لم تفلح الابتسامات المتبادلة بين قادة دول «G 7» خلال القمة التي جمعتهم في بياريتس الفرنسية (25 و26/ 8)، في إخفاء تعارض استراتيجياتهم ومواقفهم إزاء العديد من القضايا المطروحة للبحث على الصعيد العالمي. وخصوصاً بين معظم القادة من جهة والرئيس الأميركي دونالد ترامب بشططه الذي بات سمة ملازمة لأغلب مواقفه السياسية، وإصراره على عدم احترام قرارات وتوجهات مجموعة السبع ذاتها، التي يريد لها ولقممها أن تكون مجرد آلية لفرض عالم أحادي القطبية، الذي يبدو أن زمانه قد ولّى!.
ولعلّ هذا ما حدا بالفرنسيين المنظمين للقمة إلى التخلي عن تقليد إنهاء القمة ببيان مشترك يعكس التوافقات العامة للدول الصناعية في مواجهة المشكلات الأكثر إلحاحاً، وذلك عملاً بمبدأ «إغلاق الباب المحتمل أن تدخل منه رياح ترامب التي تثير كثيراً من الصخب والضجيج»، مُستذكرين ما حدث في قمة العام الماضي في كندا، عندما كان البيان المشترك سببا في هياج ترامب ومن ثم انسحابه وإهانة المضيف، رئيس الوزراء الكندي جوستين ترودو.
تجديد الصيغة المعهودة
وسعت فرنسا، التي ترأس المجموعة هذا العام، إلى «تجديد» الصيغة المعتادة لقممها، وذلك من خلال توسيع إطارها ودعوة عدد من رؤساء الدول الأفريقية والأميركية اللاتينية للمشاركة فيها تحت هذه الصفة أو تلك، لإبعاد صورة «نادي الأغنياء» عنها.
وبالنظر لشعار القمة «محاربة انعدام المساواة» بأشكالها كافة بين الدول، وفي المجتمعات وبين الأجناس، فقد حرصت باريس على ضمّ المجتمع المدني ومنظماته؛ سواءً تلك الداعية للمساواة بين الجنسين، أم تلك التي تغطي الشرائح الاجتماعية كافة. يشار كذلك إلى انعقاد قمة منافسة ومعاكسة للقمة الرسمية، في مدينة هونداي بمنطقة الباسك، حيث نظمت فيها ندوات ومظاهرات ومسيرات مناهضة للعولمة وللاقتصاد الرأسمالي.
يذكر أنّ الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان كان أول من أطلق هذا النوع من القمم عام 1975، حيث شهدت القمة الأولى حضور ست دول تحت عنوان «الدفاع عن القيم الليبرالية والديمقراطية الغربية ومعالجة القضايا الدولية الكبرى». ثم انضمت كندا إلى المجموعة في قمة بورتو ريكو عام 1976، ولحقتها روسيا رسمياً في قمة برمنغهام عام 1998، قبل أن يتم إقصاؤها في 2014، على خلفية موقفها من أحداث أوكرانيا وضمها لجزيرة القرم.
ومن المفارقات في هذا الصدد، أنّ دعوة الرئيس ترامب إلى عودة روسيا إلى المجموعة قوبلت بالسخرية والرفض حتى من حليفه الجديد رئيس الحكومة البريطانية، حيث اتفق قادة المجموعة على أنّه «من المبكر جداً» إعادتها، مشيرين إلى أنهم «لم يروا أي دليل على تغيير حقيقي في السلوك الروسي، يستدعي إعادة قبول موسكو في المجموعة».
قضايا شائكة وحلول مؤجلة
وإذا كانت وظيفة وصيغة هذه المجموعة قد تغيرت مع مرور الزمن، إلا أنها ما زالت تشكل «محفلاً» غير رسمي للتداول في شؤون العالم وبحث أهم القضايا الشائكة المطروحة على ساحته، حتى وإن بقيت حلول معظمها مؤجلة!. وعلى ذلك، فقد حضرت في هذه القمة العديد من تلك القضايا؛ من الحرب في سوريا، إلى أمن المضائق والممرات النفطية، إضافة إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، والضرائب على الشركات الرقمية الكبرى، وغالبيتها أميركية، والوضع السياسي في أوروبا، في ظلّ صعود تيارات اليمين القومي والشعبوي، بحيث أنّ الاتحاد الأوروبي الذي كان يشكل أكثر المجموعات الإقليمية نجاحاً في السابق، أصبح الآن في وضع لا يُحسد عليه مع الخروج البريطاني منه، والنزاعات حول الهجرة والسيادة الوطنية المستمرة بين دوله، وصولاً إلى تراجع مصداقية المؤسسات الأممية، في ظلّ تراجع دور مجلس الأمن وغيره من المنظمات الدولية في معظم الصراعات حول العالم.
وإضافة إلى التعثر الذي صاحب سابقاً قضية مكافحة الاحتباس الحراري واتفاق باريس بشأن المناخ، خيّب الرئيس ترامب آمال شركائه الأوروبيين خلال هذه القمة إزاء الحروب التجارية؛ ليس مع الصين فحسب، بل ومع فرنسا وأوروبا بعد تلوّيحه بفتح نزاع تجاري معهما وتهديده بفرض رسوم جمركية مُشدّدة على النبيذ الفرنسي رداً على فرض ضرائب على شركات الإنترنت العملاقة في فرنسا.
الملف النووي الإيراني
وقد شكلت القمة فرصة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ليطرح نفسه «وسيطاً» في الملف النووي الإيراني، محاولاً تقريب المواقف بين واشنطن وطهران. وعلى ذلك تمّت دعوة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلى زيارة فرنسا، وهو ما مثل حدثاً بارزاً خلال انعقاد القمة، إلا أنه لم يُفلح في تحقيق اختراق كبير على هذا الصعيد، مع إصرار واشنطن على المضي في سياسة العقوبات وممارسة أقصى درجات الضغط على طهران، ورفض الرئيس ترامب لمقابلة ظريف، معتبرا أنه «من المبكر جداً» عقد لقاء معه، حتى وإن أبدى انفتاحه على الحوار مع طهران، ولكن بشروطه!.
وكان الرئيس الأميركي قال إن ماكرون طلب موافقته على زيارة ظريف، وأجابه: «إذا كان هذا ما تريده، فامضِ قدماً». كما أكد أن إدارته «لا تسعى إلى تغيير النظام» في طهران، لكنه نفى، في المقابل، «أيّ اتفاق مع الدول السبع حول إرسال رسالة مشتركة إلى طهران»، وقال إنه رغم سعادته بمساعي الرئيس ماكرون لتهدئة التوتر مع طهران، إلا أنه «سيواصل مبادراته الخاصة»، وهو ما يتناقض مع ما كان أعلنه الرئيس ماكرون، الذي اضطر إلى التوضيح أنّ كلَّ طرف «سيواصل التحرك بمفرده»، نافياً أن يكون قد حاز على تفويض من دول مجموعة السبع للتحدث مع طهران!.
وحاولت باريس أخذ زمام المبادرة لإنقاذ الاتفاق النووي مع إيران وتجنب أزمة أعمق في الشرق الأوسط، وفي سبيل ذلك، قابل ماكرون ظريف في باريس واقترح تسوية على الطرفين الإيراني والأميركي، عبر التفاوض حول اتفاق يتيح تخفيف بعض العقوبات الأميركية بما يسمح لإيران بتصدير جزء من نفطها مقابل استئنافها تطبيق التزاماتها المتعلقة بالشق النووي.
وبدا الرئيس الأميركي وكأنه يستخفّ بجهود الوساطة الفرنسية، عندما أعلن أنه «ليس منفتحاً على منح طهران أية تعويضات عن العقوبات»، لكنه أكد في المقابل، أن «دولاً عدة ستقدم خط ائتمان لإيران لتمكينها من تسيير أمورها»، وأبدى استعداده للقاء روحاني، «إذا توافرت الظروف المناسبة»، في وقت أبدى فيه الرئيس روحاني هو الآخر «انفتاحه على مثل هذا الاحتمال».
ردّ طهران
وفي طهران، عبر الرئيس الإيراني حسن روحاني، عن تأييده لخيار الحوار لحل أزمة البرنامج النووي، مُعلناً أنّ حكومته على استعداد لاستخدام «يدي القوة والديبلوماسية»، حيث قال: «إلى جانب الصمود والمقاومة نتفاوض أيضاً من أجل حلّ وتسوية قضايانا».
لكن الرئيس روحاني قال أيضاً إن بلاده لن تدخل في حوار مع الولايات المتحدة ما لم ترفع عنها العقوبات. ومن جهته قال وزير الخارجية الإيراني: «لا أتصور إجراء لقاء بين روحاني وترامب قبل أن تعود واشنطن إلى الاتفاق النووي». وتساءل ظريف مستنكراً: «كيف يمكن إعادة الظروف الحالية إلى ما قبل، بعد الانسحاب غير القانوني للولايات المتحدة (من الاتفاق النووي) وسنة من تقاعس الاتحاد الأوروبي»؟!.
وفي هذا السياق، أعرب محللون عن اعتقادهم أنّ طهران تدرك جيدا أن القادة الأوروبيين أعجز من أن يساعدوها على تلافي العقوبات الأميركية، وأن الذهاب إلى التفاوض مع صاحب القرار مباشرة يستوجب القليل من الوقت والصبر ودعم دبلوماسية مزدوجة؛ «ترفع من سقف التهديدات تارة، وتعمل على التهدئة تارة أخرى».
ورأى المحللون أن إيران تريد من خلال تصعيدها، حتى مع الأوروبيين، حشر الجميع في الزاوية وتمديد آجال الجهود الدبلوماسية لربح المزيد من الوقت، إلى حين إيجاد الصيغة والوقت المناسب للذهاب إلى المفاوضات مع واشنطن مباشرة، إذ لم يسبق للنظام الحالي في طهران أن قبل التفاوض من موقع ضعف. ورجّح هؤلاء أن تقبل إيران في نهاية المطاف التفاوض مع الولايات المتحدة بشأن اتفاق نووي جديد، في ظل تعرضها لعقوبات أثّرت بشكل كبير على اقتصادها!.
بقلم/ فيصل علوش