرار رئاسي إلى رتبة مقدم، ورحم الله الرئيس جمال عبدالناصر الذي لم تنم عينه لحظة عن غزة ولا عن الفلسطينيين، ورحم الله كل الشهداء الأبرار الذين عطَّروا بدمائهم الزكية أرض بلادي فلسطين العربية.
بقلم/ عبدالحليم أبوحجاج