إجازة العمل في لبنان والمكانة القانونية – السياسية للاجئين الفلسطينيين (3/4)

بقلم: فتحي كليب

لا يمكن مناقشة الأزمة التي إفتعلتها وزارة العمل اللبنانية بدءاً من منتصف شهر تموز (يوليو) 2019 بشأن العمال الفلسطينيين في لبنان، إلا في اطار الصراعات والإنقسامات السياسية والطائفية التي يعيشها لبنان منذ زمن، والتي ينتمي جزء كبير منها إلى مربع الصراعات الإقليمية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية وما تتعرض له من محاولات أمريكية وإسرائيلية لتصفيتها..

وإن كانت المشكلة – الأزمة بين وزارة العمل واللاجئين الفلسطينيين في لبنان قد إنفجرت، شكليا، نتيجة إجراءات وزير أطلق خطة تحت عنوان «مكافحة العمالة الأجنبية غير الشرعية» وصفها كثيرون أنها إرتجالية، تفتقد للموضوعية، وتستهدف فئة بشرية بعينها، إلا أن جذور هذه الأزمة تعود إلى عقود مضت، وتتعلق بشكل مباشر بقصور القوانين اللبنانية عن التعاطي مع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وفق خصوصيتهم التاريخية والسياسية والقانونية باعتبارهم جزء من شعب هُجِّر عام 1948 من أرضه في سياق تاريخي معروف:

ثالثاً- علاقة إجازة العمل بالمكانة القانونية – السياسية للاجيء

 (1)

محاذير إجازة العمل

■ بعد كل هذا العرض، لعل السؤال الذي لا بد منه، لماذا يرفض اللاجئون اليوم حصولهم على إجازة عمل كي يتسنى لهم العمل بحرية، وما هي المحاذير التي يتحدثون عنها، خاصة وأن وزير العمل يصر على أنها لمصلحتهم؟ وعلى هذا نجيب بما يلي:

1- إن من شأن تشريع وجوب إجازة العمل بالنسبة للعامل الفلسطيني أن يؤثر على وضعية اللاجئين في كثير من الأمور، سواء على مستوى الوضعية القانونية في لبنان، أو على مستوى المكانة القانونية للاجيء.

2- فلسفة إجازة العمل تقوم على أنها لا تمنح سوى للأجنبي الوافد بغرض العمل وليس للاجيء المقيم في لبنان بشكل قانوني، ومسجل بشكل رسمي في دوائر وسجلات وزارة الداخلية اللبنانية(المادة 3 من مرسوم تنظيم عمل الأجانب).

3- لأن القبول بالإجازة يعني القبول بواقع التمييز والقبول بواقع التعاطي مع الفلسطينيين كأجانب، وهو أمر لن يتوقف عند حدود إجازات العمل، بل سيتعداه إلى حقوق أخرى تمس الوضع القانوني للاجيء(المادة 1 من القانون المتعلق بتنظيم الدخول إلى لبنان والإقامة فيه والخروج منه).

4- لأن إجازة العمل وضعت بهدف حماية اليد العاملة اللبنانية، ووفقا لاحتياجات السوق، وبالتالي قد لا تمنح هذه الإجازة إذا ما تعاطى الوزير أو أحد موظفيه باستنسابية مع هذه المسألة، وهذا أمر مُحتمل الوقوع.

5- إذا كانت مخالفة أحد شروط إجازة العمل تعني مخالفة للموافقة المسبقة الممنوحة للأجنبي الراغب في الدخول إلى لبنان ما يستوجب إنهاء إقامته وترحيله، فكيف يمكن التعاطي مع اللاجيء الفلسطيني في حال تم مخالفة شروط منح الإجازة، فهل ستصبح إقامته مهددة؟

6- لأن إجازة العمل تمنح إستناداً إلى مهنة معيَّنة، وبالتالي فإذا ما تغيرت هذه المهنة، وهذا أمر سيحدث حكما مع عشرات بل مئات العمال نظراً لطبيعة المهن التي يعمل فيها عمال فلسطينيون، فإن على العامل الفلسطيني التقدم للحصول على إجازة جديدة؛ وبالتالي يُحظر على العامل الإنتقال من مهنة إلى أخرى بدون الحصول على موافقة من وزارة العمل(المادة 15 من مرسوم تنظيم عمل الأجانب).

7- منح إجازة العمل وتجديدها يبقى سيفا إستنسابيا مسلطا فوق رؤوس العمال من قبل وزير العمل وموظفيه الذين لهم الحق في منح، أو عدم منح الإجازة، أو تأخير منحها، وفقا لأسباب واعتبارات يَرَون أنها لا تتوافق مع القوانين والأنظمة الإدارية في الوزارة.

8- يمكن لوزارة العمل أن تلغي إجازة العمل ساعة تشاء، إذا رأت أن في ذلك مصلحة لليد العاملة اللبنانية، مثلاً «إذا صرفت مؤسسة إجيرا لبنانيا وأبقت على إجير أجنبي، أو إذا رفضت المؤسسة إعطاء تفضيل العمل إلى لبناني، أو إذا لم تقم المؤسسة بتدريب اللبناني على العمل بدلا من الأجنبي» (المادة  17 من مرسوم تنظيم عمل الأجانب).

■ هذه النصوص وغيرها لا يغيّرها الكلام المتكرر لوزير العمل بأنه يمنح إستثناءات وتمييزا إيجابيا لصالح العمال الفلسطينيين إنطلاقا من نصوص التعديلين القانونيين (128 و129) اللذين أقرهما البرلمان اللبناني عام 2010. علما أن هذه النصوص ما زالت حبراً على ورق نتيجة وجودها في أدراج وزارة العمل، حتى لو أصر وزير العمل على أنه يمتلك الصلاحية في تطبيق بعض نصوص هذه التعديلات، خاصة فيما يتعلق بإعفاء العمال الفلسطينيين من رسوم إجازة العمل.

إن مشكلة إجازة العمل، إلى جانب الأسباب السياسية والقانونية التي يرفعها الفلسطينيون، لا تكمن فقط في الجانب المادي لجهة الإعفاء من الرسوم، بل إن نظرة سريعة على الشروط والمستندات الواجب توافرها للتقدم بطلب الحصول على هذه الإجازة تجعل حصول الفلسطيني عليها، شديد الصعوبة، نظراً للسياسات الإستنسابية ولبيروقراطية الإدارة، خاصة في التعاطي مع اللاجيء الفلسطيني.

■ زِدْ على ذلك الرسوم المتوجبة للحصول على المستندات المطلوبة، والتي يتطلب - أيضاً - كل مستند منها مبالغ لا يستطيع معظم العمال تحملها، علماً إن إجازة عمل الفلسطيني لمدة ثلاث سنوات، ومع تجديدها يحتاج إلى إجراءات شبيهة تقريباً، منها على سبيل المثال:

1- عقد عمل مصدّق من كاتب العدل يُشار فيه إلى نوع العمل، مكانه، مدته والمخصص الشهري الذي يتقاضاه.

2- طلب موقّع من رب العمل والإجير.

3- شهادة إيداع بقيمة مليون ونصف مليون ليرة في حال الإنتقال من رب عمل إلى رب عمل آخر بموجب تنازل مرفق وموثّق أو في حال أرفقت الموافقة المبدئية بطلب الإجازة.

4- صورة عن جواز سفر الإجير الأجنبي يتضمن سمة الدخول إلى لبنان لا تقل صلاحيته عن 8 أشهر (وهذا ما يؤكد بأن ما قصده المشترع بمصطلح «الأجنبي» هو ذلك الذي يريد الدخول إلى لبنان بقصد العمل).

5- صورة عن  بطاقة هوية رب العمل.

6- فحص مخبري للأمراض السارية والمعدية صادر عن أحد المختبرات المرخَّص لها من وزارة الصحة يتضمن الفحوصات عن عدد من الأمراض المعدية.

7- تصريح من الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي يثبت أن الإجير مسجلا لديه.

8- صورتان شمسيتان للإجير.

9- صورة عن مستندات المؤسسة أو الشركة.

■ أما بالنسبة للإجير الفلسطيني، فيضاف إلى المستندات السابقة، ما يلي:

1- إستدعاء موقع من صاحب العمل، يذكر فيه الإسم ومحل الإقامة، ورقم الهاتف.

2- صورة عن بطاقة لاجيء صادرة عن وزارة الداخلية والبلديات - مديرية الشؤون السياسة واللاجئين.

3- إفادة عمل أو إفادة وعد بالإستخدام.

4- في حال رغب الإجير الفلسطيني بتغيير مكان العمل، فعليه أن يبلغ الدائرة المختصة بذلك، كما عليه أن يقدم إفادة عمل جديدة خلال مدّة شهر من بدء عمله الجديد■

(2)

تسهيلات معلقة على قرارات إدارية

■ رغم ذلك، فإن وزارة العمل تواصل حديثها، وبشكل مُضلِل، بأن اللاجئين الفلسطينيين أصبحت لديهم خصوصية تميّزهم عن العمال الأجانب. وهذه الخصوصية مكرسة بالقوانين اللبنانية، وهي بالتأكيد تقصد التعديلات القانونية لعام 2010، والتي لم يصدر بشأنها أي مرسوم تنظيمي، بل مجرد قرارات إدارية يمكن أن تلغى بقرارات إدارية أيضا؛ أي أن هذه القرارات ليست سوى عصافير على الشجرة لا تقدم ولا تؤخر ولا تُغيِّر في الواقع القانوني للعمال الفلسطينيين بشيء. والأهم من ذلك، إن ما يعتبره وزير العمل إعفاءات واستثناءات وتسهيلات ليست سوى قضايا إدارية تتعلق بعمل وزارة العمل، ما يؤكد صحة الإتهامات الفلسطينية بأن موظفي وزارة العمل في تعاطيهم مع العمال، واللاجئين، الفلسطينيين يذهبون إلى الصيغة الأكثر تشدداً في تفسيرهم للقوانين الغير محددة تماماً، حتى لا نقول الغامضة. ومن هذه التسهيلات التي قد تلغى في أي لحظة سواء في عهد الوزير الحالي، أو الذي يليه:

1- الإعفاء من رسم إجازة العمل (قانون رقم 129 – تعديل المادة 59 من قانون العمل) ومن شرط المعاملة بالمثل.

2- الإعفاء من الفحص المخبري ( قرار رقم 7/1 تاريخ 22/1/2013 )، والقرار يلغيه قرار أو مرسوم.

3- الإعفاء من شهادة الإيداع المصرفية (قرار رقم 7/1 تاريخ 22/1/2013)، أيضا قرار إداري هدفه إمتصاص مواقف الرفض الفلسطينية.

4- إعفاء من شرط إبراز إفادة ضمان أو تعهد بتسجيل العامل في الضمان كشرط للحصول على إجازة عمل (أيضا قرار إداري لا يدعمه نص قانوني).

5- الإعفاء من أي تصديق لدى الكاتب العدل.

6- عدم فرض نسب لعدد الأجراء الفلسطينين مقارنة باللبنانيين كما هو حاصل مع العمال الأجانب، وهذا قرار إداري يتناقض مع نص المادة 17 من مرسوم تنظيم عمل الأجانب رقم 17561؛ وبالتالي إذا كان الوزير قد تغاضى عن إستحضار هذا النص، كما يقول، فما الذي يضمن وضع هذا القرار الإداري لمصلحة المرسوم الذي هو في مرتبة قانونية أرقى.

7- الإكتفاء بإفادة من صاحب العمل تبيّن صفة العامل الفلسطيني وأجره الشهري وبدء ونوع عمله، أو عقد عمل موقّع من صاحب العمل والعامل.

■ ولعل التساؤل المشروع، في ضوء ما يقوله الوزير المعني بأن صلاحياته تمنحه هامشاً يمكنه من إزالة بعض العقبات من أمام العامل الفلسطيني، لماذا لم تصدر كل هذه الإعفاءات والإستثناءات في مراسيم تنظيمية، أو حتى قرارات إدارية في أوقات سابقة؟ ولماذا تَمنَّعَ خمسة وزراء عن إصدارها؟ خاصة وأن الوزير يقدم رأيا قانونيا يعتبر فيه أن التعديلين القانونين لا يحتاجان لمراسيم تنظيمية، لأن الوزارة بدأت بتطبيقهما منذ العام 2010، رغم أن هذا أمر يحتاج إلى تدقيق..

لكن ما صَدَقَتْ به وزارة العمل هو هامش الصلاحيات الواسعة التي يتمتع بها الوزير في وزارته، وهو قادر حتى على تجاوز الشرط القانوني، وليس كما يقول، إن إلغاء الإجازة يتطلب تعديلا قانونيا، وهذا أمر صحيح في جانب كبير منه، إلا أن بامكانه، لو توافرت النية الحسنة، أن يتجاوز شرط الإجازة، كما حصل في قرار مدير عام وزارة العمل على سبيل المثال، الذي أصدر قراراً قبل إجراءات وزير العمل بحق العمال الفلسطينيين بفترة وجيزة وتحديداً في الثامن من آذار(مارس) 2019، أعفى بموجبه العمال المصريين في لبنان من تقديم إفادة خدمة من الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي من ضمن المستندات المطلوبة للحصول على إجازة عمل.

■ وقد نقلت الصحافة اللبنانية تعليقات لأحد أعضاء مجلس إدارة الضمان الإجتماعي الذي إعتبر أن قرار مدير عام وزارة العمل «مخالف لأربعة قوانين ومرسوم وقرارات وزراء العمل السابقين»، لأن العامل الأجنبي، والمصري ضمنا، يخضع لقانون العمل والضمان الإجتماعي، لكنه لا يستفيد منه، إلا إذا كانت دولته تعامل لبنان بالمثل، وتفيد اللبناني العامل لديها من التقديمات. وفي حالة اللبناني في مصر، لا يتوافر هذا الإمتياز. فيما قال مدير عام الوزارة أن ما أصدره ليس إستثنائيا، بل إن «عدة وزراء صاروا عاملينها» (جريدة الأخبار اللبنانية: 14 آذار/مارس 2019).

لذلك، فإن وزير العمل اللبناني، لو كان قاصداً فعلا تطبيق خطة تتعلق بتنظيم العمالة الأجنبية في لبنان خارج إطار الحسابات الضيِّقة وخارج إطار التجاذبات السياسية في لبنان، بل خارج إطار تصفية حسابات مع الشعب الفلسطيني، خاصة في هذا التوقيت، لكانت أخذت المعالجات مساراً مختلفا، وهي الإجابة على تساؤل وزير العمل نفسه: لماذا لم يتظاهر الفلسطينيون عام 2010 عندما أقر البرلمان اللبناني التعديلين القانونيين؟ وهذا ما يفتح الباب أمام مناقشة خطة وزير العمل والعناوين التي طرحتها■

(3)

إجراءات وزارة العمل في واقعها الراهن

■ وضعت وزارة العمل اللبنانية إجراءاتها التي بدأت بتطبيقها في 9 تموز (يوليو) 2019 بملاحقة العمال الفلسطينيين الذين يعملون على الأراضي اللبنانية تحت عنوانين: الأول مكافحة العمالة الأجنبية غير الشرعية؛ والثاني الدفاع عن العمالة اللبنانية من منافسة العمالة الأجنبية. وفي النقطتين هناك كلام يقال فيما يتعلق بالعمال الفلسطينيين وحقيقة أوضاعهم الإقتصادية والقانونية ومسار السياسات اللبنانية معهم منذ العام 1948.

في النقطة الأولى، لا يمكن الحديث عن الأوضاع القانونية للعمالة الفلسطينية في لبنان خارج إطار القوانين والقرارات الإدارية اللبنانية الصادرة عن عدد من الوزارء في سنوات سابقة. فحتى هذه اللحظة، كما أسلفنا، ليست هناك من قوانين خاصة تُميِّز اللاجئين الفلسطينيين المقيمين بشكل قانوني في لبنان عن غيرهم من العمال الأجانب الوافدين بغرض العمل والحاصلين على موافقات مسبقة من الأمن العام اللبناني، وهم الذين يحصلون على إجازات عمل حكما، ثم يتقاضون أجورهم ويعودون إلى بلدانهم.. وبالتالي فإن العلاقة بين السلطات اللبنانية واللاجئين الفلسطينيين تحكمها، بشكل غير منطقي، قوانين دخول وخروج الأجانب من وإلى لبنان، بما فيها قانون تنظيم عمل الأجانب الذي يطبق قسراً على العمال الفلسطينيين.

■ إن ملاحقة العمال الفلسطينيين في لقمة عيشهم وإقفال أبواب رزقهم، أكانوا من أرباب العمل أم من الأجراء، ناهيك عن المهنيين من أصحاب الشهادات الجامعية، تحت شعار عدم حصولهم على إجازة العمل، هو أمر تدحضه الوقائع على الأرض بأكثر من جانب؛ وبالتالي فإن القول إن الفلسطينيين يرفضون تطبيق القوانين اللبنانية، كما إدعت إحدى الصحف اللبنانية الكبرى، كلام ليس في مكانه، كون القوانين التي يفترض أن الفلسطيني قد خالفها هي أصلا لا تعنيه ولم توضع لتطبق عليه، كما يقول وزير العمل الأسبق طراد حمادة. لذلك فمثل هذا الإدعاء ليس سوى ذريعة لتمرير إجراءات وزارة العمل تحت عنوان «تطبيق القانون».

■ لهذا السبب وغيره، أحجم العمال الفلسطينيون عن التقدم للحصول على إجازة عمل، طالما أنها لا تغير شيئا لا بوضعهم القانوني، ولا بمكتسباتهم وضماناتهم الصحية والإجتماعية وغيرها.. خاصة فيما يتعلق بصندوق الضمان الإجتماعي. وتكفي الإطلالة على عدد إجازات العمل التي حصل عليها العمال الفلسطينيون لتأكيد هذا الإستخلاص. فخلال السنوات الأخيرة لم يزد عدد الإجازات التي منحت لعمال فلسطينيين في العام الواحد عن 625 إجازة عمل؛ فقد بلغت 358 إجازة عام 2012 من أصل 136 ألف إجازة عمل منحت للعمال الأجانب؛ و361 إجازة عام 2013 من أصل 117 ألف إجازة؛ و621 عام 2014 من أصل 155 ألف إجازة؛ و625 إجازة عام 2015 من أصل 149 ألف إجازة عمل ممنوحة للأجانب؛ و381 إجازة من أصل 162 ألف إجازة عمل عام 2017؛ أما العام 2018 فقد بلغت صفر إجازة عمل منحت للعمال الفلسطينيين.

■ إن العامل الفلسطيني يعود من جديد ليقع ضحية عدم وجود قوانين لبنانية تحدد طبيعة العلاقة بينه وبين السلطات؛ فالقانون، وإن كان يتحدث عن عمالة أجنبية وافدة، فهو رغم ذلك، يطبق على العامل الفلسطيني دون أن يتمتع بأية حقوق أو حماية قانونية، لا بل هو يطالب بتشريع وضعيته القانونية. وإذا كان هناك من «عمالة فلسطينية غير شرعية» فإن السلطات اللبنانية هي من تتحمل مسؤولية هذه الفوضى نتيجة عدم سن قوانين تتعاطى بموضوعية مع العمالة الفلسطينية، التي مهما قيل فيها من مدح أو ذم، إلا أن واقعها الراهن يختلف عن واقع العمالة الأجنبية، وبالتالي لا بد من تشريعات قانونية تراعي هذه الخصوصية■

(4)

المنافسة المزعومة لليد العاملة اللبنانية

■ أما في النقطة الثانية، فإن منافسة اليد العاملة الفلسطينية لليد العاملة اللبنانية هي العنوان الذي يتذرع به بعض المسؤولين اللبنانيين لتبرير إجراءاتهم التمييزية والإقصائية ضد العمال الفلسطينيين، وفيه تستحضر معلومات مضلِلة تستند غالبا إلى مبالغات تقود إلى تضخيم عدد العمال الفلسطينيين في لبنان بغرض إثبات مقولة «المنافسة» تمهيداً لاتخاذ إجراءات قانونية لتقييدها، رغم أنه صدر خلال السنوات السبع الماضية، ثلاثة إحصاءات هامة قدمت معطيات رقمية عن أوضاع اللاجئين الإقتصادية والإجتماعية، بما فيها أوضاع العمالة الفلسطينية، حجمها، خصائصها ومشكلاتها. وهذه الإحصاءات هي:

1- مسح القوى العاملة للاجئين الفلسطينيين المقيمين في المخيمات وبعض التجمعات في لبنان، الذي أُنجز من قبل منظمة العمل الدولية ولجنة عمل الفلسطينيين في لبنان عام 2012، بمشاركة الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني وإدارة الإحصاء المركزي في لبنان.

2- دراسة الجامعة الأميركية في بيروت بالتعاون مع وكالة الغوث عام 2015.

3- التعداد العام للسكان والمساكن في المخيمات والتجمعات الفلسطينية في لبنان عام 2017.

4- عدد من الدراسات والمسوحات أجرتها لجنة الحوار اللبناني - الفلسطيني في مناسبات عدة.

■ فيما قدرت بعض الدراسات أن أعداد اللاجئين تتراوح بين 193 إلى 280 ألف نسمة، فقد أشار التعداد العام أن العدد لا يتجاوز 174 ألف نسمة (بالتحديد: 174.422). وهذه الأرقام إنعكست على حجم العمالة الفلسطينية التي بلغت – كحد أقصى - وفقا لتقديرات المسح الذي أُجرى عام 2012، 90 ألف نسمة، تشكل حوالي 7% من إجمالي القوى العاملة في لبنان المقدرة بـ 1.3 مليون شخص؛ بينما لم يزد العدد بالنسة للتعداد الذي أُجرى عام 2017 عن 51 ألف نسمة (بالتحديد: 51.393).

ووفقا لحساب ومعطيات تكوَّنت لدى لجنة الحوار اللبناني - الفلسطيني، فإن الحجم الفعلي للعمالة الفلسطينية لا يمكن أن يكون موضع منافسة للعمالة اللبنانية إنطلاقا من التالي: إذا كان حوالي ربع العاملين يعملون حصراً في المخيمات، وربع ثان يعملون في المخيمات ومحيطها، وحوالي النصف يعملون خارج المخيمات، فمعنى هذا أن مستوى المنافسة – على إفتراض صحة التعبير - مع القوى العاملة اللبنانية سوف يتقلص إلى النصف.

هذا يعني بوضوح، أن الحجم الأقصى للقوى العاملة الفلسطينينة الذي يمكن أن يدخل في منافسة مباشرة مع القوى العاملة اللبنانية هو نصف القوى العاملة الفلسطينية الموجودة كحد أقصى، أي ما يقدر بحوالي 45 ألف عامل فقط، يمثلون 3.5% من إجمالي قوة العمل في لبنان. أما إذا إعتمدنا أن العدد هو 51 ألف نسمة، وفقا للتعداد، فإن الحجم المنافس المفترض لن يزيد عن 25 ألف عامل. وهذا ما يؤكد خَتَل نظرية المنافسة، وأن الإجراءات ضد العمالة الفلسطينية، إنما تهدف إلى تحقيق مكاسب سياسية لا علاقة لها لا بتنظيم عمالة، ولا بحماية يد عاملة لبنانية من المنافسة؛ إنها – باختصار – تتدرج في خانة التوظيف السياسي.

■ وبعيداً عما آل إليه حجم اليد العاملة الفلسطينية في السنوات الأخيرة، لم تكن هذه العمالة – تاريخياً-، وفي أيٍ من الأوقات تشكل منافسة للعمالة اللبنانية. إضافة إلى ما سبق، فإن ضآلة حجم هذه العمالة مقارنة بحجم العمالة الأجنبية في لبنان، وطبيعة الأعمال التي تشغلها العمالة الفلسطينية، التي هي أصلاً ليست موضع منافسة، كالعمل في قطاع التمريض مثلاً. والمعروف أن هذا القطاع يشكو من قلة أعداد اللبنانيين العاملين فيه، ما دفع بنقابة الممرضات والممرضين إلى الطلب من وزيري العمل والصحة من أجل إصدار إستثناء يسمح للفلسطيني بالعمل في هذه المهنة، كي يغطي النقص الذي تشكو منه المستشفيات والمؤسسات الصحية اللبنانية؛ هذا إضافة إلى مهن أخرى لا يُقبل عليها اللبنانيون كالعمل في محطات الوقود، والبناء، والأفران، والزراعة، وغير ذلك من مهن تستقطب الفلسطيني كأمر واقع وليس بمنّة أو كرم من الدولة اللبنانية ومؤسساتها..

■ إضافة إلى ما ذكر، إذا ما أخذنا بعين الإعتبار عدد العاملين في وكالة الغوث والعاملين في الفصائل الفلسطينية وأجهزتها المختلفة، وفي المؤسسات الإجتماعية الناشطة في المخيمات، فإن العدد ينخفض إلى ما دون النصف، ما يجعل مصطلح المنافسة بلا مضمون فعلي.

لذلك، فإن الحديث عن منافسة اليد العاملة الفلسطينية لليد العاملة اللبنانية ليس سوى كذبة كبيرة، لا أساس لها البتة في واقع الحال، يُراد منها تبرير سياسة الدولة اللبنانية بحرمان كل فئات الشعب الفلسطيني من حقوقهم الإجتماعية والإنسانية؛ وبالتالي، فإن المشكلة الرئيسية ليست تقنية، ولا تتعلق بحجم القوة العاملة الفلسطينية أو غير ذلك، بل هي قبل كل شيء مشكلة سياسية كما كل الملف الفلسطيني، وحلَّها يجب أن يكون سياسياً وخارج إطار التوظيف السياسي والمذهبي الذي إعتاد أن يتعرض له، الشعب الفلسطيني في لبنان■

(5)

إجازة العمل بين السياسة والقانون

■ إن إصرار الفلسطينيين على رفض مبدأ إجازة العمل يعود بالأساس لأسباب سياسية وقانونية، وليس مالية في المقام الأول، رغم أهمية العامل المادي بالنسبة للعمال الفلسطينيين. وإذا ما قمنا بربط الأمور بعضها ببعض سنصل إلى إستنتاج يقول إن الإصرار على فرض إجازة العمل على العمال الفلسطينيين يتقاطع – موضوعياً - مع المشروع الأمريكي - الإسرائيلي لتصفية قضية اللاجئين وحق العودة، إنطلاقا من الإعتبارات التالية:

أعلن الرئيس الأمريكي صراحة أنه لا يعترف بأعداد اللاجئين الفلسطينيين الحالية المسجلين في قيود وكالة الغوث والذين يناهز عددهم ستة ملايين لاجيء، فيما دعا رئيس وزراء العدو نتنياهو صراحة وبشكل علني إلى تصفية وكالة الغوث وإحالة موضوع اللاجئين الفلسطينيين إلى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين. ولسنا بحاجة لنعيد التأكيد على أن المرتكزات الأساسية التي يستند إليها حق العودة هي القرار الأممي 194، والمكانات القانونية - السياسية الثلاث التي تستند إلى هذا القرار، وهي: مكانة لاجيء، مكانة المخيم، ومكانة وكالة الغوث. ويبدو واضحا أن الإدارة الأمريكية وإسرائيل تجهدان لضرب تلك المكانات الثلاث بتدمير وتهجير المخيمات وإفراغها من سكانها، وجعلها أماكن تعج بالفقراء وبطالبي اللجوء، وقطع المساهمة المالية الأمريكية عن وكالة الغوث تمهيداً لتصفية أعمالها، وإحالة خدماتها إلى الدول المضيفة.

■ تبقى مسألة العبث بالمكانة القانونية - السياسية للاجئين، وهنا يمكن أن نجد رابطا أو تقاطعا ما مع المشروع الأمريكي - الإسرائيلي.. والأمور هنا لا تعتمد على النوايا بل على وقائع وسياسات ومشاريع تتحرك بشكل يومي: فالأمر الذي لا يجادل فيه إثنان هو أن إجازة العمل تمنح بالأساس لعامل وافد، بدليل الحديث المتكرر في القوانين والمراسيم اللبنانية المختلفة عن بعض المصطلحات وعديد الصياغات، التي ذكرت سابقاً.. ويستتبع إجازة العمل إقامة الأجنبي الذي لا يمكن أن يحصل على إقامة قانونية، إلا إذا كان حاصلا على إجارة عمل.. ولا يحصل على الإجازة، إلا إذا كان مسجلا في صندوق الضمان الإجتماعي.

■ ولنأخذ السيناريو التالي ونطبقه على عامل فلسطيني، ونبني عليه سياسياً وقانونياً وواقعياً:

تنص المادة الثانية من مرسوم تنظيم عمل الأجانب (17561) لعام 1964 وتعديلاته على التالي: «على كل أجنبي يرغب في الدخول إلى لبنان لتعاطي مهنة أو عمل، بأجر أو بدون أجر، أن يحصل مسبقا على موافقة وزارة العمل قبل مجيئه إليه»، أي أن الموافقة المسبقة لوزارة العمل هي شرط متمم للإجازة التي تسبق أمر الحصول على الإقامة. وتتابع المادة السابعة من نفس المرسوم، بقولها: «إن إجازة العمل هي إمتداد للموافقة المسبقة وشرط متمم لها، فإذا إنتهى مفعول الإجازة أو رفض تجديدها، بَطُلَ مفعول الموافقة المسبقة، وعلى صاحب العلاقة في هذه الحالة الحصول على موافقة مسبقة جديدة إذا أراد العمل في لبنان».

وطالما أن مدة إجازة العمل هي ثلاث سنوات بالحد الأقصى، وفقا لنص المادة 14، وكل إجازة لا يقدم طلب تجديدها خلال شهر على الأقل من موعد إنتهائها، تعتبر ملغاة حكما، فيضحى الأجنبي بدون إجازة عمل، وتطبق عليه –تالياً- التدابير والعقوبات المنصوص عليها في القوانين والأنظمة المرعية الأجراء.. فإن هذا يعني بكلام واضح، أن الإقامة قد تسقط عن العامل الأجنبي، إذا ما ألغيت إجازة العمل، ما يدفع بالسلطات، إما إلى سجنه، أو إلى ترحيله إلى البلد الذي قدم منه. لكن ماذا لو تقدم فلسطيني بطلب الحصول على إجازة عمل ولم يتمكن من الحصول عليها، أو تجديدها لسبب أو لآخر، خاصة وأن المرسوم السابق في مادته 17 يجيز لوزارة العمل إلغاء الإجازة، كلما قضت مصلحة اليد العاملة اللبنانية بذلك، هنا التقدير والإستنساب الناجم عنه، هو الفيصل.. فإذا إفترضنا أن البطاقة الزرقاء التي يحملها اللاجئون الفلسطينيون هي بمثابة بطاقة إقامة، فإن هذه الإقامة تصبح عرضة للخطر طالما تم ربطها بإجازة العمل، كما يحصل مع العامل الأجنبي.

■ هذا هو مكمن القلق الذي يعبر عنه اللاجئون الناجم من إحتمال العبث بالمكانة القانونية - السياسية للاجئين، بما يخدم المشروع الأمريكي – الإسرائيلي؛ وهنا لا ينفع الحديث عن حسن نية الوزير، أو دوره في الدفاع عن القضية الفلسطينية وغير ذلك، فهذا زجل لا يمت إلى صلب الموضوع بصلة.

ولا نعتقد أن هذه مسألة كانت غائبة عن تفكير من أشار على وزير العمل بتحريك بعض مواد قانون العمل وتطبيقه على العمال الفلسطينيين في هذه المرحلة، حيث بدأت التطبيقات الميدانية لصفقة ترامب – نتنياهو.. وفي هذا أيضا إجابة على تساؤل لوزير العمل: لماذا لم يتظاهر الفلسطينيون عندما أقر البرلمان عام 2010 التعديلات القانونية؟ وهنا نقول أن ما حصل حتى الآن من هبّة شعبية في المخيمات الفلسطينية، هبّة رافضة لإجراءات وزارة العمل، هي الحد الأدنى مما كان من المتوقع أن يقع، نظراً للتداعيات المعيشية – الإجتماعية، وكذلك السياسية والقانونية لإجراءات الوزير، التي لم تكن معالمها قد إتضحت بعد بنفس الوضوح الذي تبدت فيه للعيان الآن، أمام القاصي والداني، بعد أن أماطت اللثام عن وجهها القبيح، صفقة القرن للتسوية التصفوية للحقوق الوطنية الفلسطينية، ومن ضمنها حق العودة إلى الديار والممتلكات.

■ إن بعض الإجتهادات القانونية تذهب إلى القول باستحالة تطبيق بعض مواد قانون العمل على العمال الفلسطينيين، لأنه لم يوضع في الأساس لهم، لكن عدم رؤية القانون لواقع قائم لا يعني أنه غير موجود، بل إن المطلوب في هذه الحالة يصبح ضرورة تعديل القانون، لا القفز عن الواقع ومجافاته، لأن مجافاة الواقع تؤدي إلى رسم سياسات خاطئة تثير مشكلات كبيرة.

مثل هذا الرأي يتبناه وزير العمل الأسبق طراد حمادة، الذي سبق له أن أصدر قراراً، عندما كان على رأس وزارة العمل، سمح بموجبه للعمال الفلسطينيين بالعمل في مهن هي بالإساس محصورة باللبنانيين، وقراره هذا كان موضع ترحيب وتقدير فلسطيني ولبناني ودولي، ولم يتحدث أحد في حينه أن الوزير خرق القانون، أو أعطى للعامل الفلسطيني إستثناءاً لم يجزه القانون.

■ إن تطبيق النص بخلفية حسن النية وبالروحية التي قصدها المُشترع، من شأنها إيجاد الحلول الواقعية والمنطقية. ولعل السؤال الوجيه هو: إذا كانت مواد القوانين جامدة وغير متحركة، فكيف يمكن الموافقة على إعفاء الفلسطينيين من رسوم الإجازة التي هي ضرائب مُستحقة لخزينة الدولة. لكن رغم ذلك، والكلام للوزير طراد حماده، لاحظ القانون خصوصية العامل الفلسطيني وأعفاه من الرسوم. وعليه يلزم أن نكمل معالجة حقوق هذه الوضعية الخاصة، كأن يكتفي العامل الفلسطيني المسجل في وزارة الداخلية بتسجيل مكان عمله في دوائر وزارة العمل (علم وخبر) يعفيه من الإجازة التي لم تُسَن من أجله، ولوضع قانوني مثل وضعه، وطالما أعفيناه واستثنيناه من دفع الرسوم.

■ إن العامل واللاجيء الفلسطيني لا يمكن أن يفهم سياسة الضغط عليه ومحاصرته حتى في لقمة عيشه، إلا في إطار المزيد من الضغوط السياسية والإقتصادية التي تنسجم والضغوط الأمريكية السياسية والإقتصادية لتصفية القضية الفلسطينية. وإذا كانت صفقة ترامب - نتنياهو تستهدف الفلسطينيين واللبنانيين في آن، فإن المطلوب هو مواقف مشتركة تحمي حقوق ومصالح الشعبين الشقيقين بعيداً عن سياسات الضغط والتجويع، بما يستجيب لحقوق الشعب الفلسطيني الإنسانية، وبما لا يتناقض مع مصالح لبنان الصميمة، لأن طبيعة المرحلة والمخاطر التي تتهدد اللبنانيين والفلسطينيين سواء بسواء، تستوجب مواقف مشتركة تدعم حق العودة وتصون الهوية الوطنية للاجئين، وتشكل نموذجا للمواقف العربية والدولية المطلوبة في مواجهة صفقة القرن وغيرها من المشاريع التي تستهدف الفلسطينيين واللبنانيين في آن■

بقلم/ فتحي كليب

أيلول (سبتمبر) 2019

لأية ملاحظات او استفسارات او لطلب الدراسة كاملة، الرجاء التواصل على العنوان التالي:

[email protected]