برز فيما كُتب مؤخرا من قبل المنافحين عن "سيداو" والمؤيدين لتطبيقها الداعين إلى الإعراض عن شرع الله وموقف الجماهير الغاضبة ما يبرر لهم إقبالهم على فكر الاستعمار واحتضان ما يلقيه لهم الغرب من أفكار ومبادئ، بقولهم أنّه هكذا تُقام الدول، وأنّ التوقيع على الاتفاقيات والمواثيق الدولية هو الطريق إلى استحقاق الدولة والقبول في المجتمع الدولي معتبرين ذلك سببا وجيها للتساوق مع الاستعمار وأفكاره حتى وإن خالفت معتقداتهم وأفكار الأمة. بل وصل الحد ببعضهم إلى الطلب من السلطة الاستماتة في التشبث بالاتفاقية وما هو على شاكلتها باعتبارها طريقا لنيل الحقوق والاعتراف الدولي متخذين من قرار محكمة الجنايات الدولية مؤخرا دليلا على ما ذهبوا إليه من أوهام وسراب.
والحقيقة أن أصحاب هذه الأفكار من الواضح أنهم يغيبون عن أنفسهم حقائق شرعية وعقلية وتاريخية ليتسنى لهم الوصول إلى هكذا استنتاج مضحك.
أما الحقائق الشرعية، فمما لا شك فيه أن السعي لإرضاء الاستعمار والكفر غاية لن تدرك أبدا إلا بتخلينا الكامل عن افكارنا وانسلاخنا التام عن حضارتنا وديننا وثقافتنا، وحينها لن يصبح هنالك فرق بيننا وبينهم، بل سنصبح وإياهم على الباطل سواء، مصداقا لقوله تعالى: { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ }. فالساعون إلى إرضاء الاستعمار هم إما حالمون غارقون بالوهم والخيال وإما أنهم يعرفون هذه الحقيقة ولكنهم متآمرون مع الاستعمار. وفي كلا الحالتين فإنّ أعمالهم إلى بوار، قال تعالى:{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ}.
أما الحقائق العقلية والواقعية، فإن الدولة تنشأ بنشوء أفكار جديدة تقوم عليها ويتحول السلطان فيها بتحول هذه الأفكار، لأن الأفكار إذا أصبحت مفاهيم أثرت في سلوك الإنسان، وجعلت سلوكه يسير بحسب هذه المفاهيم، فتتغير نظرته إلى الحياة، وتبعاً لتغيرها تتغير نظرته إلى المصالح. والسلطة إنما هي رعاية هذه المصالح والإشراف على تسييرها. ولذلك كانت النظرة إلى الحياة هي الأساس الذي تقوم عليه الدولة، وهي الأساس الذي يوجد عليه السلطان، وقد عرفت الدولة بأنها كيان تنفيذي لمجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات التي تقبلتها مجموعة من الناس. هذا من حيث النشوء الطبيعي للدول. إما إن كان الحديث عن التحرر من الاحتلال، فأيضا ما من عاقل يقول بأن التحرر إنما يتم الحصول عليه بالتسول بل بقوة الجيوش وعنفوان المجاهدين، وفي هذا لا مقام للحديث عن دبلوماسية أو مفاوضات أو اتفاقيات، فالحديد لا يفله إلا الحديد، وسلوك منظمة التحرير وسيرتها الحديثة أكبر شاهد على فشل المفاوضات وعبثية السلام، وتجربتها أكبر دليل على الفشل الحقيقي في نيل الحقوق، فنظرة سريعة إلى ما آلت إليه حال السلطة ومنظمة التحرير بعد ربع قرن من المفاوضات والسلام تُري كيف أنهما أصبحتا حاميتين لكيان يهود بلا مقابل، وأصبح أكبر أماني السلطة ومنظمة التحرير هو دويلة بلا سيادة أو سلطان، بل مجرد اعتراف على الورق. والحال القائم حاليا يشهد كيف أصبحت السلطة تحت الاحتلال، مسلطة على أهل فلسطين، ومسخرة لحماية المستوطنين وأمن كيان يهود، مع تشبث عميق من قادة السلطة بمشروع الاستسلام ودوام تأدية المطلوب حتى وإن كان المقابل إعراضا وإدبارا من كيان يهود. ومنطقيا، من الذي سيجبر كيان يهود ومعه الغرب المستعمر أن يمن على السلطة والمنظمة بدولة على جزء من أرض فلسطين؟! هل لكرم أخلاقهم أم لحسن انصافهم؟! وهل يمكن أن يهب يهود والاستعمار دولة للسلطة الفلسطينية دون أن يكون المكسب المقابل أعظم ربحا وأكبر فائدة مما سيتخلون عنه؟!
نعم، المحصلة المتوقعة هو مشروع أمني للاحتلال وبوابة للتطبيع والتمكين بثمن زهيد وأقل التكاليف، ولذلك رأينا كيف أن يهود تدحرجت مطامعهم من مجرد أن يكون لهم وطن في فلسطين إلى أن وصلوا إلى درجة أنهم لم يعودوا مستعدين لمنح السلطة أكثر من حكم ذاتي، وذلك لما رأوه من تنازل وخوار من قبل السلطة واستعدادها للموت في سبيل مشروع الاستسلام بعد ان تحول إلى مشروع استثماري لقادة السلطة والمنظمة، وبذلك تحول مشروع الدولة عند الحالمين بها من مشروع استقلال وسيادة إلى مشروع خدمة للاحتلال والاستعمار، فيا له من مشروع؟!
أما تاريخيا، فلو كان هؤلاء الحالمون بدولة على الورق منصفين لكفاهم لمحة على التاريخ ليروا كيف أن الدول لم تُقم يوما بالتسول أو الارتماء في أحضان المستعمر، فما تحررت شعوب ولا أقيمت دول بالتماهي والتعايش مع الاستعمار وأفكاره، إما إن كانوا يقصدون بإقامة الدولة هو أن يُنصبوا على رقاب الناس كملوك الطوائف أو الكرازايات، فحينها يكون الكلام صحيحا، ولا يلزمهم حينها التفكير بالتنظير أو فلسفة العمالة، بل حسبهم أن يقولوا أنهم يريدون أن يُمكنوا في الأرض ويسودوا البلاد على ظهر دبابة الاستعمار ولذلك يقدمون القرابين للاستعمار! أما دوام الكذب والتضليل وإدعاء النضال من أجل الدولة والاستقلال، فهو إثم فوق إثم.
فحري بالسيداويين أن يفوقوا من سكرتهم، ليدركوا أنهم يسيرون خلف الاستعمار ليلقوا حتفهم كمثل المضبوع إذ يسير خلف الضبع ليفترسه، لا ليُمنحوا دولة وسيادة وسلطان!! وليضعها هؤلاء حلقة في آذانهم بأن طريق الغرب والاستعمار لا تقود إلا إلى التهلكة ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون.
بقم المهندس باهر صالح*
· عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة فلسطين
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت