رغم ما يعانيه العالم العربي من إضطرابات سياسية عاصفة، وقضايا طارئة، باتت تهدد السلم والإستقرار الأهلي لكثير من الدول العربية، إلا أن القضية الفلسطينية تبقى القضية الأساس، والرئيسية والأقدم للعالم العربي، ولا يستطيع أحد القفز عليها مهما آلت إليه الأوضاع السياسية المضطربة في المنطقة والإقليم، لأن فلسطين هي مركز هذا الزلزال، الذي بات يعصف بمختلف أنحاء المنطقة.
إن فلسطين تؤثر وتتأثر بمحيطها العربي، وتتعرض في الآن ذاته إلى تأثيرات القوى الإقليمية والدولية، ذلك ما يزيد المشهد السياسي الفلسطيني الخاص، تداخلاً، وتعقيداً، وإضطراباً، والذي بات يشهد أكبر عملية خداع وتضليل سياسي في تاريخ القضية الفلسطينية، يتداخل فيه الخاص مع العام، والجهوي مع الوطني، والإقليمي مع الدولي، والديني مع الإجتماعي والسياسي والإقتصادي، والمعاناة مع الرفاه، والمقاوم مع المساوم، والحلم مع الحقيقة، إنه مشهد بات غريباً عجيباً، لا مثيل له على الإطلاق، إنه تراجيديا مؤلمة يزداد ألمه يوماً بعد يوم، وكوميدياً سوداوياً، يزداد سواداً يوماً بعد يوم، ولم يعد يدرك الشعب الفلسطيني إلى أين تسير به السفن، هل إلى الغرق أم إلى النجاة ...!
ويزداد المشهد تعقيدا مع التحديات الجسام التي فرضتها الإدارة الامريكية منذ تولي الرئيس دونالد ترامب مقاليد البيت الأبيض والذي تبنى عمليا ورسميا رؤى اليمين الصهيوني كاملة واتخذ سلسلة اجراءات عملية سياسية ومالية وديبلوماسية تترجم تبني امريكا لرؤى اليمين الصهيوني.... متجاوزا سياسات امريكا السابقة ومواقفها والتزاماتها تجاه عملية السلام وتجاه ما يعرف بقضايا الوضع النهائي وخصوصا منها القدس التي اعتبرها عاصمة (للمستعمرة الاسرائيلية) ونفذ تعهده بنقل سفارته اليها ، وقضية اللاجئين التي يعمل على حلها خارج فلسطين بالتوطين واعادة التهجير للاجئين الى منافٍ جديدة حتى خارج الوطن العربي، والإستيطان الذي بات يراه وينظر اليه انه عملا مشروعا وليس معرقلا لعملية السلام كما كانت تنظر اليه الإدارات الامريكية السابقة،والحدود والتي بات ينظر اليها كما تنظر اليها حكومة المستعمرة الاسرائيلية ..، بل اكثر من ذلك قد اسقط صفة ارض محتلة عن الاراضي الفلسطينية التي احتلت في العام ١٩٦٧م ... اضافة الى سلسلة عقوبات مباشرة مارستها ادارة ترامب من اغلاق مكتب التمثيل الفلسطيني في واشنطن الى وقف كافة اشكال المساعدات الامريكية التي كانت تلتزم بها الادارات السابقة للسلطة الفلسطينية وللمستشفيات ولمنظمات المجتمع المدني ... ومنع التمويل عن وكالة غوث و تسغيل اللاجئين الفلسطينيين واخيرا اسقاط السلطة الفلسطينية من خرائط الخارجية الامريكية..... الخ من الاجراءات العقابية التي وضعت الولايات الامريكية في مواجهة مباشرة مع الشعب الفلسطيني وقيادته وقضيته...... !!
كل ذالك يأتي للتمهيد لإعلان الرئيس ترامب مبادرته للسلام الفلسطيني الاسرائيلي (التي اطلق عليها وصف صفقة القرن او العصر) والتي لاتعدو في حقيقتها بعد كل تلك الخطوات والاجراءات عن تبني رؤية كاملة لتطبيق الرؤى الصهيونية في انهاء الصراع و تهدف الى تصفية القضية الفلسطينية بكل عناصرها الرئيسية ..!
رغم إدراك القيادة الفلسطينية، لتعقيدات هذا المشهد، ومحاولتها الهادفة إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الوطن والحقوق الفلسطينية المهدورة، ووقف المعاناة أو تقليصها على الأقل للشعب الفلسطيني سواء داخل الوطن أو في الشتات، باتت هي الأخرى تعاني من الإحباط الذي يعاني منه عموم أبناء فلسطين، فلا مقاومة مجدية، ولا مفاوضات مفضية إلى الأمل بالخلاص من هذا المشهد الكئيب، والإنتقال إلى وضع أكثر إنسجاماً ما بين رؤية القيادة ورؤية عموم الشعب، لقد تمزق الرأي العام الفلسطيني إلى شظايا متناثرة جراء هذا الإخفاق والإحباط الذي يكاد يصل إلى درجة اليأس من شدة التعقيدات والتداخلات بين السياسات المتعارضة والمتقاطعة في اللحظة وفي الموقف الواحد لمختلف القوى والفصائل ، والأنشغال في تسيير شؤون الحياة اليومية للشعب الفلسطيني في ظل الحصار والعقوبات المفروضة عليه..
إن الإنجازات السياسية والدبلوماسية التي حققتها القيادة والدبلوماسية الفلسطينية خلال الأعوام المنصرمة لم تعد لوحدها كافية لتقنع الشعب الفلسطيني أن هناك أملٌ بالخلاص، ولا إنجازات المقاومة الشعبية، أو إنجازات المقاومة المسلحة أيضاً قد باتت مقنعة بأن هناك أملٌ بالخلاص من الإحتلال، في ظل تغول سياسات الحصار، وتمدد الجدار، وتوسع الإستيطان، والصلف والعنت الصهيوني الذي لا يقيم وزناً للقرارات الدولية وللقانون الدولي، ولا للرأي العام الدولي الذي يشهد تحولات مهمة لصالح الإعتراف بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وشجبه وإستنكاره للسياسات الإسرائيلية، القائمة على مواصلة التوسع، وقضم الحقوق الفلسطينية، وطمسها، وإجهاض كافة فرص التفاوض للوصول إلى تسوية تحقق للشعب الفلسطيني تطلعاته الوطنية، وتنهي حالة اليأس والإحباط.
إن هذا المشهد الكئيب والمركب يحتاج فلسطينياً إلى مراجعة ودراسة وتقويم على مستوى الكل الفلسطيني من فصائل، وحركات، وأحزاب، ومثقفين، لتحديد خطاب سياسي جديد، يكون جامعاً لقوى الشعب الفلسطيني، ومخلصاً فلسطين من حالة الإنقسام والإنقلاب، التي هي السبب الرئيسي فيما وصلت إليه الحالة الفلسطينية، من تردٍ ويأس وقنوط، وأتاحت للعديد من القوى الإقليمية والدولية الفرصة لممارسة الضغوط المختلفة او الإتجار بالمعاناة والعبث الهادف إلى قتل أماني الشعب الفلسطيني في تحقيق تطلعاته الوطنية، كما هيأ المناخ المناسب والملائم لإستمرار الإحتلال في سياساته القائمة على التوسع، وقضم الحقوق الفلسطينية، وإجهاض كافة الفرص التفاوضية، ومواجهة أي فعل مقاوم شعبي أو مسلح بالعنف الرادع وغير المحدود، مستغلاً حالة الإنقسام والإضطراب والإنشغال العربي بمشهده الدامي.....!
إن حركتي فتح وحماس يقع على عاتقهما المسؤولية الفلسطينية الكبرى في إنهاء حالة الإنقسام، وعليهما إدراك الحقيقة أن فلسطين أكبر من كل الحسابات الفصائلية الأيديولوجية والنفعية، وأن المشروع الوطني الديمقراطي الفلسطيني يحتاج إلى التقاءهما، وليس إلى إنقسامهما، وعليهما أن لا ينتظرا أحداً ليأتي وينهي الإنقسام القائم بينهما، والكل منهما يدرك أن المستفيد الوحيد من هذا الإنقسام هو العدو الإسرائيلي، كما أن الطرف الفلسطيني الثالث مع الأسف الذي يسمي نفسه ((باليسار)) فقد تهافت، وأصبح دون لون أو طعم، بل ضل ضلالاً بعيداً، فمرة يصطف خلف فتح، وأخرى خلف حماس، أي يسار هذا الذي لا يستطيع أن يحرك مئة من أفراد الشعب، ويمارس إنتهازية سياسية طفولية غبية، تتعارض ومفاهيمه الأيديولوجية، في إصطفافاته السياسية، خلف منظمات المجتمع المدني، التي ماهي إلا مؤسسات ((الإختراق الإقليمي والدولي)) للحالة الفلسطينية، أو خلف قوى الشد العكسي المجتمعي والسياسي أحياناً أخرى.
إن المراقب للجهود التي بذلت خلال اثني عشرة عاما لإنهاء الإنقلاب واتمام المصالحة الفلسطينية واستعادة بناء الوحدة الوطنية تؤكد نتيجة اساسية واحدة وهي إرتباطات حركة حماس بجماعة الإخوان المسلمين ورؤيتها السياسية وتحالفاتها الإقليمية والدولية ، تشكل العائق الرئيسي أمام إنهاء حالة الإنقسام، كما تشكل مدخلاً للعبث الإقليمي والدولي بالشأن الفلسطيني، فلابد لحركة حماس من مراجعة هذه العلاقة وتوظيفها في خدمة المشروع الوطني الديمقراطي الفلسطيني الجامع، والذي يتفق الجميع على تحديده بالبرنامج الوطني المرحلي، من دون مزاودة شعاراتية، تقود إلى الإصطدام، وتبرر استمرار الإنقسام، ليدخل الشيطان في التفاصيل، ويتمكن من تدمير هذا الحلم الوطني الجامع للفلسطينيين، وتصفية القضية وفق ما يخطط له العدو الصهيوني وادارة الرئيس ترامب وصفقته المشؤومة ليلاً نهاراً، من أجل الحيلولة دون قيام الدولة الفلسطينية، على حدود الرابع من حزيران 1967م والقدس عاصمة، وحل مشكلة اللاجئين وفق القرار 194 لسنة 1948م......
ان الوضع الفلسطيني بأمس الحاجة للوحدة حتى يقوى على مواجهة التحديات الجسام واسقاط مؤامرة القرن وما يتبعها من تحديات .... يحتاج الى مواقف ثورية وإرادة سياسية شجاعة وجادة ،قادرة على مواجهة تحدي نزوات الذات من جهة ، وقادرة على مواجهة العدو وافشال خططه واجراءاته من جهة اخرى.. فهل نحن فاعلون..؟!
إن الأمانة والمسؤولية الوطنية تقتضي أن تتحمل القيادات كافة مسؤولياتها، والقيادة ليست تشريفاً، إنها عزم، وحزم، وإرادة، ورؤية صائبة وثاقبة، لتحقيق أماني وتطلعات الشعب الفلسطيني، وقدرة على إمتلاك القوة والمشروعية، لإتخاذ القرارات المناسبة في الأوقات المناسبة، والمواقف اللازمة، لإنقاذ حلم الشعب الفلسطيني من التردي والضياع، وتحقيق أهدافه الوطنية، وإلا سيقف الجميع أمام التاريخ، وأمام الشعب، وسيقول التاريخ كلمته، كما سيقول الشعب كلمته، والشعب يمهل ولا يهمل، والله أكبر من الجميع.
إغتنموا الفرصة قبل فوات الأوان ...!!!
بقلم/ د. عبد الرحيم جاموس
رئيس المجلس الاداري للاتحاد العام للحقوقيين الفلسطينيين
عضو المجلس الوطني الفلسطيني
E-mail: pcommety @ hotmail.com
الرياض 5/9/2019م