يختلف تعريف الواقعية السياسة من مدرسة لأخرى، فالتعريف الدارج يكون مصاحب للقوة المسيطرة في منطقة معينة، ومن هنا فان حركتي فتح وحماس، من الطبيعي جدا ان يختلفا، وهو ما يبدو جليا في البرنامجين المختلفين، لكن من الغير الطبيعي ولا المنطقي ان يصل بهم الامر الى الانقسام وعدم الوحدة ضمن برنامج موحد ولو بالحد الادنى، وترتيب البيت الداخلي الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الذي يستهدفهما معا ولا يفرق بينهما، كون وضعهما الاثنين خاص، بوقوعهما تحت أشرس احتلال عرفه التاريخ.
بما ان الواقعية السياسية تعرف بانها الممارسة السياسية المستندة إلى القراءة الموضوعية العلمية للواقع، بهدف التعامل مع الواقع بحكمة، وبما هو معلوم وموجود؛ بقصد تحويله وتغيير معطياته بما يوجد واقعا آخر مختلفا بشكل أفضل، ومن هنا فان فتح ترى ان ضغط المجتمع الدولي ومظلومية الفلسطينيين ستجبر الاحتلال على اعطاء الحقوق، فيما ترى حماس ان اقصر الطرق هي المقاومة بشقيها المسلح والسلمي حسب الظروف الموضوعية والذاتية.
لنفكر معا في مقولة ابن خلدون الذي يقول في مقدمته:" القوي يتبعه الكثيرون لمجرد انه قوي". ومن طبائع الأشياء أن يكون القوي سواء – قوة شريرة أو خيرة - يحمل أفكار يريد من الآخرين أن يحملوها وينشروها بمختلف الطرق، لان الضعيف لا يقلده ولا يقتدي به أحد، وهو ما يفسر الاختلاف السياسي بين فتح وحماس في قضية اضراب الاسرى المقطوعة رواتبهم، او في قضية المستشفى الميداني ضمن التفاهمات بعد عدوان الاحتلال على غزة عام 2014.
اذا كانت الواقعية السياسية هي عملية توفيق خلاقة ومعقدة بين متناقضات على ضوء ما هو معلوم وملموس، وتوظف المعرفة في كشف أسرار الواقع واتجاهاته، فاننا نرى ان الحكم على صوابية رؤية فتح أو حماس هو ما حصلا عليه من انجاز على مستوى القضية الفلسطينية والذي يقيم بطريقة علمية وليس بطريقة حزبية.
نظرة الى واقع حركة فتح فانها تقترب كثيرا من التعريف الذي يقول بان السياسة هي فن الممكن، وللاعتراف بالواقع السياسي والتعامل معه كما هو، دون التحليق في عالم النظريات والأحلام والأوهام، ولا يوجد حكمة في هدر الطاقات والتضحيات بشكل مجاني دون نتيجة تذكر، أو عدم تحقيق الأهداف المرجوة، فالمرونة، والموضوعية، ودراسة الإمكانيات المتاحة والتعاطي معها، وعدم الانجرار وراء الخطابات الحماسية، وعدم بعثرة الشعارات البراقة، التي تضر ولا تنفع؛ كل ذلك يمكن له أن يعيد الحقوق لأصحابها، بدل مجانية التضحيات والتصدي للاحتلال بشكل عبثي وعلني متهور.
الواقعية السياسية تعني التفكر والتدبر، والإعداد والتخطيط الجيد قبل القيام بفعل محسوم النتائج قد لا يكون في صالح من اتخذ القرار. وبنظر هذه المدرسة فان اتخاذ قرار مواجهة الاحتلال غير ممكن، وما هو إلا ضرب من الجنون والانتحار السياسي، يتحمل نتائجه تاريخيا، من اتخذ القرار دون التبصر والتمعن الكافي وبشكل عميق ومدروس في معرفة العواقب المترتبة عليه مسبقا.
فتح ترى ان حماس قد استبد بها وأعياها طول وقت الانتظار، وتعايشوا مع اللحظة العابرة، وحلقت كثيرا في الأوهام، وان خطاباتها ووسائلها ما هي إلا دغدغة للعواطف، وتصلح للعوام ولجموع الناس العاديين البسطاء سطحيو التفكير، حيث ترى فتح وجوب احترام خصوصيات الوضع القائم، والواقع الراهن الى ان تتغير الظروف الاقليمية او العالمية لصالح القضية الفلسطينية.
حماس ترى وتقرأ الواقعية السياسية بشكل مختلف عن فتح، حيث الممارسة السياسية المستندة إلى القراءة العلمية، وبحكمة وروية، وبما هو معلوم وموجود؛ بقصد التغيير؛ بما يوجد واقعا آخر مختلفا بشكل أفضل، وهو ما يفسر المستشفى والميناء والمطار ورفع الحصار عن غزة ضمن التفاهمات الى ان تحين ساعة كنس الاحتلال.
أكبر معضلة ومشكلة تواجه مدرسة فن الممكن أمام مدرسة فن التغيير التي تنتهجها حماس، هو ما حصل من انسحاب الاحتلال من جنوب لبنان وغزة، حيث نجحت قوة المقاومة في فرض رؤيتها للواقعية السياسية على الاحتلال وأجبرته بذلك على الانسحاب مقهورا مدحورا، لا يلوي على شيئ، فالتضحيات هنا في هذه الحالة وان غلت فانها حققت نتيجة وانجازا، ولا يوجد في عملية المقاومة الا أن يدفع ثمنا الطرفين، هكذا هي الصراعات والحروب.
في كل الأحوال مهما اختلفت رؤية كل من حماس او فتح حول تعريف الواقعية السياسية وكيفية التعامل مع الواقع السياسي فان السنن كونية والجدلية التاريخية قضت بزوال الطارئ الدخيل وبقاء الاصيل المتجذر المتفكر المتأني.
في المحصلة من حق كل من فتح وحماس ان يدافعها عن رؤيتهما المختلفتين، من حق كل مدرسة أن تدافع عن نفسها وتطرح ما لديها من بضاعة، وتعززها بالدلائل والشواهد، وتدعم فكرها وطريقة فهمها للأمور، فلا حجر على الأفكار، ومن يبني أفكاره على أساس متين؛ يدوم ويستمر وينتصر، وتبقى الأعمال بخواتيمها، عبر انجازاتها الملموسة على أرض الواقع ،وليس التحليق في عالم الاوهام.
د. خالد معالي
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت