من يوميات السلطة الفلسطينية وحكومتها ...

بقلم: معتصم حمادة

 (1)

■ عندما دعونا إلى الانتخابات الشاملة، الرئاسية، والتشريعية للمجلس التشريعي في السلطة الفلسطينية، و«الوطني» في م. ت. ف، أدرجنا هذه الخطوة في إطار ما نراه خطة متكاملة، من أجل إخراج الحالة الفلسطينية من أزمتها السياسية والمؤسساتية، التي أدخلتها فيها سياسات أوسلو، وعمقتها وزادتها تأزماً، سياسات الانقسام المؤسساتي والإداري والسياسي، والذي انطلق بأبشع صوره الدموية في انقلاب 14/6/2007.

وكنا، في السياق نفسه، ندرك أن الانتخابات لا تشكل في حد ذاتها حلاً سحرياً للأزمات، بل يمكن أن تشكل في الوقت نفسه عكس ذلك. ولعل نتائج انتخابات العام 2006 تشكل دليلاً ساطعاً على ذلك.

فهي بدلاً من أن تعيد بناء المؤسسة التشريعية على أسس أكثر مكانة، بعدما شارك في انتخاباتها الصف العريض من القوى السياسية، وبدلاً من أن تنتج حكومة أكثر تماسكاً في مواجهة تداعيات خطة  فك الارتباط، كما طرحها ارئيل شارون وأتباعه، أنتجت مجلساً تشريعياً، تحول إلى بؤرة توتر، منها انتقل التوتر إلى الشارع، وأنتجت حكومة اللون الواحد، غاصت في ارتباكاتها وإرباكها للوضع العام، وأفسحت في المجال لإسرائيل وآخرين، لتبرير فرض الحصار على الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، بذريعة فرض الحصار على حماس و«حكومة» حماس. إلى أن كان الانفجار الكبير في 14/6/2007، والذي مازالت هزاته الارتدادية تتوالى يوماً بعد يوم.

الرئيس عباس، أطلق دعوته للانتخابات من على منبر الأمم المتحدة، دون تشاور مسبق مع أي من القوى السياسية، ودون تشاور مسبق مع الهيئة التي يفترض أنها تشكل الإطار الوطني الائتلافي والقيادي اليومي للشعب الفلسطيني، أي اللجنة التنفيذية في م. ت. ف. وكان من حق الكثيرين أن يقرأوا في هذه الدعوة، محاولة لخلط الأوراق، وإعادة ترتيب الأولويات، والدفع بأولوية فك الارتباط بأوسلو وبروتوكول باريس إلى الخلف، لتحل محلها أولوية الانتخابات، علماً أن كلمة الأمم المتحدة، تجاهلت بشكل تام أولوية قرارات المجلس الوطني والمجلس المركزي، وأعادت الاعتبار لأوسلو وآليات أوسلو، وأكدت أن الخيار الوحيد هو المفاوضات، والمفاوضات فقط «علنية أم سرية، ثنائية أم غيرها»، مشددة على التمسك بالتنسيق الأمني، باعتباره محور اتفاق أوسلو وأساسه المتين، وعنوانه الرئيس.

فماذا حققت هذه الدعوة المفاجئة للانتخابات؟ .

(2)

كما أسلفنا، أكثر من مرة، فإن الانتخابات استحقاق دستوري وقانوني وسياسي بامتياز؛ وإن كنا قد سجلنا في الوقت نفسه تحفظنا، بل واعتراضنا، على خلط الأوراق، وعلى عملية إعادة ترتيب الأولويات، بقرار منفرد، ودون العودة إلى الأطر الوطنية الفلسطينية في إطار اعتراضنا الدائم على سياسة تهميش المؤسسات وإقصائها، وتحويل النظام السياسي الفلسطيني، من نظام برلماني ديمقراطي، إلى نظام رئاسي، تتجمع فيه الصلاحيات بيد فرد واحد، يعاونه «مطبخ سياسي» بديلاً عن القيادة اليومية، أي اللجنة التنفيذية. والاعتراض هنا، ليس على الدعوة إلى الانتخابات بحد ذاتها، بل إلى خلط الأولويات، والانفراد بالقرار، ومحاولة تحويله إلى صدمة سياسية في الحالة الفلسطينية، هدفها خلط الأوراق، وليس فقط خلط الأولويات.

هذا لا يلغي أن الانتخابات حاجة ضرورية، ولكن أن تندرج في إطار سياسي متكامل، وكجزء من خطة علاج وإصلاح، وأن تكون وسيلة، وليست مجرد هدف بحد ذاته.

طبعاً لم يكن متوقعاً من أحد أن يعارض الانتخابات. بمن في ذلك الذين لا يعتبرون أنفسهم معنيين بها. فالانتخابات حق من حقوق المواطن في اختبار ممثليه، ومن يدير الشأن العام في السلطة ويترأسها. ولا يحق لأحد أن يحرم المواطن هذا الحق. لذلك رحب الجميع بالدعوة للانتخابات. غير أن مشكلة هذا الترحيب – إذا ما اعتبرناه "مشكلة" – أنه حمل في طياته رؤى واشتراطات ومواقف، إذا ما رصفت أمامنا، نكون أمام لوحة سياسية، فيها من التنافر الكثير، وهو تنافر، إذا ما دفع إلى نهايته، قاد إلى انقسام سياسي فاقع.

فالخلاف كان حول تحديد أية انتخابات نريد، تشريعية على الخطين [سلطة و م. ت. ف.] أم على خط واحد، أي سلطة فقط. أم تشريعية ورئاسية في إطار السلطة ويتم تأجيل المجلس الوطني حتى إشعار آخر.

في العودة إلى قراءة مواقف الأطراف السياسية برز تباين واسع، فهناك من طالب برزمة واحدة لثلاث عمليات انتخابية، تبدأ بالتشريعي، وتمر بالرئاسي، وتنتهي بالوطني. والبعض الآخر طالب أن تبدأ بالرئاسية ثم تنتقل إلى المجلسين. وثالث دعا أولاً إلى تطبيق مبادرة الفصائل الثمانية، كشرط للدخول إلى معركة الانتخابات.

أي بعبارة أوضح، كشفت الدعوة للانتخابات حجم الخلافات، وأن الترحيب بها لا يعني أن الطريق أمامها بات مفتوحاً بلا عقبات.

بل هي طريق حافلة بالعقبات والألغام. الأمر الذي يدعو للقلق، إذا لم يتم التفاهم على عناصر الملف وآلياته.

من هنا تتجدد الدعوة إلى الحوار الوطني، لإزالة العقبات، ومن هنا التحذير الحاد، من أن تصل الدعوة للانتخابات إلى الطريق المسدود، وبالتالي تتحول هي الأخرى إلى موضوع خلافي انقسامي، جديد، يزيد الفجوة بين الأطراف، ويباعد بين المواقف، ويزيد الأوضاع الوطنية تعقيداً، وإضعافاً .

(3)

قرار حكومة السلطة بوقف استيراد العجول من إسرائيل، والاستعاضة عنها ببدائل من دول أخرى، كخطوة أريد منها أن تبدو على طريق الانفكاك الاقتصادي مع دولة الاحتلال يحتاج إلى تقييم، حتى لا تتكرر مع الحكومة تجربة أموال المقاصة مرة أخرى، والتي ما زالت موضع تندر وحديث الصالونات السياسية عن مدى سطحية القرارات الحكومية وافتقارها إلى الرؤية السياسية الواضحة.

فالمعلوم أن السلطة رفضت استلام أموال المقاصة احتجاجاً على قرار دولة الاحتلال اقتطاع ما يساوي رواتب الأسرى وعائلات الشهداء، باعتبارها مالاً يذهب إلى خدمة «الارهاب». وهو ما حرم السلطة بناء لقرارها هي، مصدراً مهماً، بل المصدر الأكثر أهمية في تمويل خزينتها وتوفير المال اللازم لفواتيرها الشهرية من رواتب وغيرها. فاضطرت إلى دفع جزء من الراتب للبعض، وحرمان البعض الآخر من راتبه كاملاً.

ولأن القرار كان غير مدروس، وغير مخطط له بشكل سليم، اكتشفت السلطة أن دفع جزء من الرواتب أخل بالوضع الاقتصادي، والمالي لعموم الحالة الفلسطينية.

فالمصارف، بدأت تحسم قروضها من الرواتب المنقوصة، مما هدد بحرمان الموظف من أي دخل، إذ بالكاد يساوي ما تبقى من راتبه المنقوص، ما عليه من قروض للمصرف. والأمر نفسه تكرر مع شركات البيع بالتقسيط، وأصحاب متاجر البقالة والملابس وغيرها، ما أدخل الحالة الاقتصادية في أزمة خانقة هددت بانهيار كامل للوضع. وهو ما دفع الحكومة إلى إعادة تنظيم العلاقة ولو متأخرة، بين أصحاب القروض، وبين المقترضين. أعطى هذا الحل نتائجه الجزئية لفترة محدودة، لكن الأزمة جددت نفسها، ما وضع الجميع أمام أزمة خانقة اضطرت معها السلطة للالتفاف على قرارها برفض استلام أموال المقاصة، والاتفاق مع دولة الاحتلال على «حل» يمكنها من استرداد دفعة من هذه الأموال [ملياري سيشكل]، دون أن تبدو وأنها تراجعت عن «حردها». حتى هذا الحل لم يعالج المسألة جذرياً، فعادت السلطة إلى أموال المقاصة، تقبل أن تتسلمها منقوصة، وأن تدعي في الوقت نفسها رفضها حسم رواتب الأسرى والشهداء.

واعتبرت النتائج هزيمة مذلة للسلطة، لا لشيء، سوى لأنها دخلت معركة مع الاحتلال، لم تدرس احتمالاتها، ولم تضع بدائلها، ولم تلجأ إلى الأسلحة الفعالة التي تمكنها من الضغط الحقيقي على سلطات الاحتلال، وليس فقط «إعلان الحرد» السياسي، ثم تعترف لاحقاً أن مفتاح ماليتها بيد وزير المال الإسرائيلي موشيه كحلون .

(4)

 بشأن استيراد البدائل اللحوم ( العجول) من إسرائيل، تقف السلطة وحكومتها على أبواب معركة. إذ هددت إسرائيل أنه في حال توقف الاستيراد من مزارعها، فسوف تلجأ إلى منع أنواع عديدة من الفواكه والخضار من دخول إسرائيل.

في إسرائيل شعر أصحاب المزارع بخطر قرار السلطة الفلسطينية، فتظاهروا ضده، وحملوا حكومتهم المسؤولية عن أية أضرار قد تلحق بهم. ما يعني أن قرار حكومة السلطة من شأنه أن يؤلم دولة الاحتلال.

لكن بالمقابل، إذا ما منعت إسرائيل استيراد الفواكه والخضار من الضفة، فهذا معناه بالمقابل أن أضراراً سوف تلحق بالمزارعين والتجار الفلسطينيين.

ما يدعو للتساؤل: هل تملك السلطة حلولاً بديلة لمواجهة المقاطعة الإسرائيلية للمنتج الفلسطيني ؟

من كوارث أوسلو وبروتوكول باريس الاقتصادي أنه حوّل الأمن الفلسطيني إلى جزء من الحالة الأمنية الإسرائيلية، وأنه حوّل الاقتصاد الفلسطيني إلى جزء لا يتجزأ من الاقتصاد الإسرائيلي، ملحق به، يتأثر بقراراته، ولا يملك القدرة على التأثير فيه بالقدر ذاته.

لذلك لم يكن غائباً عن البال أن فك الارتباط ببروتوكول باريس، لن يكون دفعة واحدة. ومن هنا القول بـ «الانفكاك»، أي عبر خطوات متلاحقة ومتراكمة. ولكل خطوة يفترض أن تتوفر خطة خاصة بها.

فضلاً عن هذا، فهذه عملية سياسية وطنية بامتياز، لا يمكن خوضها بقرارات إدارية محدودة، يتخذها هذا الوزير أو ذاك.

هي معركة تخص المجتمع الفلسطيني كله، الذي عليه أن يكيف نفسه مع تطورات المعركة وتداعياتها، إذ يخطئ من يعتقد أن الخلاص من أوسلو وبروتوكول باريس لن يصيب المجتمع الفلسطيني بهزات سياسية ومالية واقتصادية. فهل حضّرت السلطة وحكومتها الأوضاع لتتلقى هذه الهزات. أم أن قراراتها، لا تعدو كونها مجرد خطوات وقفزات في الهواء، الهدف منها «اقناع» الناس، استحالة الخروج من الاتفاقات واستحقاقاتها، كما وأن التفكير خارج هذا الوعي «مجرد هراء وخرافات».

لذا يتوجب على السلطة أن تصارح شعبها، وأن تضع استراتيجية سياسية متكاملة، وصولاً إلى تطبيق قرار «إعادة تحديد العلاقة مع دولة الاحتلال».

هذا، في حال افترضنا أن السلطة جادة في ذلك، واستبعدنا في قفزاتها بين هنا وهناك، إنما تحاول أن توحي لنا باستحالة تغيير الحال. وأن ما كتب في أوسلو، قد كتب ولا مجال للعودة عنه؟ ■

بقلم/ معتصم حمادة