الوعد لفلسطین: مھمة تنتظر الإنجاز

بقلم: لؤي شبانة

قبل 25 عامًا، أُنشِئَت السلطة الفلسطینیة لتتولى إدارة المناطق الخاضعة لحكم فلسطیني ذاتي، وبدأت بوادر الاستقلال والسلام تلوح في الأفق. وفي الفترة ذاتھا تقریبًا، تحدیدًا في عام 1994 ، اجتمع العالم أجمع في المؤتمر الدولي للسكان والتنمیة بالقاھرة لصیاغة رؤیة جدیدة فيما يخص السكان والتنمیة. وفي اختتام أعمال المؤتمر، صادقت 179 حكومة على برنامج عمل السكان والتنمیة الذي ركز، للمرة الأولى، على حیاة البشر ولیس على الأهداف الدیموغرافیة كأساس للتنمیة المستدامة.

وقد تم الإعتراف بأن قدرة الأفراد على اتخاذ الخیارات الإنجابیة بحریة ومسؤولیة وبأن حصول الجمیع على الصحة الإنجابیة وتنظیم الأسرة هما حق من حقوق الإنسان الأساسیة. وتم إعلان المساواة بین الجنسین وتمكین المرأة كشرط مُسبَق لتحقیق التنمیة. أما في فلسطین، فقد كانت التحدیات ھائلة، وكان على الفلسطینیین أن يبذلوا المزيد من الجهد  من أجل بناء الدولة فیما ھم یسعون – في الوقت ذاته – نحو تحقیق الإنجازات للوفاء بوعد المؤتمر الدولي للسكان والتنمیة.

 شكل عام 1994 معلمًا بارزًا بالنسبة للفلسطینیین بأكثر من شكل: فمع إنشاء الجھاز المركزي للإحصاء الفلسطیني، أصبح بمقدور الفلسطینیین للمرة الأولى أن یقدموا إحصاءات رسمیة عن السكان، إلى جانب تزوید أصحاب القرار والباحثین والمؤسسات الإنمائیة ببیانات موثوقة یستندون إلیھا في التحلیل والتخطیط لبرامج التنمیة التي تمس الحاجة إليھا.

وفي الفترة التي تولیت فیھا رئاسة الجھاز المركزي للإحصاء الفلسطیني من عام 2005 إلى عام 2009 ، كان الجانب الأكثر تحديًا في العمل  هو الجمع بین الأھداف الوطنیة و جداول أعمال التنمیة العالمیة، ولا یزال ھذا التحدي قائمًا حتى الیوم. وفي واقع الأمر، تكمن خصوصیة فلسطین في ھذا الجمع المركب بین مناھج بناء الدولة، والسعي من أجل التنمیة، والاستجابة للأزمة الإنسانیة المتواصلة، والكفاح الوطني من أجل التحرير. وھذه الصورة لم تتغیر. أتذكر أنه وقت إجراء التعداد السكاني الأول عام 1997 ،لم یكن باستطاعة الجھاز المركزي للإحصاء الفلسطیني إحصاء الفلسطینیین في القدس الشرقیة بسبب سیاسات الاحتلال، فیما أن التعداد الثاني الذي أجري بعد عشر سنوات عام 2007 تطلب بذل جھود مضنیة للعمل في ظل سلطتین مختلفتین في غزة والضفة الغربیة. وقد تدخل صندوق الأمم المتحدة للسكان بنجاح لتیسیر العملیة وأمكننا إجراء التعداد الثاني، مع أن نشر البیانات استغرق عدة أشهر بعد ذلك بسبب التحديات المختلفة. لقد كان ولا یزال من الممكن تحقیق النتائج المتعلقة بالمؤتمر الدولي للسكان والتنمیة، رغمًا عن الصعوبات التي تفرضھا البیئة الفلسطینیة المعقدة، حیث أن كیانًا یعیش مرحلة ما قبل الدولة یجتھد للانضمام إلى المعاییر الدولیة. 

لا تزال فلسطین الآن، كما كانت في عام 1994 "في طور البناء". ويزيد على ذلك تدھور الوضع على أرض الواقع، حیث تسود مشاعر خیبة الأمل والیأس، وتُفرض المزيد من القیود ويستمر الحصار على غزة مما یعزلها فعليًا عن سائر العالم.

ومع ذلك، حققت فلسطین تقدمًا ملحوظًا نحو تحقیق برنامج عمل المؤتمر الدولي للسكان والتنمية. وساھم صندوق الأمم المتحدة للسكان في التخفیض الملموس الذي شھدته وفیات الأمھات، من 74 حالة وفاة لكل 100 ألف ولادة حیة عام 1995 إلى 16.7 في عام 2018.

كما لعب صندوق الأمم المتحدة للسكان دورًا فعالًا في دمج الصحة الجنسیة والإنجابیة في الرعایة الصحیة الأولیة. إذ انخفضت نسبة النساء بين 49-20 سنة اللواتي أفدن بأنھن تزوجن قبل بلوغ سن الـ 18 عامًا من 36 في المائة إلى 24 في المائة بين عامي 2010 و2014، وانخفضت الاحتياجات غیر الملباة لتنظیم الأسرة من 15.6 في المائة إلى 10.9 في المائة خلال الفترة ذاتھا.

لكن مازالت وعود المؤتمر الدولي للسكان والتنمية الأوسع نطاقًا حول التنمية التي تتمحور حول الإنسان والكرامة والتمكین بعیدة المنال عن الشابات الفلسطینیات. لنأخذ على سبيل المثال ما قالته لنا ابتھال محمود، وھي شابة من غزة تبلغ 24 عامًا: "في أوقات الحرب، كثیرًا ما أفكر: ما المغزى من أن أتزوج وأكوّن أسرة لي ثم أفقدھا بین عشیة وضحاھا؟" إن ما یلزم للنھوض بالتنمیة الفلسطینیة، هو ضمان أن يكون للأشخاص مثل ابتهال مستقبلًا ذا معنى.  إن وعد المؤتمر الدولي للسكان والتنمية بضمان الحقوق والخيارات الإنجابية للجميع أمر أساسي في هذا المسعى.

إن أهم ما نخرج به من عملنا لمدة 25 عامًا على جدول أعمال المؤتمر الدولي للسكان والتنمية ھو أن الفلسطینیین قد اكتسبوا قدرة استثنائیة على الصمود على الرغم من كل الصعاب. ومن ضمن الإنجازات البارزة، إنشاء وزارة لشؤون المرأة تتولى قیادة العمل على تمكین المرأة، ومصادقة فلسطین على اتفاقیة القضاء على جمیع أشكال التمییز ضد المرأة. ویعود الفضل في كل ھذا إلى الشراكة التي تنسجھا القیادة الفلسطینیة مع المجتمع المدني الناشط.

سیواصل صندوق الأمم المتحدة للسكان العمل مع العديد من الشركاء في مناھضة العنف ضد المرأة، حیث یجري التحضیر لحملة في ھذا الخصوص. ویعمل صندوق الأمم المتحدة للسكان حالیًا بالشراكة مع الجھاز المركزي للإحصاء على تحدیث دراسة استقصائية حول العنف القائم على النوع الاجتماعي، سعیًا لتعزیز الجھود ومعالجة القضية من خلال مجموعة من برامج التدریب وبناء القدرات.

نحن لن نتوقف عند ھذا الحد، بل سنواصل العمل الجاد مع شركائنا ونمضي قدمًا معًا لدعم الفلسطینیین إلى أن يصبح وعد المؤتمر الدولي للسكان والتنمية  بالكرامة والتمكین والفرص أمرًا واقعًا لكل فلسطیني وفلسطینیة. ثمة محطات بلغناھا بالفعل، ولكن الرحلة نحو تحقیق كل من وعد المؤتمر الدولي للسكان والتنمية والوعد الذي قُطِعَ للشعب الفلسطیني بالتمتع بحقوقه الكاملة لا تزال مستمرة ولاتزال ھذه المھمة تنتظر الإنجاز

                                                                    

بقلم دكتور لؤي شبانة، مدیر صندوق الأمم المتحدة للسكان للمنطقة العربية

 

.