في يوم الأسير الفلسطيني رحلة ؛ من الزنزانة إلى الغيوم ..

بقلم: المتوكل طه

المتوكل طه

***

يستيقظُ ، فيجدُ صورةَ ذاته المعلّقة بين الجدار والفولاذ، وجسدهُ ينوءُ تحت حديد الليل الذي يخدَّرُ أطرافَه ورأسَه، لكنّ فؤاده مرْجلٌ يفورُ بباقات البراعم الحمراء.

وتأخذه أحلام اليقظة إلى رحلةٍ لا تنتهي ؛

يركب قطارَ اللّيل، ويفتح نافذةَ الشجر، يتنسّمُ ريحَ القندول والليمون والزعرور، كأن الغصون تخرج من كّمهِ أو أصابع يديه.

يمدُّ نظرته إلى البعيد، فيرى الغيومَ تختالُ بخفّةٍ في السماء، فيحارُ  في تشكّلها الأميبيّ السريع، ويطيب له أن يرى غزلاناً وحدائق وزفّات طيور، وينأى عن أن يرى الوحوش الداكنة الثقيلة التي تتهيأُ للافتراس.

ويفتح يديه، لعله يجمع فيهما ما يسّاقط من رهامٍ خفيف هبّ على الدنيا.

ويغمضُ عينيه، ويفتح نافذتي أنفه، لتعبر إليه فرحةُ الماء والتراب وما ينبضُ فيهما من بذور وشهوات خضراء.

ويهدأ في جلسته، كأنه أغلق الشبابيك، وَرَدَّ يدَه على أُختها، وَعبَر في أحلام يقظتهِ، يلتقي ذات الخطوة الزلزال، وينفذ أكثر ليشرب من عينيها قهوةَ القرنفل.

ويغفو، بلا رغبة منه، ويسطو على وجهه الوسنُ، فتذبل ذراعاه، وتسرقه كائناتُ المغارة التي تأخذهُ إلى عتمتها، فلا يرى غير أجسادٍ متيبّسة بهيئتها التي انفطرت عليها، كأنها تمثالٌ لحميّ، وجدوه منذ الأزل مشبوحاً إلى الجدار بجنازير وسلاسل وقيود.

.. ويستيقظ ، فتحضر أمامه تلك المرأة التي انهالوا عليها بالضرب قبل أن يزجّوا بها في الأقبية، ويتوالى عليها ثمانية محققين على مدار خمسة أيام، لا يتركونها تنام لحظة. كانت مشبوحة على الكرسي المثبّت بالأرض مقيّدة اليدين والقدمين، يُطفئون السجائر في كل مكان، ويتركونها مع الصراصير والفئران والفضلات، والباب الصاج يكثّف الرطوبة العالية، ويمنع الهواء من الدخول، قبل أن يدفعوا بها إلى غُرف السجينات اليهوديات الجنائيات من بنات الهوى والقاتلات الشاذّات اللواتي رُحن يمزّقنها، ويحرقن زهر جسدها بأعقاب السجائر والأظفار والأسنان.

ويستيقظ، فيرى ذلك الطفل الذي لطمَ الجنديَّ عندما رآه يضرب أمَّه ساعة اعتقالها، فطوّحهُ بقدمه كأنه كرة، فانخلع كتفه، وانشقّ رأسه، وأخذوا والدته التي قالوا لها إنهم سيغتصبونها، وإنهم اعتقلوا زوجها، وإنهم سيأتون بشقيقتيها ويفعلون بهما الأعاجيب.

كانت الرائحة مثل تلك الليلة مرعبة. والصراخ والأوجاع تتصادى في ممرات الزنازين، كأن الجحيم بدأ عصره منذ الآن، وتكاد الشفاه تتشقق عطشاً، والأمعاء تتقطع جوعاً، والجميع هنا خارج الزمان والمكان، أو لعلهم في كابوس لا ينتهي وراء أبوابٍ لا يذكرها أحدٌ من الخَلْق.

ولتعلم الآلهة أن بشراً وحوشاً يعيشون، هنا، معنا على الأرض .

***

وينام ..

معطف الليل من هواء! يفرد جناحيه وسادةً لإعادة ترتيب الأشياء، أو ليأخذ العيونَ إلى رحلة الحرير ، أو الغياب المؤقّت .  والليل يبسط حريره البارد تحت رأس المُتعبين، فيمتصّ الغيظ والعرق المتيبّس، ويعرّي الغافي من كل حباله وقيوده، ويُطْلقه جناحاً يَغمس ريشه في الشهوات الممنوعة، أو ليتخطّى أسوار النهار، أو ليُخرج كل الرمل بصرخة كابوس حاد، واهتزاز الماء المتصبب من الجبين .

        و يبدأ الليلُ مشدوداً .. لينتهي بالركود الهادئ .

***

ويحلم ؛

مَنْ هؤلاء الذين يصّاعدون بعباءاتهم البيضاء، ويخترقون سقف الزنزانة، كأنهم ضوء أو هيولا؟

ومَنْ الذين يلفّون سماء الزنزانة بغلالات شفيفة كأنها السحاب الخفيف، ويُدَوِّمون مع الهواء؟

ومَنْ ذاك الذي يقف في الفراغ، ويمدّ ذراعيه، فتتدلى أكمامه الواسعة، لتلامس الأرض، كأنه ينتظر مَنْ يعانقه؟

ومَنْ تلك التي تلبس على رأسها تاج النور، فتضيء الزنزانةَ بهالتها الحليبية، وتدفّ منها الفراشات المضيئة كأزرار الثلج، وتسّاقط منها أزهار الياسمين الذهبية؟

ومَنْ هذه التي تتهادى على فرس الفضّة في طريق الغابة المطيرة، ويغطيها النوّار الأحمر؟

ومَنْ هذا الذي يمسك ذراع العروس، ويخطو معها على ماء النغم الهدهاد الرتيب، فتثور النوافير الملوّنة حولهما؟

ولمَنْ هذه الزفّة الصاخبة التي تضوّع الشرفات بزغاريدها وصهيلها ورقصات مزاميرها؟

.........

أيقظوه، إنه يحلم، كعادته!

***

كأني رأيته وهو يهبط من البدر المكتمل الموشّح بثيابه البيضاء، الموشّاة ببقع الأرجوان المقدّس، وقدميه الناعمتين اللتين مرَّرت المجدلية ضفائرها عليهما !

كان شفيفاً، عملاقاً، وشَعره مخضّلاً بالمياه، يضفضف ويضيء .. يفتح ذراعيه ، فتنزل سحابتا أردانه حتى تلامسا الطريق ..

يا سيدي البهيّ المخذول بقُبْلة الخيانة اللئيمة! عُدْ إلى أبراج السماوات، واهتف للعليّ المجيد، الذي يرانا .. ليمسحَ عن وجهك دموعَ المعتقلين البسطاء، واقرأ بشارتك النافذة، في هذه البراري القاسية؛ بأنك جئت لتلقي سيفاً  في قلب العتمة .. لعلّ صغارنا يدخلون  باب العامود، ويدلفون بأناشيدهم الصغيرة، إلى طريق الآلام .. فلا يُصعّرون خدودهم، بل يكسرون صليبهم، ويرمون تيجان الشوك .. وينظرون إلى الأعالي، التي تُسبّح لمجد أمواه القلوب، التي تغسل الطريق من غبار الجنود .. الذاهبين، وحدهم إلى الجلجلة .. ويعلو قُدّاس الحياة واليمام .. في كل الأزقة والأجراس .. والنداءات الخاشعة ..

ولن يتمكّنوا منك ثانيةً، فاذهب، على مهل .. إلى غبش الخشوع والملائك الساهرين .. وانتظرنا

.. فإنا خارجون .

 

 المتوكل طه

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت