“عودة على طريق العودة“

بقلم: حسن عبادي

                                      "عودة على طريق العودة"             
التقيت د. يوسف عراقي للمرّة الأولى يوم السبت 15 أكتوبر 2016 في ساحة الحناطير خلال جولة معرفيّة رتّبناها في حينه ضمن نشاطات نادي حيفا الثقافي للتعرّف على تاريخ المدينة وما تبقّى من معالم حيفا القديمة بإرشاد الصديق د. جوني منصور؛ وكان د. عراقي قد حضر إلى الوطن بهدف إشهار الطبعة الثالثة لكتابه "يوميّات طبيب في تل الزعتر" في حيفا (د. يوسف عراقي من مواليد حيفا 1945، لجأت عائلته إلى لبنان عام 1948، تخرّج طبيبًا من جامعة موسكو في 1974. عاد إلى لبنان حيث عمل طبيبًا في مستشفى مخيّم تلّ الزعتر أثناء فترة حصار المخيم بين 1975 و1976. كما وعمل مُدرّسًا جامعيًّا في كلية الطب بجامعة اوسلو، ويقيم في النرويج منذ العام 1988).

منذ ذلك اللقاء تواصلنا بشكل شبه يومي عبر الرنقيّات والهاتف، والتقينا ثانية في شهر حزيران 2018 في غربته النرويجيّة، تحدّثنا مطوّلًا حول إصدار ونشر كتاب توثيقيّ حول تلك العودة على طريق العودة، وفعلًا بعث مسودّة الكتاب، عالجها صديقي الفنّان ظافر شوربجي بمهنيّة وكان التشبيك مع دار الجندي المقدسيّة، وفاجئنا صاحبها سمير بشريط من معرض الكتاب الدولي في أبو ظبي يحوي صورة للكتاب، وها هو الكتاب يصل بلده، حيفانا، من بيروت عبر عمّان ورام الله.
جاء في الإهداء: "إلى أهلنا في الداخل الفلسطينيّ، الذين أمدّوني بالمزيد من الأمل في تحقيق حلم العودة... إلى شعبنا الفلسطينيّ في الشتات والمنافي البعيدة حيث حلم العودة هو الفصل الأوّل والأهم في حلّهم وترحالهم..."!!!
يبدأ الكتاب بمقدّمة قيّمة جدًا تحدّت فيها عن علاقة الشتات بالوطن ورحلة النزوح والتيه عبر المخيّمات، وصورة الوطن في مخيّلته أشبه بالفردوس البعيد المنال وما مرّ به، وحكايته مع تلّ الزعتر (يحوي الكتاب 136 صفحة، مقدّمة و-17 فصلًا، ترافقه 15 لوحة بالألوان بريشة المؤلّف ومجموعة صور لها علاقة بالكتاب وموضوعه، لوحة الغلاف تصوّر قطار العودة يصل ميناء حيفا محمّلًا بقوافل العائدين من الشتات إلى الوطن، بريشة د. يوسف عراقي).
يصوّر كاتب "أدب الرحلات" ما صادفه من أمور وأحداث خلال  سفرٍ أو رحلةٍ قام بها لأحد البلدان، يتناول معالمها، عاداتها وتقاليدها، أهلها وتاريخها، يسجّل انطباعاته ممّا شاهده هناك، أمثال السيرافي ورحلته البحريّة إلى المحيط الهندي، البيروني ورحلته إلى الهند، سلام الترجمان ورحلته إلى جبال القوقاز، شمس الدين المقدسي وكتابه "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم"، الإدريسي وكتابه الموسوعيّ "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، إضافة إلى ابن بطوطة وغيره من الرحّالين.
  لكنّ الدكتور يوسف عراقي يطلّ علينا بأدب "ترحال" من نوع آخر، رحلة جذور إلى بلده الذي شُرّد منها طفلًا ويعود إليها ليدوّن انطباعاته بكلّ أحاسيسه وجوارحه، فجاء ما كتبه انسيابيًا من القلب وبعيدًا عن الفذلكات والمحسّنات اللفظيّة والشعارات الرنّانة المزاودة، صادقًا لأبعد الحدود.
يشكر الكاتب في مطلع الكتاب كلّ من ساهم في إنجاح زيارته للوطن وكلّ أولئك الذي قابلهم والتقاهم والذين ذكرهم في الكتاب، لم تفُته شاردة أو واردة في تلك الزيارة التي كانت "رحلة تزخر بالمشاعر المتدفّقة والممزوجة بالحنين والمتعطّشة للعودة إلى أصل وجودي في هذه الحياة. كنت أشعر أنّني أحمل عبأ مسؤوليّة كبيرة، أزور الوطن هذه المرّة برفقة تلّ الزعتر ولهذا أخذت هذه الزيارة بُعدًا وجدانيًا، تعرّفت من خلالها على أجمل ما في الوطن؛ على أهله الطيّبين الذين تركوا فيّ أبلغ الأثر"! هذا هو د. يوسف عراقي!!!
تحدّث بدايةً عن رحلته الجويّة من أوسلو إلى الوطن عبر إسطمبول وأحاسيسه في الطائرة حين عبر حدود عتمة شمال الكرة الأرضيّة ليلتقي سماء صافية الأديم وأضواء خافتة تظهر في الأفق البعيد ليحسّ بقشعريرة تسري في كامل جسده وتسيطر على كلّ مشاعره وخفق قلبه سريعًا كحصان يعدو في سباق محموم، إنّه الشاطئ الفلسطينيّ يغطّي الأفق كأنّه حدود الكون بالنسبة له؛  ووصوله إلى بيت عزيز (رحمك الله أيّها  العزيز) المطلّ على وادي الصليب وبحر حيفا حيث ارتسمت أمامه لوحة سيرياليّة لهذه المدينة التي يعشق، تحتضنه وتلفّه بذراعيها بحرارة الأم الحنون التي تستقبل إبنها العائد بعد طول غياب وسمعها تهمس في أذنه قائلة: أنت منذ الآن أنت... كما قالت من قبل للراحل محمود درويش.
تناول بعدها الجولة المعرفيّة لمعالم حيفا، وكان لقاؤنا الأوّل، ليتحدّث عن حيفا وتاريخها وجغرافيّتها...وأهلها وحسرته لرؤية ما آلت  إليه حال وادي الصليب ليتذكّر ما قاله ألبرت أينشتاين حين سار في شوارع البلاد: "إنّ من بنى هذه البيوت هو شعبٌ حيّ، لن ينسى أرضه مهما طال به الزمن خارجها، ولا بدّ أن يعود إليها منتصرًا"، أشعرَه يومه الأوّل بالفرح الداخليّ، الذي جعله في متاهة الفصل بين الواقع والخيال.
وصف مشواره بين سفوح الكرمل وأسوار عكا وما بينهما، ولقاءه بالفنّان التشكيليّ العكّي وليد قشّاش والفنّان خير فودة ومنها إلى قرية طمرة الزعبيّة ليتذكّر ما قاله راشد حسين:
      العفو يا عكا فما قولي سوى خطرات شاعر
                        ما كنت سمسارًا لحبّ البحر مأجور المشاعر
      فتقبّلي من قريتي العزلاء رائحة الأزاهر
                        ووداعة الأطفال طاهرة،       وأغنية البيادر
 
تحدّث في فصل آخر عن لقاء الأهل في طمرة، مشاعره، التوتّر الذي أصابه وعزف الحنين المستيقظ على أوتار أحاسيسه حين التقى أهلها، جولته في قرية الدامون المدمّرة وما تبقّى من حجارتها صارخة في أذنه: لا تجزع! ليتذكّر ما قاله سميح القاسم:
    يا منشئين على خرائب منزلي
                       تحت الخرائب نقمةٌ تتقلّبُ
   إن كان جذعي للفؤوس ضحيّةٌ
                      جذري إله في الثرى يتأهبُ
صوّر بحوّاسّه زيارته للجليل الأعلى و"ميرون" المهجّرة بعد تجواله صباحًا في وادي النسناس، ليمرّ بالصفصاف والجشّ وفسّوطة متأمّلًا روعة الطبيعة وطيب هوائها ليجمع ترابًا من عدّة أمكنة ويقطف بعض ثمار اللوز المتخشّب، مارًا بطريق عودته بقرية فرّاضية المهجّرة ليتذكّر أهاليها حيث عاش معظمهم في مخيّم تلّ الزعتر...
في مشهد أخر يصف لقائه بالطنطورة ومجزرتها ويستذكر رواية "الطنطوريّة" لرضوى عاشور وبطلتها رقيّة، جولته في قرية عين غزال ومشواره مع الذاكرة الجماعيّة... هي زيت مصباح ينير للأجيال القادمة طريقًا للعودة القادمة لا محالة.
تناول في فصل آخر احتضان حيفا لتلّ الزعتر وإشهار الطبعة الثالثة من "يوميّات طبيب في تلّ الزعتر" في نادي حيفا الثقافي، الذي كان لي الشرف أن أكون أحد مؤسّسيه، وشعوره أنّ المنفى الذي خطف ظلّه لعقود طويلة قد غادره تلك الليلة، شعوره وأحاسيسه حين اتصل عدد من أهالي المخيّم في الشتات بواسطة الهاتف بكاتب هذه السطور طالبين تحيّته والتحدّث للحضور، وذروة المشاعر الانسانيّة عندما أوصلتُه عبر الهاتف من مدينة "جوتنيورغ" بالممرضّة السويدّة إيفا شتال حمد، وتكريمه في النادي الذي اعتبره  مبعث فخر واعتزاز وهو عنده أثمن من أيّة تكريم، مبادرتي بإهدائه نسخة من كتابه موقّعة من أعضاء النادي تتصدّرها كلمات العزيزة كوليت حداد: "كيف استطعت أن ترى الموت وتبقى مليئًا هكذا بالحياة، إعرف وإن حجب الليل ضوء الشمس يبقى هناك نور في دواخلنا لا ينطفي ندعوه فلسطين الأمل". وجاءه ما قاله محمود درويش:
        "سيدة الأرض أمّ البدايات
        أمّ النهايات.
        كانت تسمّى فلسطين
        صارت تُسمى فلسطين"

