إسرائيل تبحث عن “عدو“

بقلم: عماد شقور

كيف نفسر ما نرى؟ وكيف نفهم ما نتابعه من أحداث وتطورات؟ بعيداً، قدر الإمكان، عن الانفعال وعن الغرق في الحدث، بما يقود إلى انعدام القدرة على رؤية الصورة بكامل أبعادها وتفاصيلها، حتى وإن كان الحدث المعني متفجّراً أو مهدّداً بالانفجار. ونأخذ، في هذا السياق، بصفتنا فلسطينيين وعرباً، مثلاً ملموساً لذلك في ما نشهده من تطورات على صعيد "الصراع" الإسرائيلي الإيراني، حيث تسعى إسرائيل إلى تثبيت إيران في خانة "العدو"، هرباً من حقيقة واضحة ثابتة ملموسة، هي أنها جعلت من أرض فلسطين هدفاً لها، ومن شعب فلسطين عدواً لها.
تواجه إسرائيل، (الابنة الشرعية للحركة الصهيونية العنصرية الاستعمارية)، مأزقاً حقيقياً وجودياً، حيث إنها هي من جعلت الشعب الفلسطيني "عدواً حقيقياً ملموساً" لها، على أمل أن تمارس هي دور المستعمر الأبيض في الأمريكيتين، وفي أستراليا، وفي روديسيا سابقاً، (زيمبابوي لاحقاً، وحالياً)، وفي جنوب إفريقيا، إلى حد ما، وعلى أمل أن "يلعب" الفلسطينيون دور الهنود الحمر والسود.
لكن الزمان ليس كالزمان الذي عرفه العالم والبشرية في قرون وعصور مضت. جاءت الحركة الصهيونية العنصرية الاستعمارية متأخرة بقرون وعقود كثيرة عن ذلك الزمان. ومع تطور البشرية والحضارة والعلوم، أصبح ما كان ممكناً غير ممكن. انقضى ومضى زمن نظام العبودية، (الذي قبلته وأقرته جميع الأديان السماوية)، أصبحت الأحداث التي يلزم معرفتها في أقاصي الأرض سنين وعقوداً وأياماً، تصل لحظة حدوثها، وبسرعة الضوء. انقضى وانتهى زمن الاستعمار والإمبراطوريات، وانقضى معه زمن إبادة شعوب وأقليات.
أخطأت الحركة الصهيونية في اختيار من استهدفته، ومن جعلت منه، بالتالي، "العدو" لها. هذا الذي اختارته الحركة الصهيونية ليكون هو "العدو" الحقيقي لها هو شعب حقيقي متماسك غير قابل للاختفاء، بالتبخّر أو الذوبان. ولكن إسرائيل والحركة الصهيونية لم تقبل (حتى الآن) الاعتراف بوجوده، وبالنتيجة: بحقوقه الطبيعية المشروعة جعلت منه "العدو"، ولم تتمكن من إبادته بالتبخّر والاندثار ولا بالذوبان في شعوب وأمم أخرى.
كثير من الأفراد والمجتمعات والشعوب والطوائف لا يحالفهم الحظ في اختيار أصدقائهم وحلفائهم. إسرائيل والحركة الصهيونية ليسوا من هؤلاء.
لكن إسرائيل والحركة الصهيونية على رأس قائمة من لم يحالفهم الحظ في اختيار عدوّهم أو أعدائهم.
نبدأ بباب الصداقات والتحالفات التي بنتها الحركة الصهيونية وإسرائيل بالتالي، منذ إنشائها وحتى يومنا هذا، رغم أن ما يهمنا، كشعب فلسطيني وكأمة عربية، هو خانة "العدو" للصهيونية وإسرائيل. فماذا نرى؟.
يختلف كثيرون في مسألة مَن اختار مَن: هل بريطانيا، (ومعها الغرب الاستعماري)، هي من اختارت التحالف مع الحركة الصهيونية، (وربما إنشاؤها أيضاً)، أم العكس؟ لكن، في كلتا الحالتين نصل إلى النتيجة ذاتها: تحالف عضوي معلن، بل وتماثل في المواقف بين الحركة الصهيونية وأوروبا الغربية وعلى رأسها بريطانيا (العظمى).

كان هدف التحالف، وما زال، هو قطع التواصل الجغرافي بين المشرق العربي والمغرب العربي، ومنع تطور مجتمعاته وشعوبه، ودوله (الوطنية) لاحقاً، مع انتهاء عصر الانتداب والاستعمار المباشر، والحيلولة دون لحاق العالم العربي بركب الحضارة البشرية، وبالتقدم على أي صعيد.
مع نشوب الحرب العالمية الاولى، اختارت الحركة الصهيونية التحالف مع "دول الحلفاء" في مواجهة "دول المركز"، ومع انتهاء الحرب بانتصار "الحلفاء"، غنمت الحركة الصهيونية:
ـ وعد بلفور، بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.
ـ تقطيع "بلاد الشام" إلى أربعة كيانات: سوريا، لبنان، شرق الأردن وفلسطين؛ للاستفراد بفلسطين.
ـ وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني، وتعيين اليهودي البريطاني الصهيوني، هيربرت صامويل، حاكماً على فلسطين، تحت مسمّى "المندوب السامي".
من نقطة الانطلاق هذه، بدأت ملامح تشكّل "دولة إسرائيل" في الظهور بوضوح، وعلى جميع الأصعدة: تدفق الهجرة اليهودية، إنشاء قوة عسكرية، إنشاء مؤسسات زراعية وصناعية ومالية ونقابية وأحزاب سياسية.
ثم، مع نشوب الحرب العالمية الثانية، وما رافقها من توافق وتحالف ضم الاتحاد السوفييتي وأمريكا وبريطانيا وفرنسا وغيرها في "دول الحلفاء"، في مواجهة "دول المحور" بقيادة ألمانيا النازية، فُتح الباب أمام الحركة الصهيونية لمدّ توافقها إلى الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية، فتدفق عشرات ومئات الآلاف من اليهود في تلك الدول إلى فلسطين، إضافة إلى تعزيز تلك الدول للعصابات العسكرية اليهودية بكميات ونوعيات من الأسلحة المتقدمة، وليصبح موضوع إقامة دولة إسرائيل مسألة وقت فقط. وهو ما وصلت إليه الأمور فعلاً بعد أقل من ثلاث سنوات على انتهاء تلك الحرب، دون أن ننسى التعاطف الكبير معها في العديد من دول العالم المتقدم، جرّاء ما تعرض له يهود أوروبا من مجازر على يد الحركة النازية.
كل هذا تاريخ مضى وانقضى.
لكن ما هو "تاريخ متواصل" لم ينقطع.. لم يمضِ ولم ينقضِ، فهو الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وأوسع منه الصراع العربي الصهيوني.
تمكنت الحركة الصهيونية وإسرائيل من تقطيع أرض فلسطين وتشتيت الشعب الفلسطيني بين كيانات ودول. لكنها لم تنجح في كسر وحدة الهوية الفلسطينية، وفي كسر شوكة الرفض الفلسطيني لها، رغم مرور قرن كامل وأكثر على إنشاء الحركة الصهيونية ومرور أكثر من سبعة عقود على إنشاء إسرائيل، بكل ما حفلت به هذه السنوات من قتل وطرد وتدمير لكل ما هو فلسطيني.
حالف الحظ الحركة الصهيونية وإسرائيل في بناء التحالفات. لكن الحظ لم يحالفهما في اختيار "العدو".
أمام هذا المأزق المستعصي الذي تواجهه إسرائيل، نراها تبذل جهوداً جبارة في العثور على "عدو" يمكن لها أن تتحالف مع قوى عظمى في العالم، (وعملاء محليين لها)، لمواجهته، ولتستبدل به "العدو" الذي يرفض الاستسلام، لأن هذا "العدو" هو عدو حقيقي لها ولسياستها، وليس عدواً وهمياً، ولأن قبوله المعلن أن يكون جاراً لها يستدعي التسليم والوفاء بما له من حقوق شرعية، حتى وإن كانت منقوصة.
كل ما تقدم لا يلغي حقيقة أكيدة: الصراع الإسرائيلي/الأمريكي الإيراني ليس صراعاً من أجلنا كفلسطينيين، ولا من أجلنا كعرب. إنه صراع علينا، صراع على ما لنا من حقوق كفلسطينيين، وصراع على ما في باطن أرض شبه الجزيرة من بترول وغاز، وصراع على الهيمنة على جغرافية عالمنا العربي بكل ما فيها من ممرات ومضائق.
هل حان وقت يقظة عربية، على غرار ما بادر إليه الزعيم الماليزي، مهاتير محمد، من دعوة إلى يقظة إسلامية إنسانية عصرية، في زيارته قبل أسبوعين إلى تركيا؟

  عماد شقور

كاتب فلسطيني