ما الذي تريده الدولة الأردنية العتيدة ؟ الوضع الإقتصادي في إنهيار مستمر، والمديونية العامة تتفاقم ، والسِّلم الإجتماعي في تراجع مستمر ، والروابط الإجتماعية والضوابط السلوكية العامة إبتدأت تفقد معناها لصالح موجة من العنف المجنون الذي يعكس بداية إنهيار المنظومة الإجتماعية والأخلاقية التي ميزت المجتمع الأردني طوال الحقبة السابقة . أما الوضع السياسي فهو أقرب ما يكون إلى الغيبوبة السياسية ، فقلب الدولة الأردنية ما زال ينبض ، أما باقي أعضائها ومؤسساتها وقدرتها على الحركة فهي شبة مشلولة ولا أحد يعلم ما هي النهاية !
يجنح العديد من الأردنيين تحت وطأة الأزمة أو الشعور بالأزمة إلى إتخاذ مواقف تعكس ذلك الشعور بطرق مختلفة أكثرها سلبي والقليل منها قد يحمل مسحة من الإيجابية القَلِقَة كوسيلة لرد الأذى أكثر منها كترجمة لأمل حقيقي أو لقناعة حقيقية بإمكانية تحسن الأمور .
القلق المتزايد قد يدفع البعض إلى إتخاذ مواقف متشددة تستند إلى عصبية ما قد تكون دينية أو عِرقية أو عشائرية أو جَهوية ...إلخ . إن ضعف الدولة وحصر دورها في أمن النظام أولاً وأخيراً وإنسحابها شبه الكامل من مسؤولياتها الإجتماعية تجاه المواطنيين هي ما قد يدفع الأمور في إتجاه أخذ زمام القانون بيد الفرد أو العشيرة إما لحماية المصالح الخاصة أو لإسترداد الحق وهذه هي مقدمة الإنهيار العام لدور الدولة في حماية المجتمع .
السعادة أصبحت عُمْلة صعبة في الأردن ، وقدرة المواطن الأردني على الإحساس بالسعادة المستندة إلى شعور عام بالطمأنينة أصبحت شبه معدومة . لا أحد سعيد في الأردن ولا حتى أؤلئك الميسورين نسبياً . من يملك ثروة ليس سعيداً بحكم الأجواء الضاغطة الرسمية والشعبية المحيطة به وبحكم غياب الشعور بالأمن على الثروة الشخصية ، ومن لا يملك ثروة يشعر بالبؤس واليأس خصوصاً في ظل البطالة المتفاقمة والفساد المستشري والتخبط الإقتصادي وتناقض التشريعات وإنحسار التنمية والإنهيار الملحوظ في مختلف القطاعات الإقتصادية للدولة.
من يملك الثروة غير سعيد ومن لا يملكها غير سعيد أيضاً ، ومجتمع الفاسدين والزعران في نمو وإزدياد على حساب المجتمع الأردني التقليدي الذي كان هانئاً وسعيداً وقنوعاً ومتكافلاً . لماذا ؟ وماذا حصل حتى وصل الأردنيون إلى هذه المستويات المُكربة ؟
إن إعتماد الدولة الأردنية في رؤيتها العامة وفي سلوكها الحالي تجاه مواطنيها إما على النظام الرعوي أو على النظام الأمني يعني أن الأردنيين مقبلون على كوارث . فالنظام الرعوي يتطلب ويفترض الولاء المطلق ، في حين أن الدولة الأمنية تسعى لفرض الخضوع ولو بالإكراه ، ولا يوجد شيء بين هذا وذاك سوى السكون المطبق المرعب الذي قد يؤدي إلى إنفجار أو إنفجارات قد لا تستطيع التعبير عن نفسها بوسائل منطقية ، وقد تؤدي إلى تدمير الأوطان . فالدولة الأردنية لا تريد المعارضة الوطنية ولا تؤمن بها أو بدورها الإيجابي في إحداث التغيير السلمي والديموقراطي ، وهي بذلك تفرض على المواطنين الأردنيين إما الولاء المطلق أو الخضوع بالإكراه مما قد يدفع البعض إلى البحث عن حلول مجنونة لا يريدها أحد .
إن كل من يعتقد أن عجلة التاريخ يمكن أن تُعاد إلى الوراء أو أن الإنسان يستطيع أن ينتقي من التاريخ ما يشاء وأن يترك ما يشاء هو إنسان واهم . والسعي إلى فتح الدفاتر القديمة وتبادل الإتهامات والإنسحاب إلى الخلف خوفاً مما هو آتٍ في المستقبل لن يُجدي شيئاً ولن يؤدي إلا إلى مزيد من الإضعاف للجبهة الداخلية وقدرتها على التصدي للمخاطر القادمة ، علماً أن من يقف خلف تلك المخاطر هي عناصر خارجية إما صهيونية أو أجنبية أو عربية متصهينة وبالتأكيد ليس عناصر داخلية . العدو الحقيقي للمصالح الأردنية هو إسرائيل ومن يقف خلفها أو يدعمها ، وكل من يعتقد غير ذلك يساهم في دعم المخططات الصهيونية ربما دون أن يشعر بذلك .
الروية والهدوء مطلوبين في التعامل مع القضايا التي تمس الوطن . وأي محاولة لإسقاط القناعات الشخصية خصوصاً المتزمتة على مسار القضايا العامة لن يفيد بشيء بل على العكس سيؤدي إلى إستقطاب سلبي داخل المجتمع مما قد يفتح الباب أمام ردود فعل حادة ومزيد من الإستقطاب السلبي وإلى الحد الذي قد يؤدي إلى تفكك المجتمع تحت وطأة وضغوط ذلك الإستقطاب المتزايد .
القوة أو إحتكار وسائل القوة لا تصنع الحق ولكنها تخلق حالة من الخوف أو القلق أو الغضب بين أوساط من لا يملكوها ، ومزيد من الإستبداد والإفتراء والتمادي بين أوساط من يملكوها . التوازن والعدالة في إمتلاك وسائل القوة والسلطة بين كافة أبناء الشعب هي المدخل السليم لمجتمع آمن ومطمئن وقادر على الإستمرار بإيجابية بعيداً عن عوامل الفرقة والإنقسام والتشنج .
إن نقاط الخلاف والإختلاف داخل المجتمع الأردني تتضاءل أمام نقاط اللقاء والتوافق وهي كثيرة وجامعة . والوحدة التي تجمع أبناء الشعب الأردني هي أكبر بكثير من عوامل الفرقة وهي في أصولها عوامل آنية مصطنعة وبعيدة عن الجوهر والحقيقة وتعكس خلافاً سطحياً على المصالح الشخصية للبعض ضمن نظام دولة رعوية بائدة عفا عليها الزمن ، عِلماً أن الفرص التي توفرها في تناقص مستمر وأبنائها في زيادة مستمرة مما يعني تضاؤل قدرة الدولة على الإستمرار في لعب الدور الرعوي التقليدي . إن تلاعب الدولة بالمواطنين تحت مظلة المصالح الآنية خصوصاً على مستوى الوظائف العليا أصبحت وسيلة لفرض الولاء الأعمى على شاغلي تلك الوظائف . وهكذا تُسخر الدولة إمكاناتها المالية المحدودة لشراء الولاآت وليس للتقدم بحلول حقيقية لمشاكل البلد الإقتصادية وأهمها التنمية والبطالة .
الأردنيون في دوامة وأداء الحكومات المتعاقبة ، وإن كان السبب في المشاكل والتحديات التي تعصف بالبلد ، إلا أنه يبقى مع ذلك مسؤولاً عن إستمرار وتفاقم تلك المشاكل والتحديات . التخبط في الأداء الحكومي يعكس غياب رؤيا وبرنامج حكومي متكامل وتغيير هذه الحكومة أو تلك والمجئ بغيرها لن يساهم في حل المشاكل لأن المطلوب هو تغيير نهج الحكم ورفع مستوى أداء المسؤولين ووضع الخطط والبرامج والحلول اللازمة والمنبثقة من الواقع المحلي ومشاكله وليس من تعليمات صندوق النقد الدولي والتي ثبت حتى الآن عدم نجاعتها في حل المشاكل الإقتصادية .
الأردن في أزمة ، والأردنيون في أزمة وقنوات التواصل بين الحاكم والمحكوم في تقلص مستمر ومتزايد ، والفجوة في إتساع والخطر الكامن في ذلك يتمثل في أن يدور الحكم حول نفسه في نهج ومسارات وقرارات لن تؤدي إلا إلى مزيد من التدهور في الوضع الإقتصادي والسياسي على حساب الأردنيين ومستقبلهم ومستقبل أبنائهم .
بقلم/ د. لبيب قمحاوي