يبدو أن الأمور تنزلق بوعي أو بدون وعي لتجريم المقاومة بشكل عام دون التمييز بين الحق بمقاومة الاحتلال كحق مقدس ما دام الاحتلال قائماً ،من جانب ،وممارسة المقاومة من طرف البعض بطريقة ملتبسة وخارج السياق الوطني العام وأحياناً لغايات حزبية ومصلحية تسيء للمقاومة وللوطن ،من جانب آخر ،وهنا لا نتحدث عن تجريم المقاومة من طرف تل أبيب وواشنطن ودول أوروبية بل أيضا انتقادها وحتى إدانتها من طرف أنظمة عربية وكُتاب ومثقفين عرب وفلسطينيين.
ما جرى في جنوب لبنان بين حزب الله وإسرائيل من مواجهات محدودة ومضبوطة بحيث كان كلا الطرفين معني بعدم التصعيد ووصول الأمر إلى مرحلة الحرب المفتوحة ،يشبه ما يجري على حدود قطاع غزة من مواجهات محدودة بين فصائل المقاومة وجيش الاحتلال ومحاولة الطرفين أيضاً عدم الانزلاق لحرب مفتوحة ،وفي الحالتين صرحت المقاومة أنها سترد على أي عدوان إسرائيلي عليها ،والسؤال الذي يفرض نفسه وماذا لو لم تعتدي إسرائيل على لبنان وخصوصاً على حزب الله ،ولم تعتدي على قطاع غزة ومواقع المقاومة ؟ .
ردود الفعل المؤيدة والمعارضة سواء لسلوك حزب الله أو لسلوك المقاومة في قطاع غزة تستحضر موضوع المقاومة من حيث المفهوم ومن حيث الوظيفة والدور ويحتاج الأمر لتفكيك المصطلح بناء على الممارسة وليس مجرد تفكيك لغوي خالص .
فهل انتقال حركات المقاومة من استراتيجية الهجوم لتحرير الأرض المحتلة إلى استراتيجية الدفاع عن نفسها وعما بحوزتها من مناطق نفوذ يدخل في سياق مفهوم ووظيفة المقاومة كحركة تحرر وطني ؟ ،وهل إن المقاومة خرجت عن سياقها ومفهومها الأصلي وتحولت مجرد أداة لتحقيق مصالح حزبية أو أجندة خارجية ضيقة وبالتالي يجب وقفها كما يقول المنتقدون والذين وصل بهم الأمر لدرجة تجريمها ؟أم أن للمقاومة وظيفة ودور وطني وقومي وديني لمواجهة حالة الاستسلام والتطبيع وللحفاظ على إرادة الصمود والممانعة ؟.
في سياق التعريف اللغوي والاصطلاحي فإن المقاومة أو حركة المقاومة تعني حركة شعبية لمقاومة الاحتلال تهدف للحرية والاستقلال وتندرج في الفقه والشرعية الدولية في سياق حق الشعوب بتقرير مصيرها والدفاع عن نفسها ،وفي السياق التاريخي لظهور مصطلح المقاومة فإن كل جماعة حملت اسم المقاومة كانت حركة تحرر وطني في حالة اشتباك مع جيش الاحتلال ،سواء سمينا هذه الحالة بالعمل الفدائي أو حرب التحرير الشعبية أو حرب العصابات والمغاوير أو العمل الجهادي .هكذا كان الأمر بالنسبة لحركات التحرر في أوروبا في مواجهة الاحتلال النازي ،أو حركات المقاومة في بلدان العالم الثالث ضد الاستعمار كجبهة التحرير الفيتنامية وجبهة التحرير الجزائرية ،وحركة المقاومة اللبنانية عندما كانت إسرائيل تحتل مناطق في جنوب لبنان الخ .
نفس الأمر في فلسطين حيث ارتبط اسم المقاومة بداية بالعمل الفدائي أو الجهادي لتحرير فلسطين ،وكل الأحزاب الفلسطينية حملت أسماء تدل على الربط ما بين المقاومة وتحرير فلسطين ،فمنظمة التحرير الفلسطينية اسمها دال عليها كما أن ميثاقها الوطني –قبل أن يتم تعديله بعد توقيع اتفاقية أوسلو- أكد على أن هدف العمل الفدائي أو المقاومة المسلحة هو تحرير كل فلسطين ،نفس الأمر ينطبق على الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ،والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين ،وجبهة التحرير العربية ،وحركة التحرر الوطني الفلسطيني "فتح" الخ ،حتى الحركات الإسلامية كحركة المقاومة الإسلامية والجهاد الإسلامي فإن مواثيقها تؤكد بأن هدفها تحرير فلسطين من البحر إلى النهر .
وعلى هذا الأساس فإن أية جماعة تحمل السلاح ولا يكون هدفها تحرير أراضيها المحتلة ولا تعبر عن إرادة الجماهير الشعبية تسقط عنها صفة (حركة مقاومة) بما يحمله المصطلح من رمزية بل وقدسية واحترام .لكن في نفس الوقت فإن مفهوم المقاومة لا يقتصر فقط على المقاومة المسلحة بل يمكن للمقاومة أن تأخذ أشكالاً أخرى لمواجهة الاحتلال أو تجمع بين أشكال متعددة كالمقاومة السلمية أو العصيان المدني أو المقاطعة أو المقاومة الثقافية والفكرية الخ ،وذلك حسب خصوصية كل مجتمع وحسب موازين القوى وبما ترتأيه القيادة الوطنية الموحدة للمقاومة .
بالإضافة إلى ما سبق فإن المقاومة لا تأخذ معناها الحقيقي إلا إذا كانت تعبر عن الإرادة الشعبية وتشتغل في إطار استراتيجية وطنية شاملة بحيث لا يجوز احتكار أو مصادرة الحق بالمقاومة من طرف حزب بعينه ،كما سيكون من الخطورة داخل البلد الواحد أن تعلن جماعة أنها حركة مقاومة مسلحة وتمارسها بالفعل بينما بقية الأحزاب وغالبية الشعب لا توافقها الرأي ،كما سيكون من الخطورة ممارسة حزب بعينه للمقاومة المسلحة دون إذن أو على الأقل تنسيق من قيادة الشعب ،سواء كانت حكومة كما هو الأمر في لبنان أو كانت سلطة وطنية وحكومة كما هو الأمر في فلسطين ،والأدهى من ذلك أن يتحول سلاح المقاومة لأداة قمع وترهيب للشعب أو لمحاربة القوى والأحزاب الأخرى .
لا نريد هنا أن نسهب في الحديث عن الحالة اللبنانية ونموذج ومفهوم حزب الله للمقاومة ولجبهة المقاومة والصمود التي يقول الحزب إنها تمتد من حزب الله إلى حماس والجهاد في فلسطين إلى إيران وسوريا والعراق واليمن ، فللمقاومة في لبنان بعض الخصوصية عن الحالة الفلسطينية لأن إسرائيل لا تحتل لبنان الآن ،وبالتالي يمكن أن تندرج المقاومة في لبنان كما يقول حزب الله في سياق المقاومة الدفاعية أو مقاومة التصدي للعدوان أو مقاومة التطبيع والاستسلام الخ ، أما في فلسطين فالأمر مختلف .
في الحالة الفلسطينية وفي قطاع غزة تحديداً لا يجوز أن تتبنى حركات المقاومة استراتيجية المقاومة الدفاعية أي أن مهمتها مقتصرة على مواجهة أي عدوان على قطاع غزة وكأن ما يجري من عدوان واحتلال شامل لكل فلسطين خارج عن صلاحيات حركات المقاومة ،ولأن هكذا قول يوحي بأن هدف حركة حماس ومن يواليها كان منذ البداية "تحرير " قطاع غزة وإقامة دولة أو إمارة فيه ،في هذه الحالة فقط يمكن للمقاومة أن تكون دفاعية ما دام تم انجاز الهدف ! .
المقاومة في قطاع غزة أصبحت حالة ملتبسة ومنفلشة ومقتصرة على مسيرات ومظاهرات وصواريخ عبثية ومسميات هزلية كوحدات الكاوشوك والإرباك الليلي الخ ،مما جعلها ممجوجة ومثيرة للسخرية عندما تضبط إيقاعها حسب زيارة السفير القطري وما يجلب معه أو يعد به من مال ، ومع ذلك لا يمكن تجريم الحق بالمقاومة لمجرد أنه يتم ممارستها بطريقة خاطئة من طرف حركات المقاومة ،كما لا يمكن وقفها أو التخلي عنها لأن حركة حماس تريد ذلك ووقعت اتفاقية هدنة مع إسرائيل .
وأخيرا فإن المطلوب التأكيد على الحق بمقاومة الاحتلال وممارسة هذا الحق في كل ربوع الوطن المحتل في إطار استراتيجية وطنية تضبط مفهوم المقاومة وشكلها ووظيفتها وخصوصاً أن كل المساعي الفلسطينية للتوصل لسلام عادل وصلت لطريق مسدود وتوقف المقاومة في هذه الحالة تعني الاستسلام لمشيئة الاحتلال أو الاعتراف بأن فلسطين ليست محتلة ،مع العمل على تصويب الممارسة الخاطئة التي تزهق أرواح الشباب وتلحق الدمار في قطاع غزة دون أي مربح وطني لا آنياً ولا مستقبلياً ،كما يجب على حركة حماس أن تتوقف عن محاولة مصادرتها لحق المقاومة أو توظيفها لأغراض ومصالح حزبية أو لخدمة أجندة غير وطنية ،وعليها أن تتذكر أنها استنكرت ورفضت مطالب السلطة الوطنية في عهدي أبو عمار وأبو مازن بهدنة مؤقتة واعتبرت المقاومة حق مقدس وممارستها لا تخضع للمساومة ،وأن أية هدنة مرفوضة لأنها تتعارض مع الحق بالمقاومة ،معتبرة الهدنة أو التهدئة قبل زوال الاحتلال خيانة وطنية الخ .
بقلم/ إبراهيم أبراش