كلمة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في افتتاح أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، جاء فيها مايلي:
(أرى كوكبا عظيما وإذا أرادت الشعوب الحصول على ديمقراطيتها فعليها أن تعتز بتاريخها وتراثها.
الولايات المتحدة تملك أقوى جيش في العالم لكننا نتمنى ألا نضطر لاستخدام القوة.
الولايات المتحدة خسرت نسبة كبيرة من مصانعها نتيجة المنافسة الصينية.
الصين تتبع سياسات من شأنها الإضرار بالاقتصاد الأمريكي.
واشنطن فرضت رسوما جمركية كبيرة على منتجات صينية.
علينا أن نمنع إيران من الحصول على سلاح نووي لذا انسحبت واشنطن من الاتفاق النووي.
قادة إيران العام الماضي اعتبروا "إسرائيل" سرطانا يجب إزالته والقضاء عليه.
الاتفاق النووي الذي وقع مع إيران عام 2015 يعد اتفاقا فاشلا.
من المهم إقامة علاقات طبيعية بين "إسرائيل" وجيرانها.
مستعدون لتوقيع إتفاق تجاري مع بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الاوروبي ......!)
تلك النقاط الرئيسية التي تضمنها خطاب الرئيس ترامب في افتتاح الدورة الرابعة والسبعين للجمعية العامة يوم الثلاثاء 24/9/2019م في نيويورك...
نحن ندرك ان الدول ليست جمعيات خيرية، وبالتالي لا تبني منظومة سياساتها على اساس المبادىء الاخلاقية والقانونية فقط، وان استخدمتها في تسويق تلك السياسات، وإنما تبنى على اساس ضمان وحماية المصالح الخاصة بتلك الدول، ومن بينها بالتأكيد الولايات المتحدة...!
لقد جاءت كلمة الرئيس دونالد ترامب لتكشف عن مدى العجز الذي وصلت اليه ادارته في العديد من ملفات السياسة الخارجية الامريكية ... وجاء التصريح فيها بعدم الرغبة باستخدام القوة الامريكية التي تملك (اقوى جيش بالعالم) .. لتكشف عن محدودية القدرة الامريكية على الحركة امام القوى المنافسة الأخرى ... ،حيث لم تعد الولايات المتحدة القوة الوحيدة والمنفردة على المستوى العالمي .. ، إن العالم اليوم بات يتصف بتعدد القوى وانتهت فترة الأحادية القطبية التي مثلتها الولايات المتحدة على مدى العقود الثلاث الماضية، التي اعقبت انتهاء الحرب الباردة ... وانهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومة حلف وارسو.... ، لقد استعاد الاتحاد الروسي اليوم دور الاتحاد السوفياتي سابقا، كما تطورت دول وقوى اقليمية اخرى اقتصاديا وعسكريا باتت تمثل تحديا كبيرا لهيمنة وتفرد الولايات المتحدة على مسارات السياسات الدولية المتعارضة والمتقاطعة ..، وهذا ما يحدُ من قدرات الولايات المتحدة على فرض الحلول المنفردة للعديد من القضايا والمشاكل الدولية بإستخدام القوة....، وإنما يفرض عليها استخدام لغة الحوار والتفاوض ، وإن لوحت بإستخدام لغة القوة او فرض العقوبات السياسية والاقتصادية ...، إلا أن لغة الحوار والدعوة للمفاوضات باتت هي الوسيلة المثلى لتحقيق اهدافها ومصالحها في ظل تعدد الاقطاب ... ، وقد كانت لقاءات دونالد ترامب مع كيم ايل سونج نموذجا لذلك ...، كما هو ظاهرٌ ايضا في الموضوع الايراني، رغم انسحابة من اتفاق ايران النووي لعام ٢٠١٥م واعتباره انه اتفاق فاشل ...، ورغم ماينسب لإيران من تدخلات سافرة في العديد من دول الأقليم، وتهديد للملاحة الدولية في الخليج العربي، بل وتحميلها مباشرة مسؤولية الإعتداء مؤخرا على المنشآت النفطية في السعودية فجر الرابع عشر من سبتمر الجاري. والذي تنكره ايران وترفض الإقرار به... ، إلا ان رد الفعل الأمريكي لازال يقتصر على بعض الإجراءات التي من شأنها تعزيز الحماية لتلك المنشآت وفرض وتشديد بعض العقوبات الاقتصادية، ولم تصل الى درجة التلويح بإستخدام القوة لغاية الآن ... ، في نفس الوقت الذي يسعى فيه الرئيس ترامب وبعض الوسطاء لفتح حوار مع الرئيس روحاني، على طريقة الحوار الذي جرى مع الرئيس ( كيم ايل سونح ) ... يحفظ فيه ومن خلاله ماء الوجه ومحاولة احتواء النظام الايراني ، وأن يحقق ايضا بعض المكتسبات الديبلوماسية لتوظيفها في الداخل الامريكي لتدعيم شعبيته لأجلِ الفوز بفترة رئاسية ثانية .....!
بغض النظر عن خيبة الأمل التي خلفتها مواقفه هذة.... ازاء اصدقاء وحلفاء الولايات المتحدة سواء في الشرق الاوسط او في شرق آسيا....، فإنه يعلن صراحة ان امريكا ليست على استعداد ان تدخل في صراعات مسلحة نيابة عن الآخرين، وإن اقتضى الأمر يجب ان يكون ذلك مدفوع الثمن .....!
أي أن الخزينة الأمريكية ليست على استعداد للإنفاق على مثل تلك الصراعات ...!
وفي اطار الحرب التجارية الجارية بين امريكا واقتصاديات الدول الأخرى وخصوصا جمهورية الصين الشعبية و التي اشار اليها في خطابه، والى ما الحقته من خسائر بالصناعات الامريكية، رغم الإجراءات الحمائية التي اتخذتها ادارته، والعقوبات الاقتصادية التي فرضتها على الصين او لوحت بها......!
فإن ذلك يكشف عن عمق الأزمة التي بات يعاني منها الإقتصاد الأمريكي ... وحجم التحدي الآقتصادي العميق والكبير الذي باتت تمثله الصين الشعبية للولايات المتحدة... ! كل ذلك يعطي دلائل ومؤشرات على تراجع مكانة الولايات المتحدة كدولة قطبية وحيدة.... عسكريا او اقتصاديا ويؤكد ان العالم بات متعدد الأقطاب عسكريا أو اقتصاديا وبالتالي سياسيا .... !
لذا تحاول الولايات المتحدة تجاوز العديد من الإتفاقات الدولية والإفلات منها والتي كانت هي الراعية لها في الاصل، من اتفاقية المناخ الى اتفاقية التجارة الدولية... ،الى دورها في منظومة الحلف الأطلسي، إلى الإخلال بإلتزاماتها المالية الدولية ازاء تمويل الأمم المتحدة ووكالاتها العامة والخاصة ...!
كل ذلك يضع الولايات المتحدة في مجابهة مع القانون الدولي ومع التنظيم الدولي القائم، ومع قرارات الشرعية الدولية....!
والمثال الأبرز على ذلك تخلي الادارة الامريكية في عهد الرئيس ترامب فعليا عن دور الراعي لعملية السلام (الفلسطينية الاسرائيلية)، من خلال الإنحياز السافر لوجهة النظر الصهيونية، وإتخاذ سلسلة من الخطوات والإجراءات الأحادية، التي يجب ان يقرر مصيرها في اطار المفاوضات... وبما يخالف الاجماع الدولي، والقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، بل يمثلُ تخطٍ وتجاوز لمواقف الادارات الامريكية السابقة بشأنها خصوصا فيما يتعلق بقضايا الوضع النهائي كافة، التي يجب ان تكون مَحلَ التفاوض بين الطرفين، مثل مواضيع القدس والمستوطنات واللاجئين والحدود .....الخ ، وايضا بشأن هدف المفاوضات وغاياتها ... ومرجعيتها، يضاف الى ذلك سلسلة العقوبات التي فرضتها ادارته على الشعب الفلسطيني وسلطته وقيادته......!
هذا النكوص في مواقف الولايات المتحدة وإدارتها في عهد الرئيس ترامب بشأن التسوية السياسية للصراع العربي والفلسطيني مع (المستعمرة الاسرائيلية) يكشف عن مدى التخبط الذي تتسم به الادارة الامريكية في هذا الشأن، والذي وضعها كطرف رئيس في مواجهة الشعب الفلسطيني وقيادته، الى جانب (المستعمرة الاسرائيلية ) المنكرة لحقوق الشعب الفلسطيني والتي تواصل سياسات التوسع والاستعمار والعنصرية والفاشية في حقه والمرفوضه من جميع الدول التي تحترم نفسها وتحترم القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية... !
لذا لم تأخذ القضية الفلسطينية ولو كلمة واحدة من خطابه المهزوز والمتحدي للقانون الدولي امام الجمعية العامة، حتى لم يأتِ على ذكرِ (صفقة العصر) التي طالما روج لها منذ ولوجه كرسي البيت الأبيض...!
مختزلا الصراع العربي الاسرائيلي على دعوة دول الجوار العربي ( للمستعمرة الاسرائيلية) بضرورة إقامة علاقات طبيعية معها....!
متجاهلا استحقاقات التسوية وما يتوجب على (المستعمرةالاسرائيلية) القيام به من اجل الأمن والسلام، من انهاء لإحتلالها للأراضي الفلسطينية والعربية التي احتلت في حرب حزيران للعام 1967م... ، وتمكين الشعب الفلسطيني من حقوقه الوطنية المشروعة كما نصت عليها قرارات الامم المتحدة، ومتجاهلا لمبادرة السلام العربية التي ربطت قيام العلاقات الطبيعية مع (المستعمرة الاسرائيلية) بإنهائها لإحتلالها للاراضي العربية، وتمكين الشعب الفلسطيني من حقوقه المشروعة في العودة وتقرير المصير وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من حزيران للعام 1967م وعاصمتها القدس ....، بل متجاهلا ومتجاوزا ايضا لخطة خارطة الطريق التي وضعتها الرباعية الدولية، ومسقطا من خطابه ما اقره الرؤساء السابقين والادارات الامريكية السابقة ، التي كانت تؤكد التزامها بمبدأ حَلِ الدولتين.....!
لا شك ان الشعب الفلسطيني وقيادته وسلطته يرفضون هذا الموقف المتغطرس العابث للرئيس دونالد ترامب وادارته، كما ترفضه كافة الدول العربية، بل ايضا ترفضه كافة الدول في العالم بإستثناء الدول المجهرية التي تدور في فلك الولايات المتحدة والتي لاوزن لها اطلاقا .....!
ان هذا التجاهل للحقوق الوطنية المشروعة الفلسطينية والعربية ... والتجاهل للمصالح العربية المختلفة، لن يؤدي الى إقامةِ وإرساء قواعد الأمن والسلام في المنطقة، ولن يؤدي الى فرض تسوية اذعانية على الشعب الفلسطيني وعلى الدول العربية، كما ان هذه المواقف العدمية والمنحازة لصالح المستعمرة الإسرائيلية، لا تساعد على مواجهة التمدد الايراني في المنطقة ، ولا على مواجهة الإرهاب التي تدعي الولايات المتحدة انها تقود تحالفا دوليا لمواجهته، وإنما تفتح ابواب المنطقة واسعة للتمدد الايراني وتبريره من جهة، وتمنح الإرهاب مبررا وارضية خصبة ايضا من جهة اخرى ....!
لأن استمرار الإحتلال الاسرائيلي للاراضي العربية وطمس الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني هو الإرهاب الحقيقي بعينه، والذي تمارسه سلطات الإحتلال يوميا من استيطان للاراضي الفلسطينية وتدمير للمنازل وقمع وقتل على الحواجز بدم بارد ... وعزل وحصار ومصادرة لأبسط الحقوق الانسانية والوطنية للشعب الفلسطيني ...!
كل ذلك يكشف عن عجز وتخبط وغطرسة في سياسات الرئيس ترامب ليس لها مثيل ... وهذه السياسة تهدد الامن والسلم العالميين بمزيد من المخاطر كما تهدد بإنهيارات وازمات اقتصادية لن ينجو منها الإقتصاد الأمريكي نفسه .. بل سيكون هو مركزها ....!
خطاب الرئيس ترامب في دورة الجمعية العامة 74 كان بمثابة انتكاسة وخيبة أمل للسياسة الخارحية الامريكية، لأمريكا ولحلفائها واصدقائها على السواء، كما كشف عن مدى التراجع في مكانة الولايات المتحدة.
بقلم/ د. عبدالرحيم جاموس
رئيس المجلس الاداري للاتحاد العام للحقوقيين الفلسطينيين
عضو المجلس الوطني الفلسطيني
الرياض 25 /9 / 2019م