أديل(بطلة رواية "في حديقة الغول" للروائيّة ليلى سليماني) تشتهي الجنس لدرجة الإدمان، ملّت حياتها البرجوازية و"حالما يترك زوجها المنزل ويتوجه لمقر عمله، تفتح الباب أمام حياتها الثانية وتبدأ في السعي وراء الرجال الذين غالبًا ما يكونون من الغرباء لتعيش هي ذلك الشعور السحري الذي يمكّنها من التخلّص من البرجوازية والبؤس الإنساني الذي تعيشه .مدمنة على الجنس وبهدف نسيان حاضرها تلجأ لتعاطيه مع أيٍ كان وأينما وبأيّ طريقة كانت؛ تمامًا كما تعشق سماء، بطلة رواية "أكثر من وهم" للروائي عبد السّلام صالح(تحتوي 222 صفحة، صادرة عن دار فضاءات الأردنيّة، صدر له روايات: "المحظية"، "أرواح بريّة"، و"صُرَّة المُر").
تم الاعتداء جنسيًا على سماء منذ كانت طفلة، في عامها الرابع عشر؛ فحقِدت على كلّ شيء، قرّرت أن تنتقم من المجتمع ومن جسدها فاستباحت كلّ الرجال الذين قابلتهم وجعلتهم مشاعًا لنزواتها ورغباتها الجنسيّة، تستمتع بمضاجعة كلّ من يمر أمامها ولا تترك أحدًا يفلت من شرّها ومخالبها، "كنت حين أجن لا مانع عندي من تعاطي كلّ الإبر معًا، أتعاطاهم جميعًا بنفس الوقت، يدخلني أكثر من واحد لأكثر من مرّة وبنفس اليوم ولا أشبع، من جسد لجسد ولا أشبع ولا أرتوي (لم يزدني الوِردُ إلّا عطشًا)".(ص. 8)
أحبّت ممارسة الجنس عبر الإنترنت، بالخلاء تحت الشمس في وضح النهار، على التراب الأحمر أو على البلاط الأحمر، فوق الشجر وبآلاف الأوضاع الجنسيّة المُبتَكَرة، تحت الشجرة وفوقها، في زاوية مهملة من شارعٍ لندنيّ آخر الليل مع صديق أوروبيّ عابر تقابله للمرّة الأولى، مع مديرها في الشركة وفي كلّ الغرف والوضعيّات، السكس في السيارة، في بيت أهلها وكلّهم نيام، واستأجرت بيتًا لجسدها ورغباتها وشهوتها، بيتًا فقط للجنس، سعادتها في عدد الرجال الذين دخلوها وكلّما زاد العدد زادت سعادتها وسعادة جسدها حتى صار خلفها ينافس أمامها في طلب المزيد! مارست الجنس بشبقيّة شهوانيّة وكان لها خيال طيّار "لي خيال كلّ امرأة مارست الجنس أو مورس معها في التاريخ، كلّ خيالاتهن وخلاصات خيالاتهن هنا في جسدي، في رأسي المُشبع والمُترع بالجنس".(ص. 12).
سماء امرأة الشارع، عالمها خارج البيت والخروج عن المألوف، تسعى لتحقيق ذاتها عبر استقلاليّتها الاقتصاديّة بكلّ ثمن، وعبرَ كلّ سرير يداهمها في طريقها، فهي وجسدها ليسا بعَورة، بل تتحرّش بمَن يصادفها وتراه أداة لإشباع شبقها، نجدها أكثر من مجرّد وهم؛ المرأة قويّة خالية المشاعر، جريئة حدّ الوقاحة، تؤمن بحريّتها الجسديّة المُطلقة وحقّها أن تفعل ما تشاء، مع مَن تشاء وأينما تشاء، سيّدة الإثارة والإباحيّة، محطّمة التابوهات المتعارف عليها.
وكان أن التقت بأحمد؛ رمز الهزيمة، حلِم بتحرير فلسطين والتحق بالثورة ورجالها فخاب أمله حين اكتشف الفساد يعيث بها ويحوّلها إلى عاهرة لِمَن يدفع أكثر، يقودها منتفعون فاسدون يروّجون معتقدات، أيديولوجيات وشعارات رنّانة وطنّانة من أجل مصالحهم الشخصيّة، فإدّعاء الدفاع عن الوطن تجارة رابحة، أصابه يأس وإحباط، يهرب من محاولة التغيير عبر الكآبة والكحوليّات ليُدمنها، منعزلًا في صومعة من قسوة لتصير حليفته نحو الهزيمة. يتأمّل بحِرقة أيّام الثورة؛ تضامن ثوريّ نضاليّ من أحرار العالم، عربًا وأجانب، والكتاب قبل البندقيّة، أيّام تسابقت فيها الفصائل للعمل الفدائي وكان الفلسطيني طليعة حركة التحرّر الوطني العربيّة والعالميّة، لا يخاف الأسر أو الشهادة وحوّلت القيادات، الحلم الجميل بالحريّة، والعودة، إلى عدَم حين سرق عضو المكتب السياسي ماليّة التنظيم وهرب بها إلى بلاد العم سام.
يسرح مع الزمن الجميل، يتذكّر كمال خليل يغنّي لأحمد الذي ترك دراسته في أوروبا وذهب للدفاع عن الثورة في بيروت المحاصرة عام 1982 ومارسيل خليفة يصدح في أذنيه "بالأخضر كفّناه" تخليدًا للشهيد زياد طناش، ثورة سرقها الإسلاميون فزادت شعبيّة حماس وقويت شوكتها حبًا بالمقاومة وليس حبًا بها وبالإسلام السياسي، نتاج الفساد والخذلان من قيادة فاشلة أفسدها المال ومُخترقَة من قبل العملاء... سبب كلّ الهزائم.
عكف أحمد مع كامو وبودلير وجان جينيه وسافو والماغوط ومظفّر النوّاب، قرأ وحفظ عن ظاهر قلب ما كتبته أنييس نن (القائلة: "أنا أخبر الكثير من الأكاذيب لدرجة أني أدونهم أحتفظ بهم في صندوق الأكاذيب حتى لا أنساهم"؟)، سيمون دي بوفوار(ومقولتها: "التضحيات لا تعود مؤلمة حين تغدو وراءنا")، ومايا كوفسكي (ومقولتها: "أريد من وطني أن يفهمني، ولكن إذا فشلتُ في ذلك- ماذا بعد؟ سأمرّ في موطني الأم إلى طرف واحد مثل وابل من المطر")، ليهرب مع كأسه مليئًا بالمارتن مع البيرة من تعاسة حاضره المهزوم.
يمقت الأمريكان الذين أدخلوا الطائفيّة للعراق والعالم العربي، ممّا ولّد التكفيريّين الذين ملأوا البلاد مساجد ودشاديش ولحى، بلا قيم ولا أخلاق، كلّهم دجّالون ومنافقون وأعداء الدين، صاروا بين ليلة وضحاها وكلاء الله على الأرض، يحلّلون ويحرّمون، قنوات الفتنة أبواقهم والدين منهم براء.
يتناول العولمة وتحويلنا لاستهلاكيّين، يغرسون وكلاءهم المتعاونين في كلّ مكان للحفاظ على مصالحهم، يزرعون الحقد والتفرقة، فشعارهم: "فرّق تسُد"، والغرب يدعم تلك الطبقة التي ينخرها الفساد لتبقي البلد في سبات عميق. توظيفه للمختار الهامل الذي وقّع على إعدام محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير زمن الانتداب (الله يسامحك يا عبد السلام – ليش نسيت عطا؟!؟) وكانت مكافأته جنسيّة بريطانيّة له ولعائلته وتسفيرهم إلى لندن معزّزين (ص. 146) ليعودوا إلى عمان، بدون كرامة، تحت حماية السفارة البريطانية وفتحوا شركات ومؤسّسات، ومثلهم مثايل، كالانتهازيّين السوريّين والعراقيّين والبرجوازيّة الفلسطينيّة العميلة للانتداب البريطاني وصارت عمان مكافأتهم، لتصبح مدينة محنّطة كما وصفها أدونيس! فصارت البلد "مِكلبة، مجموعة كلاب مسعورة بتنهش بكل شي، ما ظل مؤسسة ناجحة إلا سرقوها، وصاروا الحراميّة نموذج يحتذى، الكل بدو يسرق ويزبّط حاله زي ما بحكوا"(ص. 151)، وأصاب البلد مرض الكلَب، يتسابق الكلّ على الكلبنة، حتى المعارضين والمثقّفين والكتاب، فتصير في البلد أوركسترا وجوقة نباح رائعة.
يصوّر حياة عمان المزيّفة، كلّها مظاهر وتمثيل، حاولت سماء أن تعيشها فشاركت إحدى حفلاتها الراقصة(سهر وشرب ورقص وأجواء، وحشيش وحبوب...ومجون) وصُدمت: "هم عن جد هدول مبسوطين؟ ولا بيمثلوا؟ صرت أراقب كل شي عشان أجاوب على السؤال، ما بعرف.. حسّيت إنه ولا إشي طالع من جوا، ولا إشي طالع من أعماقهم ومن أرواحهم يحسّسك إنهم مبسوطين، أو فرحانين، صرت أراقب أكثر، حسّيت في إشي خربان أو مكسور جوّاتهم، حاولت أعرف إيش هو ما قدرت، حتى إلي بيِختلي هو وصاحبته أو هي وصاحبها، بيغيبوا ربع أو ثلث ساعة بناموا مع بعض فيها وبيرجعوا أكثر كآبة من ما راحوا، برجعوا يشربوا ويرقصوا، بلكي بيجي الفرح أو السعادة، ما بتيجي ولا بيشعروا فيها، بتذكروا إنه حواليهم ناس كثير وصحاب، بيضطروا يصيروا يمثّلوا، ويعملوا حالهم فرحانين، كلهم هيك، كل إلي شفتهم وشربت ورقصت وحكيت واقتربت منهم." (ص. 178)
حاولت سماء مقاومة واقعها بواسطة اللجوء للجنس، عالطالع والنازل، بينما حاول أحمد مقاومة واقعه بالانعزال والكحول، علّهما يبلغا السعادة المشتهاة نتاج التعرّي.
اقتحم عبد السلام صالح التَّابوهات المحرّمة: الدِّين، والجنس، والسِّياسة بجرأة نادرة؛ فوجد عمان الخلفيّة المشوّهة ليُعرّيها بعيدة عن مكياجها وزيفها.
استعمل المحكيّة للحوارات الجميلة، والفصحى والشاعريّة بسلاسة وبساطة، مزجها بكوكتيل مهضوم نجح بإيصال رسالة مدويّة فاضحة للزيف العمّاني. أسلوبه مشوّق، وظّف الاسترجاع والتداعي بحِرفيّة، قسّم الأدوار بين سماء وأحمد ليخفّف وقع الصدمة على المتلقّي، وكلّ منهما يحمل تساؤلات فكريّة وفلسفيّة لتصوير عمّانه التي يعشقها وما آلت إليه من زيف وتشويه مسخها وغيّر روحها.
اختياره لعنوان الرواية جاء موفّقًا ليكشف عدّة أوهام، كلّ ووهمه، وأكثر من وهم، الوهم بثورة تحوّلت إلى ثروة وتجارة رابحة، التعويل على المثقّفين الذي تبيّن أنه وهم وفشل فشلًا ذريعًا، والحب الذي تحوّل إلى وهم.
تغادر سماء المدينة إلى هناك، ويبقى أحمد هنا مهزومًا يعيش وهمه ليل نهار.
هل فعلًا هذه حالة سماء/عمان التي يحلم بها الكاتب فيجدها أكثر من وهم؟!؟
أنهي بما أنهى به الكاتب روايته:
"ها أنا أعلن هزيمتي
لأنك لست أكثر من وهم
واجم قلبي..
يسترق السمع للصمت
يسترق السمع للوهم
هل هذا هو الحب
ليتَهُ كان نصف ضياع"
حسن عبادي
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت