كلنا يتذكر مقولة الفاروق عمر بن الخطاب "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا" تلك المقولة هتف بها الفاروق في وجه عمرو بن العاص حاكم مصر؛ وهى باختصار تنتصر للضعيف على حساب القوى، حيث تصرف ابن عمرو بن العاص بمنطق "ابن الحاكم" وهى صورة تقليدية ممتدة على طول التاريخ الإنساني قائمة على الاستهانة بالشعب، لكن المختلف هو موقف عمر بن الخطاب وهو الذى يكسر الصورة النمطية للحاكم، وأصل الحكاية أن ابن عمرو بن العاص استغل سلطان أبيه فضرب غلاما عندما كان يلعب معه في سباق الخيول، فوصلت شكواه إلى الفاروق فاستدعى على الفور عمرو بن العاص وابنه إلى المدينة المنورة، فلما حضر عند أمير المؤمنين وبوجود الغلام المضروب ووالده، ناول الفاروق الغلام سوطًا وأمره أن يقتص لنفسه من ابن عمرو بن العاص، فضربه حتى استوفى حقه وشفا ما في نفسه،
ثم قال له أمير المؤمنين: لو ضربت عمرو بن العاص ما منعتك؛ لأن الغلام إنما ضربك لسلطان أبيه، ثم التفت إلى عمرو بن العاص قائلاً: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا" . الحكاية ليست جديدة فمعظمنا يعرفها، لكنها مناسبة لكل وقت وكل حين، وخاصة في اليوم العالمي لحقوق الإنسان، ورسالة تذكير إلى الحكام العرب أن العدل أساس الحكم، وهو ما دفع الفاروق عمر الذي يحكم إمبراطورية كاملة الاقتصاص لرجل من عامة الشعب ويلقن عمرو بن العاص والى مصر وابنه درسا في العدل والكرامة والمساواة بين الناس، ومن هنا تتضح مفاهيم "العدل والكرامة والإنسانية" عند عمر بن الخطاب التي التصقت به وجعلت منه أيقونة تملأ الدنيا غربا وشرقا. وما أحوجنا اليوم إلى تجسيد تلك المفاهيم الأساسية وقيم المواطنة القائمة على المساواة والمسئولية في مجتمعاتنا العربية، فنحن في اشد الحاجة إلى فلسفة مقولة الفاروق التي تنتصر للضعيف على حساب القوى، تلك المقولة التي تستهجن الاستعباد والظلم والجور والقهر والمذلة والإذلال والاستغلال والمتاجرة بالرقاب والعباد والدين والديكتاتورية ، فالواقع مليء بذلك المظهر المخيف ولا أحد يستطيع إنكار ذلك،
فالشمس لا تغطى بغربال، فالانفراد بالحكم أصبح سمه العصر وتغليب المصالح الحزبية والفردية الضيقة واعتماد سياسات الإقصاء والتهميش، ومحاربة الرأي الأخر بل اعتقال المخالفين وزجهم بالسجون والتهم جاهزة، وساد التعذيب والقمع وفرض الرأي الواحد واستغلال النفوذ والمحسوبية والانغلاق الفكري وغياب الشراكة في الحكم وعدم توسيع مساحة المشاركة في السلطة والقرار السياسي،
والأدهى من ذلك عدم الاستجابة للاستحقاقات الشعبية وتحقيق مفهوم سيادة الشعب والرجوع إليه في تكوين السلطة، فالواقع خير شاهد على ذلك، ولا يحتاج إلى تبريرات وإثباتات أو حجج، فالأمور تتجه نحو الكارثة بل إلى كوارث لا نحمد عقباها. وهكذا نرى أننا بأمس الحاجة الضرورية لاستحضار مقولة الفاروق عمر بن الخطاب بقصد الإتيان عليها في الآونة الراهنة حتى ننهل في معانيها ونستفيد من غاياتها ومراميها في المستقبل القريب، تلك الأقوال التي تؤسس إلى التسامح والتضامن والمساواة قولا وعملا الذي انطبع به الاسلام وجعل منه مصدرا من مصادر الديمقراطية الحقة والصافية قبل أن يعرفها العالم الغربي، لذا فالظلم لا يسود مهما كان شكله، وللظالم يوم مشهود مهما كان تسلطه وقوته واستبداده واستبعاده للناس والعباد، والصفحات التاريخية تعج بالعبر، فاعتبروا يا قادة وساسة وحكام، فارجعوا إلى شعوبكم وانتصروا لها قبل فوات الأوان.
بقلم: د. رمزي أحمد النجار
أستاذ القانون العام
[email protected] [email protected]
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت