اتهم القائم بأعمال مدير وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" كريستيان ساوندرز، يوم الخميس 16/1/ 2020، أميركا وإسرائيل بالعمل ضدها، مؤكداً أن أميركا تحشد تأييد البرلمانات الأجنبية لوقف التبرعات لها، وقال ساوندرز في مقابلته مع وكالة رويترز: "إن إسرائيل تسعى لاستبدال الخدمات التي تقدمها الوكالة للفلسطينيين بتفويض من الجمعية العامة للأمم المتحدة في القدس الشرقية المحتلة بخدمات تقدمها منظماتها، فيما تروج الولايات المتحدة ضد تمويل الأونروا في البرلمانات الأوروبية وغيرها".
وفي خدمة المجهود نفسه، قررت "بلدية الاحتلال" في القدس، انشاء مدارس تابعة لوزارة "التربية والتعليم الإسرائيلية" بدلاً عن مدارس وكالة الغوث "الاونروا"، كخطوة تصعيدية, في اطار مواصلة العدو الاسرائيلي استهداف الشعب الفلسطيني وطمس هويته وثقافته وحقوقه المشروعة. إنّ قرار "بلدية الاحتلال" بإنشاء مجمع مدارس تابع لوزارة "المعارف الإسرائيلية" شرق القدس، يأتي تتويجا للجهود الرامية لتجسيد المخطط الذي تم اعداده مسبقا وهدفه تصفيه "الاونروا"، والذي بدأته "بلدية الاحتلال" في القدس بهذه الخطوة بدعم قوي من حكومتها اليمينية المتطرفة والإدارة الامريكية.
ان تراجع دور وأداء الاونروا ومهامها، مرتبط بالإرادة السياسية الدولية، والجهود الرامية لتحقيق الانهاء التدريجي لعملها ووظيفتها الاساسية، نظرا لما يحمله استمرارها في أداء مهامها، من معنى ومغزى سياسي وقانوني صرف يتعلق ببقاء وديمومة قضية اللاجئين الفلسطينيين، وإقرار حق العودة في القرار 194.
بعد مرور سبعة عقود على تأسيس الوكالة الدولية، ثمة جدل واسع يطرح نفسه حول دور الاونروا ومستقبلها، خصوصا مع ما يترافق من حديث حول افاق عملية "التسوية" السياسية ومستقبلها، والتي يرتبط بها مستقبل الاونروا, على الرغم من انها لم تعرف نفسها سياسيا في أي من أدبياتها، واقتصر دورها على الجانب الاغاثي والاجتماعي، الا انها – أي الاونروا -لا تفارق التفكير السياسي للفلسطيني، بل ويرتبط واقعها في أكثر الأحيان ان لم نقل بمجمله، بالتطورات السياسية الإقليمية والدولية، وأنها لم تكن لتنشأ لولا العامل السياسي الذي رسم عنوانا سياسيا عريضا للقضية الفلسطينية من خلال قضية اللاجئين وحق العودة.
وهنا تجدر الإشارة ، الى ان أمريكا اخذت على عاتقها منذ عهد الرئيس ترومان الذي تولى الرئاسة في الفترة ما بين 12/4/1945 – 20/1/1953، منع عودة اللاجئين الفلسطينيين الى ديارهم، وتوطينهم ودمجهم الاقتصادي في المحيط العربي، وهو ما أعلن عنه ممثل أمريكا في "لجنة التوفيق الدولية الثلاثية حول فلسطين", والتي الفتها الجمعية العامة للأمم المتحدة من ممثلي فرنسا وتركيا وامريكا, واقرها بروتوكول لوزان في 12/5/1949 ,حيث اعلن ممثل أمريكا في الاجتماع الذي عقد في بيروت 21/3/1949 ,ان "إسرائيل لا تقبل عودة اللاجئين...وهناك حقيقة واقعة وهي ان جميع اللاجئين لن يعودوا...يجب التفكير في إعادة توطينهم من جهة, واعداد المشروعات اللازمة لعودتهم للحياة العادية".
