دراسة أدبية تاريخية عن نهضة ونشؤ الأدب الفلسطيني للدكتور سليمان جبران
صدرت عن سلسلة منشورات الكرمل – جامعة حيفا، ودار الهدى – كفر قرع دراسة نقدية ادبية تاريخية، هي الاشمل في موضوعها وموضوعيتها، تلقي الضوء، بمنهجية ادبية نقدية تاريخية علمية على نشؤ ونهضة الادب الفلسطيني، عبر دراسة للخصائص المميزة لهذا الادب، والعوامل التي ساهمت في خصوصيته الوطنية والفنية.
صاحب هذه الدراسة البروفسور سليمان جبران ، هو ناقد وباحث ادبي معروف ، كان استاذا للأدب العربي الحديث في جامعة تل أبيب ورئيسا لقسم اللغة العربية وآدابها في الجامعة بين ( 1998 – 2002 ) وترأس لفترة سنوات مجمع اللغة العربية في اسرائيل ، صدرت له كتب عدة من الابحاث والدراسات الادبية النقدية من ابرزها كتابه عن احمد فارس الشدياق – " الفارياق : مبناه واسلوبه وسخريته " (صدرت طبعته الثانية عن دار قضايا فكرية – القاهرة – 1993 ) وكتابه عن محمد مهدي الجواهري – " صل الفلا : دراسة في سيرة الجواهري وشعره " ( صدرت طبعته الثانية عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت وعمان – 2003 ) الى جانب مؤلفات ، ابحاث ودراسات مختلفة عن اللغة العربية وعن الأعمال الأدبية لأدباء عرب من إسرائيل وفلسطين وغيرها من الأقطار العربية ..
اعترف من البداية ان هذا البحث فاجأني في عرضة واستنتاجاته، وفي عدم لجوء الباحث الى الاستنتاجات التي لا تعتمد على الحقائق الموضوعية، والامتناع عن صياغة المواقف بناء على الذاتية او الحماسة الوطنية التي تميز الكثير من الدراسات او المراجعات الثقافية المشابهة.
الباحث يلتزم بالحقائق والوقائع المثبتة، ولا يذهب نحو التأويلات الحماسية. من هنا اهمية هذا البحث، الذي دفع صاحبه الى قراءة كل ما وقع تحت يده من نصوص ومراجع ذات صلة، في مكتبات الجامعات والاصدقاء في البلاد وفي مكتبة الجامعة الاردنية في عمان، كما يشير الكاتب في مقدمته.
طبعا لن اتحدث عن كل مضمون الكتاب (217 صفحة من الحجم الكبير)، انما سأحاول التعرض لأبرز ما يطرحه الباحث.
يقسم الباحث كتابه الى قسمين اساسيين، الاول ويشمل دراسة تتقصى المميزات المضمونية والاسلوبية، وتحديد نشوء ونهضة الادب الفلسطيني بمفهومة ادبا وطنيا يعبر عن القضايا الوطنية للمجتمع الفلسطيني، وليس مجرد كتابات لا تحمل سمات فلسطينية، انما سمات اسلامية عامة لا هوية وطنية له.
ويعالج بتوسع الشعر الفلسطيني في عهد الانتداب وشعراء هذه الحقبة التي بدأ يتجلى فيها الادب الفلسطيني بمفهومه الجغرافي والاجتماعي كمعبر عن واقع فلسطيني بدأ يتبلور سياسيا واجتماعيا، وتقف امامه تحديات مختلفة تهدد كيانه وصيرورته المستقبلية.
يشير الباحث الى كثرة عدد الشعراء من مطلع القرن العشرين وحتى النكبة ، وهي الفترة التي يرى انها كانت الحاسمة في نشوء الادب الفلسطيني وتميزه القومي والجغرافي ، ويتناول اربعة شعراء يرى انهم يمثلون الشعر الفلسطيني في عهد الانتداب خير تمثيل ، سواء في مضامين هذا الشعر او اساليبه الفنية ، والشعراء هم : وديع البستاني ، الذي يرى به رائد للشعر الفلسطيني ، والشاعر ابراهيم طوقان – شاعر فلسطين الاول ، والشاعر عبد الرحيم محمود – الذي اتبع القول بالفعل ، والشاعر عبد الكريم الكرمي - الذي عاش نصف حياته مشردا بعد نكبة فلسطين وهو شاعر الغنائية في الشعر الفلسطيني ، كما يصفه .
القسم الثاني ملحق شعري لقصائد الشعراء الاربعة الذين تناولتهم هذه الدراسة.
الفصل الذي يفتتح هذه الدراسة والمعنون ب:" نهضة الادب الفلسطيني " هو رؤية ثقافية تاريخية، شديدة التركيز لنشوء ما صار يعرف اليوم بالأدب الفلسطيني. صحيح ان فلسطين لم تعدم في تاريخها الادب والادباء، وهناك اسماء معروفة في الادب الذي انتجه ادباء عاشوا فوق الارض الفلسطينية، ولكن السؤال الذي يشغل الباحث، هل يمكن اعتبار هذا الادب ادبا فلسطينيا لأنه أنتج جغرافيا فوق المساحة التي تعرف بفلسطين؟ ام ان لنشؤ الادب القومي (الفلسطيني في حالتنا، الذي يطرح قضايا المجتمع الفلسطيني، ومسائل المصير الفلسطيني) شروطا ومميزات خاصة لم تكن قد نشأت تاريخيا؟
اعتقد ان هذا الفصل هو المميز الهام والاساسي في هذه الدراسة .... حيث يتابع ما دار من نقاش في الصحافة العربية والفلسطينية حول الحياة الادبية في فلسطين، وتجاهل العديد من الدراسات العربية لنشوء ادب فلسطيني وظهور ادباء فلسطينيين. ويسجل ملاحظة هامة للدكتور اسحق الحسيني الذي كان سكرتيرا للجنة العربية الثقافية في فلسطين، التي نظمت المعارض والنشاطات الثقافية المنوعة، وذلك بدءا من الربع الاول للقرن العشرين وحتى النكبة، يشير فيها الحسيني الى ان: " الناحية الثقافية في فلسطين لم تظفر بما تستحقه من عناية، ولم توضع في منزلتها من مظاهر الحياة الاخرى، ولم يعرف مبلغ تأثيرها في حياة الامة." الى ان يقول: " ان الامة العربية في فلسطين شاركت في قديمها وحديثها في التراث العربي مشاركة اصيلة. "
الاستنتاج الذي يصل اليه الباحث ان الادب الفلسطيني حتى الاربعينات من القرن العشرين لم يظفر باعتراف الاوساط الأدبية المهيمنة في القاهرة وبيروت، بل اعتبر رافدا " تابعا "، حتى في نظر بعض ابناء البلاد أنفسهم.
ويستنتج الدكتور جبران ان: " النظرة الموضوعية تقتضينا الاعتراف بأن النهضة الثقافية في فلسطين قد تأخرت فعلا واختلفت عما شهدته مصر ولبنان من انبعاث ثقافي في العصر الحديث، وذلك لعوامل تاريخية هامة."
يرى الدكتور جبران ان: " اول هذه العوامل واجلها خطرا ... هو ان فلسطين لم تكن كيانا جغرافيا سياسيا متميزا حتى الحرب العالمية الاولى، فقد كانت فلسطين بحدودها "الانتدابية " منذ الفتح الاسلامي، تشكل مع الاردن جندين من أجناد بلاد الشام " .... " وفي الامبراطورية العثمانية بقي هذا التقسيم مرتبطا بوحدة بلاد الشام. "
الاستنتاج الذي يصل اليه الباحث ان فلسطين : " لم تكن في الواقع كيانا مستقلا ، او شبه مستقل ، لا قبل الفتح الاسلامي ولا قبل المسيح في العصور القديمة ايضا " و " كان موقعها الهام وبالا عليها بصفتها جسرا بريا يربط بين اسيا وافريقيا او بين امبراطوريات وادي الرافدين وامبراطوريات وادي النيل "..." وبحريا بين اوروبا وآسيا " ... " وغدت ممرا للغازين والمستعمرين خاضعة لهذا الفاتح او ذاك دون ان تعرف استقلالا تاما او استقرارا حقيقيا منذ فجر التاريخ ... حتى مكانتها الدينية الرفيعة في الاديان الثلاثة كانت عاملا سلبيا في نشؤ كيان فلسطيني مستقل .. الى جانب ضيق رقعة فلسطين الجغرافية وانعدام السهول الخصبة الواسعة والمياه العذبة الوفيرة، كما هي الحال في مصر والعراق، مما حال ايضا، كما يستنتج الباحث، دون استقلالها سياسيا، او الظفر بكيان ذاتي متميز فعلا. وهذا خلق معوقات للنهضة في فلسطين بوجه عام والنهضة الثقافية بوجه خاص.
في هذه المراجعة لهذا الكتاب القيم من المستحيل ان أسجل كل التفاصيل التي اعتمدها الدكتور جبران في بحثه واستنتاجاته، لبداية النهضة والعوامل السلبية في تعويقها، ولكن من المهم الاشارة الى ان العديد من الباحثين رأوا ما أكده هذا البحث من استنتاجات، وبأن ما أنتج من ادب في فلسطين حتى بداية القرن العشرين كانت موضوعاته تقليدية لا تحمل سمات فلسطينية.
الدكتور سليمان جبران لا يقبل استنتاجات بعض مؤرخي الأدب الفلسطيني الذين حددوا بداية الادب الفلسطيني بمنتصف القرن التاسع عشر، ويقدر ان السبب قد يكون ان هذا التاريخ كان بداية لظهور وانتشار مفاهيم القومية العربية ... ويؤكد رؤيته بأن الشعر الفلسطيني، بمعناه الوطني الدقيق، لم يكتب قبل مطلع القرن العشرين. اما شعر القرن التاسع عشر، فلا يعكس مجتمعا فلسطينيا وانتماء فلسطينيا، انما هو شعر اسلامي في معظمه، لم يجدد شيئا في مفاهيم الشعر، او مضامينه او اساليبه.
اما الاستنتاج المثير والهام برأيي فهو تأكيده ان بداية الشعر الفلسطيني الحقيقية كانت في مطلع القرن العشرين ، استجابة لأحداث كبرى ... اهمها المشروع الصهيوني الذي أخذ يتحقق للعيان ، ثم الدستور العثماني ( 1908 ) ونشوب الحرب العالمية الاولى و"الثورة العربية الكبرى "( 1916 ) ثم وعد بلفور ( 1917 )حتى بداية الانتداب البريطاني ( 1922 ) – هذه هي الاحداث الكبرى التي هزت المجتمع الفلسطيني من الاعماق وشكلت العوامل الحاسمة في بلورة الانتماء الفلسطيني بعيدا عن الانتماء الاسلامي العثماني ، ومتميزا عن الانتماء القومي العربي . ويسجل جبران قصيدة (كتبت عام 1910) للأديب محمد اسعاف النشاشيبي، يرى انها قد تكون اول شعر فلسطيني يكتب، رأيت ان اوردها في هذه المراجعة:
يا فتاة جودي بالدماء بدل الدمع إذا رمت البكاء
فلقد ولت فلسطين ولم يبق يا اخت العلا غير دماء
ان الاستعمار قد جاز المدى دون ان يعدوه عن سير عداء
انها اوطانكم فاستيقظوا لا تبيعوها لقوم دخلاء
اذكروا ان غركم مالهم عزة الانفس دوما والاباء
في القسم الثاني من الدراسة يتناول د. سليمان جبران موضوع: " الشعر الفلسطيني في عهد الانتداب " وهي دراسة نقدية تحمل من الاثارة الثقافية والرؤية النقدية الموضوعية ما يستحق مراجعة اخرى مستقلة.
ولكن المميز الاعظم لهذه الدراسة التاريخية الثقافية، هو وضع النهضة الثقافية الفلسطينية في مكانها وسياقها الصحيحين، برؤية موضوعية بعيدة عن الاستنتاجات العاطفية التي تغرق الكثير من الدراسات. ما اود ان اسجله اضافة لما سبق، ملاحظة عابرة، بان هذه الاستنتاجات اعادتني الى كتاب " الثقافة والامبريالية " للمفكر الفلسطيني الكبير، المرحوم ادوارد سعيد، حيث لاحظ ان الثقافة الاستعمارية قادت دائما الى نشوء " ثقافة مضادة " لدى الشعوب المغلوبة على امرها (المستعمرة)، وان هذه الثقافة المضادة تطورت الى ثقافة وطنية لكل شيء، لها ميزاتها واساليبها ومضامينها وطابعها الخاص.
كتاب هام ونادر في موضوعه وموضوعيته، وهو يشكل قاعدة هامة لدراسة الادب الفلسطيني والحياة الثقافية في فلسطين قبل النكبة وبعد النكبة، وخاصة تطور الشعر العربي والأدب العربي عامة داخل اسرائيل بعد (1948)، وهو الموضوع الذي يشغل الدكتور سليمان جبران الان.
بقلم/ نبيل عودة