الاحتجاجات الواسعة التي عمّت المدن العراقية مجدّداً، فاجأت المراقبين في حجمها وحدتها والمدى الذي وصلت إليه سريعاً، إلى جانب العنف الذي ووجهت به من قبل السلطات الأمنية.
وبدأت التظاهرات مطلع الشهر الجاري في بغداد على خلفية الغضب من تفشي الفساد ونقص الخدمات الأساسية والبطالة العالية، ثم امتدّت إلى عددٍ من المدن في وسط العراق وجنوبه، ولكن سقف مطالب المحتجين سرعان ما ارتفع ليصل إلى حدّ المطالبة برحيل الحكومة وتغيير النظام برمته، وخصوصاً بعد التصدي لهم بعنف دموي (اتهمت السلطات «قناصة مجهولين» بإطلاق النار على قوات الأمن والمدنيين، قبل أن تعود وتقرّ بـ«استخدام مفرط» للقوة)، حيث أسفرت الاحتجاجات خلال أقلّ من أسبوع، عن سقوط أكثر من 110 قتلى، وإصابة نحو 6 آلاف بجروح، وهو ما زاد من حدة توتر وغضب الشارع العراقي.
وقال مراقبون إن أعمال العنف هذه كشفت عن مدى حجم وتغلغل الميليشيا والجماعات المسلحة (الحشد الشعبي) في نظام الدولة العراقية الذي باتت جزءاً لا يتجزأ منه، وهو ما يُهدّد بمزيد من الفوضى وانفلات أعمال العنف الدموية في مواجهة الاحتجاجات السلمية، خاصة وأن تصاعد ونجاح الانتفاضة الشعبية لن يكون في صالح تلك الجماعات.
وعلّق نائب عراقي على ما يجري بقوله: «إنّ ما يحصل في العراق من قتل للمتظاهرين المطالبين بحقوقهم وقمع وتكميم للأفواه واعتداء على المؤسسات الإعلامية واستعراض للقوة من قبل أدعياء الإسلام المزيّف لهو انقلاب على الديمقراطية وجرّ البلد نحو الاستبداد».
وإلى ذلك، شهدت الاحتجاجات حرق عدد من مقرات الأحزاب السياسية، التي يتهمها المتظاهرون بالوقوف وراء الفساد، علماً أن بعض التقارير تفيد بأن العراق خسر، ومنذ عام 2003، نحو 450 مليار دولار جراء عمليات الفساد.
«قرارات تصحيحية»
وفي محاولة من الحكومة العراقية لاحتواء الاحتجاجات، أصدرت قرارات وصفتها بـ«المهمة» (5/10)، من أبرزها تسهيل الحصول على أراض سكنية، وبناء وحدات جديدة، إضافة إلى منح 175 ألف دينار (نحو 145 دولاراً) شهريا للعاطلين عن العمل، لمدة 3 أشهر. كما تضمنت إنشاء «مجمعات تسويقية» حديثة بمناطق تجارية في بغداد والمحافظات.
وبدت حزمة «القرارات التصحيحية»، موجّهة بشكل واضح لتحسين حياة المواطنين، وتخفيف آثار الفساد الذي ينهش الجسد العراقي، ولكن يبدو أنها لم تساهم في لجم الانتفاضة الشعبية، إذ أعلن كثير من المحتجين تمسكّهم بمطالبهم ومواصلة الاحتجاجات حتى «إبعاد جميع الأحزاب السياسية عن السلطة». وقال متظاهرون إن مطالبهم لم تعد تتعلق بالجوع والعمل فحسب، بل بـ«ضرورة تغيير النظام نفسه، الذي لم يعد قابلاً للإصلاح». علماً أن ما يميز الاحتجاجات الجديدة هو عفويتها وعدم استنادها إلى أي رافعة حزبية أو سياسية، وبالتالي صعوبة امتطائها وركوب موجتها من قبل أي جهة سياسية.
حديث «المؤامرة»؟
وأمام فشل محاولات الاحتواء، لجأت الحكومة وكثير من الأحزاب السياسية إلى الحديث عن «مؤامرة خارجية» لإسقاط النظام، في مسعى للتشكيك بمشروعية الاحتجاجات وتبرير العنف الذي مارسته القوات الحكومية والميليشيات ضد المحتجين.
وبما أنّ المتظاهرين هم بشكلٍ أساسي من الشباب الشيعة الذين ضاقوا ذرعاً من مُمثّليهم في مؤسسات الدولة، فقد جرى الحديث عن احتمالين متناقضين تماماً لهذه «المؤامرة»؛ أحدهما يتهم السعودية والولايات المتحدة وإسرائيل بالوقوف وراء الاحتجاجات، وخصوصاً في ظلّ بعض الشعارات التي رفعت: «بغداد حرة حرة، إيران بره بره»، إلى جانب إحراق العلم الإيراني، ما دفع جهات عليا في الجمهورية الإسلامية إلى القول إنّ «الأعداء يحاولون دق إسفين بين طهران وبغداد»، مؤكدين أنّ «إيران والعراق شعبان ترتبط (…) قلوبهما وأرواحهما (…) وأن الأعداء يسعون للتفرقة بينهما لكنهم سيفشلون.. ». واعتبر بعضهم أن ما يجري في العراق «حرباً حقيقية مع الولايات المتحدة»، محذرين من أنها «تسعي للقضاء على الحشد الشعبي ومنعه من الدفاع عن بلده»!.
وفي المقابل، ألقى حديث آخر باللائمة على «إيران وأدواتها المحلية» في إثارة الاحتجاجات وتصعيدها، بغرض تعميم الفوضى في العراق ردّاً على العقوبات الأميركية من جهة، (من منطلق أن ذلك لا يزعج طهران وحدها، بل يزعج أميركا أيضاً، فيما يبقى بيد طهران إمكانية تهدئة الاحتجاجات ووقفها)، مع الرهان من جهة أخرى على وقف ضخ النفط العراقي، وبالتالي بروز الحاجة الدولية إلى إعادة تصدير النفط الإيراني!.
وعلى النقيض من ذلك، حذّر كثير من المراقبين، بمن فيهم بعض النواب الإيرانيين، من تحليل الأحداث العراقية على أساس نظرية المؤامرة، مشيرين إلى أنّ ذلك «يبعدنا عن فهم الحقائق» من جانب، وإلى أنّ «تفشي الفساد وعدم كفاءة المسؤولين العراقيين أَدّيا إلى استياء واسع النطاق بين الشعب العراقي»، من جانب آخر، وبأن هذا الوضع «شكل الدعامة الأساسية للاحتجاجات في العراق».
فشل «نظام المحاصصة»
ورأى محللون أن السبب الرئيس للفساد في البلاد هو نظام المحاصصة المعمول به، والذي يتمتع بـ «خصائص سياسية واقتصادية وقانونية تعزز بشكل منهجي الفساد وتقويه». فهو يتيح سهولة الوصول إلى الحكومة، حيث يجري بموجبه توزيع المراكز الرسمية والحكومية بين الجماعات السياسية والطوائف الممثلة في البرلمان، إلى جانب تخصيص الوظائف لأشخاص من مناصري الأحزاب السياسية في السلطة، الذين يعملون بدورهم لصالح الحزب، بدلاً من الدولة أو الشعب الذي يمثلونه.
ومن خلال هذا النظام، تحقق المجموعات السياسية والنخب الحزبية امتيازات ومكاسب اقتصادية كبيرة عبر سهولة الوصول إلى المال العام واحتكار الأنشطة الاقتصادية في السوق. يجدر بالذكر هنا أنّ الثروة متركّزة بشكل رئيسي في يد الدولة والحكم، فصادرات العراق الرئيسية الوحيدة هي النفط، الذي يمثّل نحو 90 % من الميزانية.
وبالتجربة، فإنّ الأحزاب التي شاركت في الحكومات السابقة، منذ عام 2003، استخدمت سلطتها لمنح الوظائف والعقود لمؤيديها، بهدف تأمين الأصوات في الانتخابات اللاحقة. وكان ذلك على حساب توفير الخدمات أو البنية التحتية أو الوظائف إلى بقية السكان.
وتعرف الأجيال الجديدة التي تستخدم الإنترنت وشبكة المعلومات الحديثة أنه من غير المنطقي أن يكون في هذا البلد الغني الكثير من الفقراء والطرق الرديئة والمستشفيات المتهدمة والمدارس المتصدّعة. وإذا أقرّ هؤلاء بالدور البارز الذي لعبته بعض قوات «الحشد الشعبي»، في إنقاذ البلاد من تنظيم «الدولة الإسلامية»، إلا أنهم باتوا يدركون، كما يبدو، أنّ هذه «الميليشيات» باتت الآن «جزءاً من شبكةٍ جديدةٍ أكثر خطورة أدّت إلى تسريع الفساد والتحدي علناً لسلطة الدولة».
أزمات مزمنة!
كلّ ذلك في وقت يعاني فيه الاقتصاد العراقي من مشكلات كثيرة ومزمنة، كانهيار البنية التحتية، وضعف أداء القطاع الزراعي والتجاري، وانعدام الصناعة، وتفاقم المشكلات الأمنية وضعف السلك القضائي والقانوني. وقد قدرت إحدى الدراسات العراقية أن الفساد المالي يستنزف نحو 25 % من المال العام. وقبل نحو عام، تناولت وسائل الإعلام العراقية حوالي 800 ملف من الفساد قيد التحقيق. وقد احتل العراق المرتبة الثانية عشر في لائحة الدول الأكثر فسادا في العالم، حسب تقارير منظمة الشفافية الدولية.
وبلغت البطالة معدّلات عالية قدرها الجهاز المركزي للإحصاء هذا العام بنحو 23 %، في حين أعلن صندوق النقد الدولي منتصف العام الماضي أن معدل بطالة الشباب بلغ أكثر من 40 %. وبحسب وزارة العمل والشؤون الاجتماعية العراقية فإن الموارد النفطية للعراق تشكل 89 % من ميزانيته، وتمثل 99 % من صادراته، لكنها تؤمن 1 % فقط من الوظائف في العمالة الوطنية.
وعلى رغم الثروات النفطية وغير النفطية العالية التي يتوفر عليها العراق، لا يستطيع كثير من العراقيين توفير لقمة العيش، ويطارد الفقر نحو ربع العراقيين، إذ تزيد نسبته عن 22 %، ويصل في بعض محافظات الجنوب إلى أكثر من 31 %. وقد خلقت النفقات المتضخمة أكبر عجز في الموازنة، إذ بلغت هذا العام 23 مليار دولار، ويتوقع أن تزيد عن 30 مليار دولار بحلول عام 2020، بحسب اللجنة المالية في مجلس النواب العراقي.
ونتيجة لذلك، تراجعت ثقة العراقيين شيئاً فشيئاً بالنظام والأحزاب التي تمثلهم، وانخفضت نسبة إقبالهم على التصويت بشكل مطرّد، (من 80 ٪ في عام 2005 إلى 44.5٪ في عام 2018)، وأصبحت وعود الإصلاح غير جديّة أو مجدية، ولم تؤت محاولات الإصلاح ثمارها، ولم يبق أمام أغلب القطاعات الشعبية، في المحصلة من خيار، سوى النزول إلى الشارع للاحتجاج والتعبير عن غضبها!!.
بقلم/ فيصل علوش