من اجل ذلك ,ايدت أمريكا انشاء وكالة الاونروا كفرصة لتوطين اللاجئين الفلسطينيين خارج ديارهم, وضغطت على الدول العربية الخليجية كي تفتح أبوابها امام الفلسطينيين للعمل فيها وبأجور مغرية, وتسهيل كل السبل امامهم لنسيان الوطن والقضية, كما حاولت ان تغري بعض الدول العربية لكي توافق على توطين اللاجئين في بعض أراضيها, وهكذا, حددت أمريكا منذ ذلك التاريخ, موعد معين تتوقف عنده – الاونروا - عن تقديم المساعدات للاجئين, بهدف إجبارهم على الاندماج في البلدان التي هُجروا اليها ,وهذا ما حدث فعلا منذ سنوات عدة من قبل سياسة أمريكا, ما ادى الى توقف كثير من أوجه الدعم والخدمات التي كانت تقدمها الاونروا نتيجة النقص الحاد في موارد تمويلها.
ويقوم المشروع الامريكي على فرضية تقديم عملية التسوية في المنطقة والانسحاب التدريجي بموازاة ذلك للأونروا من مهامها ومسؤولياتها، لذلك جرى استحداث موازنة خاصة لمشاريع دعم ما يسمى "بعملية السلام"، وخطة للموائمة بين خدمات الوكالة ومثيلاتها في الدول المضيفة بهدف احالتها الى هذه الدول، حيث بدأ صندوق المشاريع يتغذى على حساب المساعدات المخصصة للموازنة العادية، التي شهدت تراجعا وعجزا طرديا سنويا، في الوقت الذي عملت الاونروا على إعادة هيكلة موازنتها السنوية على أساس صندوقين: صندوق الموازنة العادية لتوفير خدمات التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية, وطرح صندوق "برنامج تطبيق السلام"، وبشكل صريح ذلك ما عبر عنه تقرير المفوض العام للأونروا (1998-1999) ,حيث جاء فيه ان الاونروا توائم بين عملها ومقتضيات أوسلو و"عملية السلام".
كما شهدت الاونروا بعد أوسلو عدة متغيرات مترابطة, شكلت انعطافه في تاريخ الوكالة، وانتقالا من الوظيفة التي أنشأت من اجلها, باعتبارها مؤشرا على استمرار معاناة الفلسطينيين وضرورة وقفها من خلال تطبيق القرار 194, الى وظيفة أخرى متكيفة مع الوجهة السياسية لعملية أوسلو, ومؤشراتها قضايا التأهيل والدمج في المجتمع المحلي وفقا "للجنة اللاجئين المتعددة", والتي تشارك فيها الاونروا وفي اعمالها منذ تأسيسها 1992 , وهكذا واكبت الاونروا انسجامها مع وجهتها السياسية الجديدة طبقا للمتغيرات ولمتطلبات المرحلة الانتقالية على المسار الفلسطيني, مما انعكس على ميزانيتها وهيكلة عمالتها, فتوارت المشاريع مع الميزانية العادية, وبرز نهج الموائمة بين خدمات الوكالة والدول المضيفة.
هناك العديد من الثغرات التي أحاطت بالأونروا سواء لجهة نوعية التفويض أو لجهة دورها وعملها ومهماتها:
- صلاح صالح عبد ربه في كتابه "وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين بين مأساة التاريخ، ومأساة الحلول" الصادر مؤخرا, ونقلا عن وليد سالم حيث يقول: " وإذ عملت "لجنة التوفيق" في مناقشة الجانب السياسي لمشكلة اللاجئين مع الحكومات المعنية، فإن وكالة الغوث قد عملت في ميادين الإغاثة وبرامج التشغيل للاجئين، أي أنها انحصرت في الدور غير السياسي, وعندما تعطلت "لجنة التوفيق" بعد سنوات قليلة من حرب 1948، فقد أصبح الدور اللا سياسي للوكالة من الناحية الموضوعية دورا سياسيا، يصب باتجاه خدمة مشاريع التوطين".
- حصر نشاط الاونروا ببعض الدول (ما تبقى من فلسطين خارج نطاق السيطرة الإسرائيلية) وسوريا ولبنان والأردن فقط، واستثنت من عملها اللاجئين في الجزء المغتصب من فلسطين إبان حرب 1948، وبقية الدول.
- تعريف وكالة الاونروا لمفهوم (اللاجئ)؟؟!!، الذي استثنى أعدادا كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين من عملها واغاثتها.
- حصر صلاحياتها على الجانب الإغاثي والتشغيلي والانساني، واستبعادها العمل من أجل إعادة اللاجئين إلى ديارهم – الجانب السياسي والقانوني - وهو الأمر الذي يسمح به نظام المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة.
- تسجيلها لقوائم اللاجئين الفلسطينيين يعتمد على الحاجة إلى المساعدة ومكان الإقامة، بدلا من الاعتماد على كون الفلسطيني لاجئا فحسب. وهذا ما حصل في المسح الذي أجرته الاونروا مؤخرا لاحتياجات اللاجئين، ما يوحي برغبة الوكالة في شطب أعداد إضافية من اللاجئين المسجلين في سجلاتها، حيث تم تصميم استمارة المسح بحيث تظهر النتائج عدم حاجة أعداد كبيرة من اللاجئين لخدمات الاونروا.
- الأمم المتحدة التي أنشأت وكالة الأونروا متواطئة في خلق مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، وعلى وجه الخصوص: خطتها التقسيمية (قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181) التي استخدمها قادة الحركة الصهيونية لتبرير التطهير العرقي في فلسطين، وإن كان بتحريف المصطلحات في بنود القرار والتوسع إلى ما وراء الأراضي المخصصة "لدولة الأغلبية اليهودية".
- قبلت الأمم المتحدة بعضوية " دولة إسرائيل " في جمعيتها العمومية قبل تطبيق حق العودة للاجئ الفلسطيني، ما يشير الى خلل واضح في تطبيقات القانون الدولي وفقا للمصالح السياسية.
لهذا, فأن اللاجئين الفلسطينيين كانوا حذرين من دور الأونروا وسبب وجودها منذ تأسيسها، فإنهم وبفعل افتقارهم إلى جسم سياسي تمثيلي لهم يعبرعن تطلعاتهم السياسية في العودة, تعاملوا مع الأونروا كحكومتهم المعنية بتحقيق رفاههم المعيشي, وعند ظهور منظمة التحرير الفلسطينية، في الفترة التي أصبحت فيها أسواق الخليج الوجهة الجاذبة للعمالة الفلسطينية ( الجانب الاقتصادي المعيشي)، اكتسب اللاجئ الفلسطيني دعم وثقة سياسية واقتصادية, وبدت الأونروا أقل أهمية لبقائهم, غير أن اتفاقات أوسلو أحدثت أزمة وطنية وشرخا بين السلطة الوطنية والغالبية العظمى من اللاجئين, وهذا ما أعاد الأونروا إلى موقع الصدارة مجددا، حيث حافظت على أهميتها ليس كحكومة معنية بالإغاثة فقط, وإنما بوصفها حيزا يمكن اللاجئ الفلسطيني ان يعود من خلاله للمطالبة بحقوقه السياسية والقانونية, التي تجاهلتها اتفاقات أوسلو وانتهكتها, وان وجود الأونروا لا يزال يعني في القانون الدولي في عدم التوصل إلى حل سياسي و قانوني لقضية اللاجئين واستمرار مشكلتهم.
وخلافا للدعاية الصهيونية -الامريكية، فإن وجود الأونروا لم يشجع النضال الوطني الفلسطيني ولم يحتويه ايضا، بل تعامل الفلسطينيون مع الأونروا بطرق مختلفة كما فعلوا مع مؤسسات أخرى، وعلى مدار العقود القليلة الماضية ضَمِنَ نضالهم وكفاحهم عدم نجاح الوكالة –الاونروا -في إخماد قضيتهم السياسية.
والذي ينبغي تسليط الضوء عليه، هو ما إذا كانت البرامج التنموية وبرامج البنية التحتية في أماكن تواجد عمليات الأونروا ومرافقها, مرتبطة بأجندات سياسية أشمل؟!، تسعى إلى الغاء وتهميش قضية اللاجئين وحقهم في العودة الى ديارهم.
ولكن تجدر الإشارة، ان لوكالة الأونروا أهمية بالغة في ظل المناخ السياسي الراهن بالنسبة للنضال الوطني الفلسطيني وذلك للأسباب التالية:
- الوكالة طرف موقع على كافة قرارات الأمم المتحدة بما فيها قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194.
- برزت الأونروا -في ظل غياب جبهة وطنية تحتل فيها قضية اللاجئين مكانة مركزية في المشروع الوطني الفلسطيني-كمؤسسة تحافظ على إبراز اللاجئين على الساحة الدولية، وتشير إلى أن ولايتها لا تزال قائمة.
- الأونروا تبقى في ظل غياب مؤسسات الدولة، الخازن الأوحد والأهم للذاكرة الفلسطينية التاريخية لأكثر من سبعة عقود، فقد احتفظت بسجلات اللاجئين منذ مطلع الخمسينيات وجمعت ذاكرة مؤسسية تشهد على هذا التاريخ الجمعي، ومع ذلك، فهذه الأسباب وغيرها لا تبرئ الأونروا من التلاعب بها سياسيا بيد القوى الدولية الكبرى وفقا لأجنداتها السياسية، وهو ما يتطلب موقفا متيقظا من الفلسطينيين حيال توجهات الوكالة وسياساتها وبرامجها الحالية والمستقبلية.
لذلك، لم يكن تمرير قرار التجديد الكامل لتفويض الأونروا في الشهر المنصرم من العام الماضي مهمة سهلة، نظرًا لحجم الضغط الأميركي والإسرائيلي الذي شهدته أروقة الأمم المتحدة بهدف تعطيل القرار، ويبدو واضحًا صعوبة العمل في ظل تعقيدات السياسة الدولية الحالية، ورهن الدعم المالي للأونروا بأهداف سياسية, ومؤشر ذلك , قبل استقالة كرينبول من منصبه بتاريخ 6/11/2019، على إثر تحقيقات بالفساد، أشار إلى أن الأونروا تعاني من "مخاطر وجودية"، وأضاف خلال مقابلة له بتاريخ 18/11/2019، بأن "التحقيق نابع من دوافع سياسية"، "واستُغل في أوج تطبيق صفقة القرن."
لقد عطلت (أوسلو) منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها وأفرغتها من سلطتها وفعالياتها السياسية، ووجهت الموارد والتركيز السياسي نحو "الداخل" -الأراضي الفلسطينية الواقعة تحت إدارة السلطة الفلسطينية -على حساب اللاجئين وقضيتهم، ورغم الولاء الذي تظهره السلطة الفلسطينية بشعاراتها "لحق العودة،"، فإنها قد دفنت هذا الحق تحت عناوين سياسية متعددة، أسفر ذلك, عن نشوء مزاج سياسي تشاؤمي ولا سيما في أوساط اللاجئين في المنفى, ولذات السبب, استمرت الأونروا وستستمر كمؤسسة دولية ترمز إلى المصير السياسي المعلق للاجئي عام 1948 وحقهم في العودة المُهمَل والساقط فعليا بحكم المبادئ الناظمة لأوسلو والتزاماته.
د. باسم عثمان
كاتب وباحث سياسي
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت