أنهت تونس بنجاح الانتخابات البرلمانية (6/10)، وهي ثاني انتخابات تشريعية تجري بعد الإطاحة بنظام زين العابدين بن علي، لتكرّس بذلك بشكل واضح مسألة التداول السلمي على السلطة والاحتكام إلى صندوق الاقتراع، وهو الإنجاز الأهم والأكبر الذي حققته «الثورة التونسية».
بيد أنّ الاعتراف بذلك واحترام النتائج التي أفرزتها الانتخابات، لا يمنع من ملاحظة أن ما حصل في هذه الانتخابات، سيكون مدعاة لنقاشات سياسية وفكرية وسوسيولوجية قد تطول قبل استخلاص الدروس المستفادة، وخصوصاً لجهة منح أصوات كثير من الناخبين ليس فقط لحركة النهضة، بل أيضاً لوجوه كثيرة متحدرة من التيار السلفي (ائتلاف الكرامة وقائمة المحبة)، على رغم تراجع القاعدة الانتخابية للنهضة، والانتقادات التي وجّهت لها والشعارات السياسية التي رفعت ضدها وضد تيارات «الإسلام السياسي» عموماً، طيلة السنوات الثماني السابقة (أي فترة هيمنتها على الحكم أو مشاركتها به)!.
وإلى ذلك، فإن الجزء الأكبر من التونسيين الذين يحق لهم التصويت بقي في البيت وقرر عدم المشاركة في هذه الانتخابات، لأسباب متعددة ينبغي البحث عنها. وقد كشفت نسب المشاركة المعلنة من الهيئة العليا المستقلة للانتخابات (41.7 % داخل تونس و16.4 % خارجها)، عن امتناع حوالي 60 % من الناخبين عن التصويت، وأن ثلاث نساء فقط من كلّ عشرة ذهبن إلى مكاتب الاقتراع، وأنّ المرأة لن تكون ممثلة في البرلمان الجديد سوى بنسبة 10 % من مجموع 217 نائبا.
ووضعت النتائج الأولية، حركة النهضة في مقدمة الأحزاب الفائزة بـ 57 مقعداً، ثم حزب «قلب تونس» (بزعامة نبيل القروي) بـ41 مقعداً، يليه «التيار الديمقراطي» (بقيادة محمد عبو) بـ21 مقعداً، و«ائتلاف الكرامة» (برئاسة السلفي سيف الدين مخلوف) بـ20 مقعداً، و«الحزب الدستوري الحر» (عبير موسي) بـ18 مقعداً، و«حركة الشعب» (قومي ناصري) بـ16 مقعداً، وحركة «تحيا تونس» (يوسف الشاهد) بـ15 مقعداً، و«مشروع تونس» (محسن مرزوق) /أربع مقاعد/، و«نداء تونس» (السبسي) /أربع مقاعد/، و«عيش تونسي» (أربع مقاعد)، وقائمة «الرحمة» (3 مقاعد)، و«أمل وعمل» (مقعدان)، و«التحاد الديمقراطي الاجتماعي» (مقعدان)، وحزب الجبهة الشعبية (المنجي الرحوي) /1 مقعد/، و«آفاق تونس» (1 مقعد)، و«تيار المحبة» (1 مقعد)، وأخيراً المستقلون (7 مقاعد).
كتل متنافرة
وتعني هذه النتائج أنّ المشهد السياسي في البرلمان الجديد، سيكون منقسماً ومُشتتاً دون منح أي قوة سياسية أغلبية ولو نسبية تمكنها من العمل بأريحية وتنفيذ برنامجها الذي انتخبت على أساسه، بل إن هذه النتائج ضاعفت المخاوف من دخول المشهد السياسي الجديد مرحلة تقلبات متواصلة وعدم استقرار في ظلّ الخليط المتنافر للكتل النيابية؛ بين من ينتمي منها لقوى الثورة وبين من ينتمي للنظام القديم، والإسلاميين والحداثيين، واليسار الاجتماعي والأحزاب الليبرالية...الخ!.
وفيما أفرز برلمان 2014، أغلبية مطلقة مريحة (نجمت عن توافق النداء والنهضة)، في مقابل معارضة محدودة العدد، سيتميز هذا البرلمان بوجود أغلبية جزئية محدودة (إن تحققت)، مقابل معارضة واسعة وقوية. ويخشى مراقبون من أن يعجز البرلمان الجديد حتى عن تشكيل حكومته الأولى، حيث ستوكل مهمة تكوينها لحركة النهضة وفق ما ينصّ عليه الدستور، في وقت أعلنت فيه كثير من الأحزاب الفائزة عدم استعدادها لمشاركة النهضة في الحكم.
وكما أبعدت نتائج 2014 أحزاباً وشخصيات تاريخية من المشهد، جاءت انتخابات 2019 لتنحي أحزابا أخرى من بينها «التكتل الديمقراطي» و«الحزب الجمهوري» و«حراك تونس الإرادة»، وخصوصا اليسار التونسي التقليدي ممثلا بالجبهة الشعبية، ونداء تونس الذي سقط من القمة إلى القاع سقوطاً مدوياً، أكد أن هذا الحزب لم يكن إلا محطة سياسية عابرة تأسست على فكرة مؤقتة ماتت بموت صاحبها.
الصورة: الغنوشي
ورطة «النهضة» في البحث عن حلفاء للحكم؟
كشفت التقديرات الأولية لنتائج الانتخابات البرلمانية في تونس عن تشتت أصوات الناخبين، وعدم تحصيل أي حزب سياسي أغلبية برلمانية تؤهله لتشكيل حكومة بمفرده، وأجبرت «النهضة» المتصدّر الأول للنتائج، على استجداء الأحزاب الفائزة لمشاركتها في الحكم معلنة فقط رفضها التحالف مع حزب «قلب تونس» الذي حل في المرتبة الثانية، لتورط رئيسه نبيل القروي في قضايا فساد.
وكان رئيس الحركة، راشد الغنوشي وغيره من قيادات «النهضة»، شددوا على أنّ حركتهم «لن تعيد خطأ التحالف مع الفاسدين»، واعتبر الغنوشي أنّ النهضة «استفادت من تجربة التاريخ فلا شراكة مع المتورطين في الفساد، فشرط من شروط الشراكة مكافحة الفساد ومقاومة الفقر».
وباحتساب الأغلبية العددية التي يمكن أن تشارك حركة النهضة، فإنها تقدر بنحو 100 نائب برلماني، تضم الفائزين؛ حركة النهضة (57 مقعدا)، وائتلاف «الكرامة»، (20 مقعدا)، وحركة «تحيا تونس»، (15 مقعدا)، علاوة على عدد قليل من المستقلين. علماً أن عملية تشكيل الحكومة المقبلة تتطلب موافقة 109 مقاعد برلمانية، وهو ما يدعو إلى البحث عن تحالفات سياسية «اضطرارية»، قصد تفادي فشل تكوين الحكومة، وإمكانية التوجه إلى انتخابات برلمانية جديدة سابقة لأوانها.
وفي حين أعلن حزب «قلب تونس» (41 مقعدا)، و«حركة الشعب» (16 مقعدا)، و«الحزب الدستوري الحر» (18مقعدا)، انضمامهم المبكر إلى صفوف المعارضة، ورفضهم مشاركة النهضة في الحكم، اشترط حزب «التيار الديمقراطي» (21 مقعداً)، بزعامة محمد عبو، منحه ثلاث حقائب وزارية لقبول التحالف مع النهضة.
شروط «التيار الديمقراطي»
وواجه «التيار الديمقراطي»، موجة من الانتقادات بوصفه حزباً «يمتهن المعارضة ويهرب من الحكم حتى لا يتحمل المسؤولية». وأمام هذا الاتهام قدم «التيار» شروطه للدخول في ائتلاف مع «النهضة»، متمثلة في برنامج حكم واضح مع التزام تام ببنوده، وإسناد حقائب الداخلية والعدل والإصلاح الإداري بصلاحيات واسعة تمس مكافحة الفساد في الصفقات العمومية وفي الإدارات الحكومية.
وأرجع المتحدث باسم «التيار»، غازي الشواشي، سبب مطالبة حزبه بالحقائب الوزارية الثلاث إلى «عدم ثقته في النهضة ولا في غيرها من الأحزاب السياسية في ترؤّس هذه الوزارات». وأوضح الشواشي أن عبو جرّب سابقاً الحكم مع «النهضة»، خلال توليه حقيبة الإصلاح الإداري زمن «الترويكا»، وتعرّض للعرقلة وأفشلت كل مساعيه الاصلاحية آنذاك، وبالتالي فهو «لا يمكن أن يقحم حزبه اليوم في تحالف دون شروط واضحة».
وأكد الشواشي أن «التيار الديمقراطي» طالب بتعيين رئيس حكومة مستقل، لا ينتمي إلى أي حزب سياسي، ويعمل طبقا لخارطة طريق تضبطها الأحزاب السياسية الداعمة للحكومة، كشرط أساسي للدخول في تحالف حكومي مع النهضة.
قوى رافضة
وكان زهير المغزاوي، رئيس حركة الشعب (قومي ناصري)، عبر عن رفضه المشاركة في حكومة تشكلها النهضة، وانتقد بشدة حصيلة حكم الائتلاف، (الذي تزعمته النهضة)، واعتبرها «مسؤولة عن الأزمات الاجتماعية والاقتصادية الحاصلة حاليا في تونس».
في السياق ذاته، أكدّت عبير موسي، رئيسة «الحزب الدستوري الحر»، أن أنصار النظام السابق عادوا للبرلمان، وشدّدت على أن حزبها مستعد للحكم والتحالفات السياسية، ما عدا «الإخوان» في إشارة إلى حركة النهضة.
وفي هذا الشأن، أكد القيادي حاتم المليكي أن حزبه «قلب تونس» لن يتحالف مع النهضة، ولن يشارك في حكومة تشكلها الحركة. معتبراً أنّ منظومة الحكم الحالية، وخاصة حركة النهضة «هي المسؤولة الأولى عن فشل السياسة الاقتصادية والاجتماعية»، التي تتخبط فيها تونس منذ سنوات.
في المقابل، اعتبر مراقبون للمشهد السياسي أن حزب «قلب تونس» الذي يتزعمه نبيل القروي، المرشح للدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، قد يغير موقفه لاحقاً، معتبرين أن موقفه الحالي ليس إلا «محاولة لتحسين شروط التفاوض مع حركة النهضة».
وذكّر هؤلاء بـ«التحالف المستحيل» الذي جمع بين النهضة والنداء، عقب الانتخابات السابقة، (ما خلف صدمة لدى قواعد الحزبين خاصة أنهما كانا «عدوين لدودين»)، متوقعين أن تحدث تحالفات وصفت بـ«الانتهازية» بين المتنافسين، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى تحالف بين «النهضة» و«قلب تونس» في نهاية المطاف.
أما في حال استمرار التشتت السياسي والتباعد في المواقف بين الأحزاب المتصدرة لنتائج الاستحقاق التشريعي، فسيكون الفشل في تشكيل حكومة ائتلافية في مدة شهرين هو «سيد الموقف»، وبالتالي حل البرلمان واللجوء إلى إجراء انتخابات برلمانية ثانية!.
بقلم/ فؤاد محجوب