كتب د. يوسف عن زيارته لكفر كنا (قانا الجليل) والناصرة بمعالمها التاريخيّة والدينيّة وأمسية الناصرة ومقهى ليوان الثقافي، زيارته للقدس عبر غور بيسان وأريحا وتجواله في الحرم المقدسيّ والمسجد الأقصى وعلى جدرانها الحجريّة قرأ أحلامه بالعودة وحين غادرها حضرته أبيات تميم البرغوثي:
متى تُبصرُ القدس العتيقة مرةً
             فسوف تراها العين حين تُريدها
تلتها زيارة لطمرة مرورًا بدير "مار الياس" الكرمليّ وجولة في مرسم الفنّان أحمد كنعان، أثارت في كوامن نفسه وجع الحنين لترسم طريق العودة من عتمة المنفى إلى نور الوطن الأبديّ.
كانت له جولة بين عبلين وكابول، التقى طلاب كلية "مار الياس" وألقى على مسامعهم محاضرة تحدّث فيها عن المعاناة في الشتات والمنافي البعيدة وحمّلهم رسالة من مخزون الذاكرة الجماعيّة وأصبح أكثر تفاؤلًا وأملًا بالمستقبل، زار "مشروع حضارة" الكابوليّ لينهي يومه بسهرة في مطعم دنيانا على أسوار عكا وشعر بأنّنا لتحقيق الحلم أقرب وجاءه ما قال معين بسيسو:
وعقوبة الفلسطينيّ الدائمة
كانت وما تزال النفي؛ النفي خارج أرضه
أن يخرج الفلسطينيّ من جسده
تحدّث عن زيارته لأم الفحم والأمسية هناك والحديث عن سيرة المخيّم وعن أهله ومعاناتهم وعن الوجع الفلسطينيّ المزمن، فهو حكاية لا تنتهي إلّا بالعودة.


حكى د. عراقي عن زيارته قرية "عرب الرمل"، بلدة أهله التي دُمّرت وصارت بين ليلة وضحاها منطقة عسكريّة محظورة، لينحني ويلتقط حفنات من تراب الأرض وبعضًا من الطيون الأصفر لترافقه  في رحلة التيه المستمرّة وتمنحه بعضًا من زاد الصمود في وجه الغربة، تلاها لقاء حيويّ في بيت الضيافة النصراوي "الحكيم".
تحدّث عن ترشيحا ومسيرتها السنويّة لإحياء ذكرى المجزرة وتاريخها وأهلها، عن زيارته لمرسم صديقي الفنّان عبد عابدي، مسرح خشبة  الحيفاوي ولقاءه بلجنة المهجّرين، جولته في سخنين وعرابة البطوف والأمسية العرّابيّة ليرحل بعدها عن حيفا وحال قلبه ولسانه يقولان: "حيفا... لا أقول وداعًا... بل أقول: لنا لقاء لا محالة!!!"
إنها رحلة من نوع آخر، رحلة جذور راسخة في أرض الوطن، أدب رحلات، إن جازت التسمية، من لون آخر... له مذاق الحنين... والعودة القادمة لا محالة.
 التقيت مساء السبت 13 تموز 2019 في مقهى فتّوش الحيفاوي بجليليّ عشرينيّ، أراه للمرّة الأولى، أهديته نسخة من الكتاب، تأمّل لوحة الغلاف وعنوان الكتاب فباغتني قائلًا بعفويّة وتلقائيّة: "حلُمي أن أشتغل عتّالًا في الميناء"، سألته لماذا؟ فأجابني: "لأحمل شُنط العائدين"!!! تمامًا كما جاء في مقدّمة الكتاب، نضال يمثّل الغد الواعد ويحقّق بعضًا من أحلام أخي يوسف... بالعودة!

                                                                      حسن عبادي