(1)
الدولة المدنية والدولة الدينية
■ الدولة المدنية، الدولة الوطنية، الدولة - الأمة... مفاهيم، مصطلحات، صيغ في التدبير السياسي للمجتمعات الإنسانية، تلتقي فيما بينها وتلبّي عملياً نفس المعنى، فهي تعبّر عن واقع كيانات سياسية تستند إلى مجموعة من الأسس، مفتاحها مفهوم المواطن (والمواطنة)، والشعب مصدر السلطة، واستقلال الحيّز العام عن الحيّز الخاص، واستقلال مؤسسات الدولة عن المؤسسات الدينية (ما يسمى بفصل الدين عن الدولة، ولكن ليس فصل الدين عن المجتمع)، واستقلال السلطات الثلاث (التشريعية، التنفيذية، القضائية) عن بعضها البعض.
■ الدولة الدينية، بالمقابل، تعتبر أنها الوحيدة القادرة على إقامة وحدة عضوية بين النظام الروحي والنظام الدنيوي، باعتبارها ترتكز في أدائها لوظائفها إلى أساس مُنزَّل. وهذا الأساس هو الوحيد القادر على توحيد القوانين الطبيعية التي خلقها الله مع القوانين الوضعية التي تستند إليها، ولا تخرج عنها إلا بحدود تأويلها. ولذلك، فإن مصدر التشريع هو الشريعة، باعتبارها مُنزَّلة، وباعتبار أن الحاكمية هي لله وحده.
■ هذا التعريف لكل من الدولة المدنية والدولة الدينية هو مقاربة أولية، نعتبرها كافية في توضيح مفهوم الدولة بصيغتيها المدنية والدينية. لكن هذه المقاربة – بطبيعة الحال – لا تراعي تنوّع الإجتهادات والتطبيقات في هذا الحقل، بنتيجة تضافر عوامل عدة: الشرط الموضوعي السائد، التكوين الإجتماعي، المسار التاريخي، البيئة الثقافية...، ما يجعل الواقع العملي أكثر تنوعاً وتعقيداً، خاصة إذا أخذنا في الإعتبار أن تحديد صيغة الدولة هو – في التحليل الأخير – نتاج لعملية صراع وتجاذب في المجتمع قد تبقى مفتوحة على جولات لاحقة، أو تتوج بحصيلة ما، توافقية أو أقل توافقية، مستقرة نسبياً أو قلقة، بحسب ما تتمخض عنه نسبة القوى السياسية، المجتمعية، المنخرطة في هذا الصراع.
■ إن الحدود الفاصلة ما بين الدولة المدنية وبين الدولة الدينية واضحة تماماً، وجوهرها يدور حول منبع التشريع، ومصدر السيادة، والمساواة في المواطنة. وفي القلب من كل هذا يقف الشعب كمرجعية عليا، والمواطن – موضوعياً - كقيمة قائمة بذاتها. غير أن هذه الحدود الواضحة لا يجب أن تتحول إلى خطوط جامدة، فالإنفتاح على الآخر، والتفاعل معه يوسع مساحات التلاقي ويعزرها، لكنه لا يلغي المساحات الخاصة، وإن قلَّصها.
■ يحتدم النقاش في المنطقة العربية حول صيغة الدولة التي سينتظم من خلالها الإجتماع السياسي. وفي حلبة الصراع تتواجه في أكثر من بلد (بما فيه المناطق الفلسطينية المحتلة)، تتواجه دساتير معتمدة ومشاريع دساتير، أو تعديلات جوهرية على دساتير قائمة، أو مشاريع قوانين خاصة بالأحوال الشخصية، وغيرها من قضايا المجتمع. وقد يتهيأ للبعض أن رؤية الإسلام السياسي بشكل عام تشق طريقها نسبياً في بلداننا، باعتبارها حققت نتائج وتَعِدُ نفسها بالمزيد. ولهذا الرأي ما يسنده بكل تأكيد في حقائق المشهد الجارية فصوله أمام أي مراقب متابع.
■ ومع ذلك، فباعتقادنا أنه من المبكر التنبؤ بمآل هذا الحِراك، حيث لا يجب التقليل من شأن الهزائم أو التراجعات التي مني بها الإسلام السياسي في بعض البلدان (مصر، تونس، سوريا،..)، فمشكلة قوى الإسلام السياسي (ولا نتكلم هنا عن الإتجاهات التكفيرية المندحرة، التي منها الدين براء) أنها تبرع في المعارضة وتفشل في الحكم، لافتقادها إلى البرنامج الملبي للواقع واحتياجاته، من جهة، وخلطها بين الدعوي والسياسي، من جهة أخرى، وتفردها بممارسة السلطة إحتكارياً، من جهة ثالثة، في الوقت الذي يتطلب فيه الوضع العربي، وفي كل بلد على حدة، أقصى درجات التعاون بين قوى واتجاهات متعددة المشارب والرؤى، على قاعدة برنامج مشترك يستظل بالديمقراطية المنفتحة على التعددية، برنامج محوره إستكمال مهام التحرر الوطني، والحرية، والحياة الكريمة، والعدالة الإجتماعية■
(2)
الدولة المدنية والليبرالية
■ الدولة المدنية تعبِّر عن واقع كيانات سياسية إجترحها الفكر الليبرالي البورجوازي مع صعود البورجوازية في الغرب عموماً، كطبقة سياسية حاكمة، ترافق تدرجها مع انتصار نمط الإنتاج الرأسمالي كنمط مسيطر، أزاح نمط الإنتاج الإقطاعي الآفل، وحلَّ مكانه.
يقوم الفكر الليبرالي – مبدئياً – على قيمتي الحرية والمساواة، والأخيرة تتحرك على مستوى الحقوق السياسية، ولا تشمل الحقل الإقتصادي، حيث تسود «قدسية الملكية الخاصة في المجتمع»، وبالذات في محراب وسائل الإنتاج، والتمويل، والتداول، الخ..، نقيض الطابع الإجتماعي/ الجماعي الغالب لإنتاج الخيرات المادية في المجتمع.
■ المساواة، في نهج الليبرالية البورجوازية، لا تمتد إلى الحقل الإقتصادي، فالديمقراطية الليبرالية، اقتصرت في بدايتها على «المالكين» دون سائر شرائح المجتمع (الفئات الوسطى والكادحة)، ولم تمتد إلى عموم الشعب، إلا بعد عقود من الصراع الإجتماعي. إن الديمقراطية الليبرالية، فيما استقرت عليه، تتويجاً لمرحلتها التأسيسية، هي ديمقراطية سياسية بالأساس، وليست ديمقراطية إجتماعية؛ ولا يغيِّر في هذا جوهرياً إعتماد مدارس معيّنة من الليبرالية، ذات المنزع الإجتماعي، صيغ معيّنة من العمل الخدماتي، الخيري، والتعاضدي المجتمعي.
■ لقد فُرِضَ البعد الإجتماعي على الليبرالية كمنظومة معتمدة (وإن بحدود ترسمها نسبة القوى في المجتمع المعني) في البنية الإقتصادية – الإجتماعية، من خارج الليبرالية، ولم يكن خيارها الأول، حيث تطلب الأمر خوض الطبقة العاملة وسائر الكادحين نضالات سياسية ومطلبية موصولة ومكلفة، قبل أن ترسو الأمور على مفاهيم وصيغ العدالة الإجتماعية، التي اكتست أشكالها الأكثر تقدماً في ما يُسمى بلدان/ أنظمة الرفاه الإجتماعي.
■ أما المساواة الإقتصادية (وبالتالي الإجتماعية)، فهي من سمات المجتمع الإشتراكي القائم على الملكية القانونية المجتمعية لوسائل الإنتاج، بمرجعية السلطة السياسية المجتمعية، الرقابية والتقريرية. إن ارتياد آفاق المجتمع الإشتراكي يقتضي إنجاز مجموعة من التحولات الجذرية (الطبقية، الإقتصادية، السياسية، القانونية، ...)، لسنا بواردها في هذا السياق■
(3)
تداعيات العولمة على الدولة الوطنية
■ العولمة والليبرالية القصوى (الألتراليبرالية) التي تلازمها، أتت وتأتي على حساب السيادة الوطنية، إحدى المرتكزات الأهم التي تقوم عليها الدولة الوطنية، بما هي سيادة الدولة على أراضيها، حدودها، مواطنيها، أمنها، واقتصادها.
لقد أدت العولمة، وتؤدي إلى تقليص مدى ومفعول الإجراءات الحمائية (القانونية، الإجرائية) التي تتخذها في العادة الدولة الوطنية، لصون كيانها، استقلالها، سيادتها، قرارها، وترتيباتها وفقاً لأولوياتها الوطنية... وهذه ظاهرة كونية تنعكس كأزمة، بدرجات متفاوتة من الشدة على الدول، شرقاً وغرباً؛ كما أنها تتباين بأشكال تجليها، وتتمايز – كأزمة - في تعبيراتها، تبعاً لمستوى تطور هذه الدول، حصانتها، عراقة مؤسساتها وكياناتها، قوة اقتصادها، فضلاً عن خصوصيات الشرط الثقافي والتاريخي (التي قد تكون في حالات معيّنة شديدة التأثير)، في كل من هذه البلدان على حدة..
■ تبرز هذه الأزمة في عدد من الدول الأوروبية على المستوى الإقتصادي (ديون اليونان، عدم قدرة عدد من الدول الوفاء بمقاييس ماستريخت الصارمة حول المالية العامة، لا سيما ما يتصل بعجز الموازنة، الخ..)، وتجد امتدادها في عدم استقرار الحكم، وأحياناً تغيير صيغته (إنفراط عقد الأحزاب الرئيسية في الإنتخابات الرئاسية والبرلمانية الفرنسية عام 2017)، وفي مغادرة الإتحاد الأوروبي (المملكة المتحدة - البريكسيت)، وفي كيفية التعاطي مع موجات الهجرة (من جوار أوروبا شرقاً وجنوباً، إليها)، وفي ملف الخلاف المفتوح على السياسات والصلاحيات بين المؤسسات الوطنية/ القومية (المنتخبة تعبيراً عن سلطة الشعب)، وبين المؤسسات الأوروبية الجامعة (المنتخب منها، والمعيّن، ومن بين أبرزها البنك الأوروبي المركزي)، علماً أن الأخيرة – أي المعيَّنة – أكثر إستجابة لمتطلبات العولمة (أي على تغليب مصالح رأس المال الإحتكاري العابر للحدود) من الأولى – المنتخبة - الأكثر تلمساً، وتحسساً لمشكلات مجتمعاتها.
■ كما تتبدى هذه الأزمة في أوروبا على المستوى الداخلي أيضاً، أي ضمن حدود دول بعينها، من خلال تعزيز المنحى الإنفصالي – الكامن، أو المعبر عنها بدرجات متفاوتة من الوضوح الحركي – لمناطق، وأحياناً لقوميات بعينها، كما هو حال كاتالونيا في إسبانيا، ولومبارديا في إيطاليا، وسكوتلندا في المملكة المتحدة، والفلمنك في الفلاندرز في بلجيكا.. هذا دون أن ننسى – وإن في سياق مختلف – الحروب الداخلية، بطابعها القومي، والمذهبي، التي مزَّقت يوغسلافيا إرباً، على امتداد تسعينيات ق 20، وما زالت تداعياتها تجرجر نفسها، حتى يومنا، بمثال الصراع بين صربيا وكوسوڤو.
■ ضمن هذا المشهد تزدهر مطالب الإتجاهات السياسية القومية اليمينية، القائمة على إبراز المطالبة باستعادة ما يسمى بـ «الحمائية». وفي هذا السياق تأتي المطالبة بالخروج من الإتحاد الأوروبي، أو اعادة صياغة المشروع الأوروبي لجهة تقييد صلاحياته، أو حتى حصره في إطار، وبحدود منطقة التبادل الحر، الخ.. والأمر نفسه نلاحظه في الولايات المتحدة (بعد أن كانت «أم» العولمة، خاصة أثناء رئاسة كلينتون من 1992-2000)، حيث شكلت «الحمائية» محوراً رئيسياً من برنامج دونالد ترامب خلال معركة الرئاسة (خريف 2016).
إن قرارات إدارة ترامب وإجراءاتها، بعد وصوله إلى البيت الأبيض، شملت مراجعة الإتفاقيات الإقتصادية مع محيطه المباشر (كندا + المكسيك)، وعبر الأطلسي (مع أوروبا)، إضافة إلى التضييق على استيراد السلع من أوروبا والصين، أي الدول ذات الحصة المرتفعة في السوق الداخلية للولايات المتحدة، والدفع باتجاه المطالبة بإعادة توطين المصانع التي نزحت إلى خارج البلاد، بحثاً عن اليد العاملة الأقل كلفة. والظاهر للعيان إحتدام «الحرب التجارية» مع الصين (وأوروبا) بعناوين مختلفة، وآخرها ما يتعلق بحماية الحرية الفكرية والسطو على الإختراعات■
(4)
قيمة وطنية تجمع، أم قيمة هوياتية تفكك؟
■ المنطقة العربية – أسوة بغيرها – تنداح عليها أيضاً تداعيات العولمة، بما هي أزمة متعددة المستويات. لكنها، أي الأزمة، تأخذ أشكالاً أكثر حدة وتفجراً بسبب من قابلية دولنا البنيوية، وضعف مناعتها المكتسبة. ففي عدد وافر من الدول العربية نلاحظ أن الأزمة لا تقتصر على مشكلات الحكم (الحوكمة)، أو الإقتصاد والتنمية عموماً، أو التوترات (وأحياناً الإنفجارات الطبقية الإجتماعية الناجمة عن الفقر والبطالة، وتفاوت مستويات الدخل، الخ..)، بل تتخذ – إضافة إلى كل ما سبق – شكل إندحار فكرة «الدولة الوطنية»، وصعود برنامج الكيان – الهوية على أساس إثني، جهوي، طائفي، الخ..
■ من خلال المقارنة بين الوضعين الأوروبي والعربي، بالإمكان الخلوص إلى مايلي: على خلفية الأزمة العامة وفي امتدادها، يتحصَّن بالدولة الوطنية، الإعتراض على الإتحاد الأوروبي، ككيان سياسي للوحدة قيد التأسيس؛ هذا في الوقت الذي تسعى فيه الإتجاهات الهوياتية الإنفصالية للتأكيد على استمرار الإنتماء إلى الإتحاد الأوروبي، كبديل لانتمائها الحالي إلى الدولة الوطنية، التي تسعى للفكاك منها.
أما في الحالة العربية، فالإتجاهات الكيانية الهوياتية تسعى بوعي، أو أن مشروعها يقود – موضوعياً – إلى وضع الدولة الوطنية في مهب الريح، إضعافاً لها، أو حتى تفكيكاً لكيانها، وذلك بأفق الإنعزال عن محيطها في الدولة الوطنية، أي عن مكوناتها الأخرى؛ وبالمقابل الإنفتاح على الخارج (القريب، كما البعيد) وصولاً إلى الإرتباط به، أو التبعية له، ذلك الخارج الطامع ببلادنا، بما فيها من خيرات، والمعادي لطموحات شعوبها المشروعة في التحرر الوطني، والتنمية، والتقدم الإجتماعي، والديمقراطي.
[■ إن المقارنة بين الحالتين الأوروبية والعربية – بطبيعتها – تكون نسبية وتقريبية، وظيفتها المساهمة في توضيح وتعزيز الفكرة، أو الحجة، وليس إقامة البرهان القاطع على صحتها. وفي السياق المحدد الذي يعنينا، فإن هذه المقارنة تبرز المنحى التفكيكي التابع لدينامية الأزمة في منطقتنا العربية، في الوقت الذي تتحرك فيه الأزمة في أوروبا تحت سقف الخيارات الإيجابية التي تصون المصلحة الوطنية (أكاد أقول القومية)، نظراً لتمسكها بالكيان السياسي الجامع، أكان في إطار الدولة الوطنية، أم في سياق مشروع الإتحاد القاري، بصرف النظر عن مدى إنفتاح الأخير على ملاقاة إستحقاقات المستقبل، على افتراض أنه توجد إمكانية إتفاق مسبق على هذه الإستحقاقات، يحملها عنوان / سؤال: هل ينطوي المشروع الأوروبي – بمعطياته الحالية – على إمكانية / إحتمال تحقيق الوحدة السياسية؟ ]
■ إن ضياع القيمة الوطنية الجامعة، وصعود القيمة الهوياتية المُفَكِكة للكيان الوطني، في الوقت الذي يعبّر فيه عن عدم قدرة الدولة الحديثة، الدولة الوطنية، بصيغتها الحالية على احتواء التناقضات الداخلية، وفتح أفق ديمقراطي ووطني لحلها، إنما يؤشر إلى بلوغ هذه التناقضات حداً بات يستلزم جعل المطروح على أجندة العمل الوطني مايلي: إجراء إصلاحات واسعة على بُنى الدولة الوطنية القائمة، وصولاً إلى إعادة تأسيسها إذا تطلب الأمر، كما هو الحال في العراق، ليبيا، السودان، اليمن، الصومال..
إن الدولة المدنية، الدولة الوطنية الديمقراطية، القائمة على المساواة في المواطنة، التي تضمن حقوق جميع المكونات، هي الجواب على التحدي المطروح على شعوب، أو عدد وافر من شعوب منطقتنا، ذلك التحدي الذي أطاح باستقلالها، أو صدَّع مرتكزاته بأقل تقدير، ما يطرح – بدوره – ضرورة المسارعة في استعادة، وإحياء، وتجديد برنامج التحرر الوطني، الذي ساد الميل لفترة طويلة، لا بل الإعتقاد، أنه بات خلف الظهر■
فهد سليمان
نائب الأمين العام
للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت