لم تأبه الأدوات المحلية ولا "محركاتها" الرئيسية من خارج السودان لجانب قانوني مهم لحظة اتخاذ قرار حل "منظمة الدعوة الإسلامية" ومصادرة ممتلكاتها، لكون المنظمة غير سودانية أساساً، ما من شأن الخطوة فتح باب التحليل واسعاً أمام القرار ودوافعه وتوقيته.
ففي القرار الذي أصدرته "لجنة إزالة التمكين" مساء الجمعة 10-4-2020 والقاضي نصاُ بـ"إلغاء قانون منظمة الدعوة الإسلامية لسنة 1990، وحجز واسترداد كل أموال وحسابات وأصول المنظمة وفروعها داخل وخارج السودان، العقارية والمنقولة ومقراتها ودورها وشركاتها واستثماراتها، على أن تؤول لوزارة المالية"، تجاوز واضح لتفصيلات قانونية لم يتم أخذها بعين الاعتبار عند اتخاذ القرار، كونها لا تخضع لجهات الاختصاص السودانية.
ولم تغفل المنظمة التي مارست خلال العقود الماضية، دورها الإغاثي الإنساني، والدعوي، وفق أطر وأسس أقرها قانون الدولة السودانية، عن الجوانب المرتبطة بتكوينها، وأدائها، من حقوق وواجبات، لتسارع في بيان صدر عنها لحظة اتخاذ القرار، بإيضاح وضعها القانوني، كون السودان دولة مقر للمنظمة الإقليمية المتشعبة المؤسسات والهيئات، محملةً في الوقت ذاته "لجنة إزالة التمكين" المسؤولية الكاملة عن أي أضرار تلحق بأصول المنظمة وممتلكاتها.
العديد من المراقبين والمتابعين لقرارات اللجنة التي أصدر قرار تشكيلها رئيس المجلس السيادي عبدالفتاح البرهان، وهدفت لـ"إزالة آثار التمكين" لنظام البشير، ومحاربة الفساد واسترداد الأموال، أخذوا عليها في تبريرات قرارها الأخير بحق "منظمة الدعوة الإسلامية" من خلال اعتبارات "مهلهلة"، كاختيار الرئيس السابق عمر البشير مقر المنظمة في الخرطوم في 30 يونيو/حزيران 1989 منطلقاً لانقلابه، واستحواذه على الحكم آنذاك. في الحين الذي يؤكد فيه المراقبون على انعدام الانسجام التام بين المنظمة ونظام البشير، مدللين على ذلك بقضية اعتقال النظام السابق بداية عهده لرئيس مجلس أمناء المنظمة، لتضطر حينها المنظمة لاستبداله، ما يؤكد على تدخلات نظام البشير في شؤون المنظمة، ومساعيه في التأثير على بعض سياساتها، واضطرار المنظمة للتعامل معه كأمر واقع.
رائحة "التسييس" تفوح مرة أخرى، من قرار حل منظمة الدعوة الإسلامية، بنفس الطريقة التي كانت تفوح فيها الرائحة ذاتها مع اتخاذ قرارات مشابهة ضد مؤسسات إنسانية وخيرية في عدد من الدول العربية والإسلامية، يعزو ذلك تهافت قوى دولية، تدعمها أطراف في الإقليم لإعادة تشكيل وعي الأجيال، وتقويض الدعائم والأسس التي تحدد معالم شخصية وهوية الإنسان المسلم، المتمسك بوسطية فكره، وحضور جانب الإحسان وعمل الخير فيها بقوة، تحت دعاوى محاربة الفكر المتطرف، وإنهاء تجربة الإسلام السياسي.
يقابل عملية "التسييس" إحلال فكر مكان آخر، والخوض في حرب شعواء لا ملامح محددة لها، ولا ترتبط بوازع أخلاقي، حيث يظهر ذلك من خلال استهدافها لمؤسسات خيرية يتم النظر إليها كرمزيات لفكر ما أو واجهات وقنوات تمويلية لأطراف سياسية، ليسهل الزج بها في أتون الحرب الضروس التي لا تأبه بيتيم يعتاش على مخصصات المتبرعين المتخذين للجمعية الخيرية وسيطاً، أو أسرة فقيرة تعد أيامها انتظاراً للموعد المقرر لاستلام مخصصها من الدعم العيني أو المالي من المحسن الكريم، ومريض ينتظر استحقاقه المالي لاتمام علاجه.
فلم يكن يخطر ببال منظمة الدعوة الإسلامية، التي تأسست في العام 1980 كمنظمة إقليمية، مقرها السودان، أن تحارَب بذرائع من قبيل دعمها لنظام البشير الذي تولى مقاليد حكم البلاد بعد إنشائها بتسع سنوات، ولا حتى بدعوى الفساد المالي والإداري، وهي التي يُشهد لها بالنزاهة والمهنية العالية في مجال العمل الإنساني منذ عقود طويلة. يوازي ذلك استعجالاً غير مبرر في إصدار قرارات الحل ومصادرة الممتلكات، دون إخضاع أية شبهة كانت "إن وجدت"، للفحص وللتقصي القانوني، بحسب ما تجري عليه العادة، في الدول التي تحتكم للقانون، ومؤسساته المختلفة، وإلا فكيف تكون الوسيلة بحفظ حقوق المنظمة والعاملين فيها، فضلاً عن المستحقين للدعم في مختلف أنحاء القارة الأفريقية، والذين يعتاشون على المساعدات من أيتام وفقراء ومرضى وطلاب، وغيرهم؟؟.
يأتي السؤال بإلحاحاته الإنسانية والأخلاقية، التي تتجاوز في مداها نظرة الساسة الذين "حشروا" أنفسهم، وأيديولوجياتهم في صراعات صغيرة تحقق انتصارات "دوغمائية" قصيرة الآجال، بينما يقومون بإلغاء –إما عن قصد، أو عن جهل، أو بدافع توحشي- فصلاً من كتاب الإنسانية سطّرته المنظمة بجهدها وعرق مؤسسيها ومنتسبيها والقائمين عليها، ما يؤدي في نهاية الأمر إلى تجويع وتشريد الآلاف، وإبقاء آخرين فريسة انسداد آفاق العيش أمامهم، وانقطاع الأمل.
ومن المهم أن يقودنا معرض الحديث عن منظمة الدعوة الإسلامية، إلى التعريف ولو قليلاً بعملها المؤسسي المنظم والعريق، وآلية عملها المتطورة في مجال العمل الخيري الإنساني إلى جانب الدعوي، فقد تأسست المنظمة على أيدي نخبة من رجال الدولة والأكاديميين والمتخصصين في العمل الإنساني والدعوي، وهم: اللواء ركن مزمل سليمان غندور– أول رئيس لمجلس أمناء منظمة الدعوة الإسلامية، والمرحوم الدكتور التجاني عبدالرحمن ابو جديري – أول امين عام للمنظمة، والمرحوم الأستاذ مبارك قسم الله زايد، أول مدير تنفيذي للمنظمة ثم الأمين العام لها، والمشير عبدالرحمن سوار الذهب- رئيساً للمنظمة، والدكتور الأمين محمد عثمان – المدير التنفيذي والأمين العام الأسبق، والفاضل عبد السلام سليمان سعد – المدير التنفيذي.
مع هؤلاء الرواد في مجال العمل الخيري استطاعت المنظمة أن تسلك طريقها في ريادة العمل الدعوي والإغاثي والتنموي، حيث تجاوزت حدود عملها السودان، لتنطلق في رحابة الأرض تنشر قيم وتعاليم الدين الإسلامي في التسامح والتعايش بين بني البشر، مع تطبيقها العملي لهذه القيم القائمة على ترسيخ مبادئ التكافل الاجتماعي بين الناس، من خلال تنفيذها للمشاريع الخيرية الداعمة للفقراء والمحتاجين، وأخرى تحرص على الدفع باتجاه خلق وعي تنموي لفائدة المجتمعات والأجيال المتعاقبة. وسارت المنظمة في عملها في إطار هيكلية مؤسسية عالية المستوى، فقد كان لها مؤسساتها المتخصصة، "كالمؤسسة الصحية العالمية" التي تعنى بمجابهة آثار الكوارث الطبيعية والحروب الأهلية من خلال تنظيم عمليات إغاثة عاجلة، وإنشاء وإدارة مؤسسات علاجية، وتشجيع الهيئات المحلية على المشاركة في إعادة البناء، ومنها ما يختص بتدريب الدعاة كمؤسسة "تأهيل وتدريب الدعاة"، و"المؤسسة الأفريقية للتعليم" المتخصصة في تعليم اللغة العربية والتربية والإسلامية.
ويقوم "الجهاز العام للاستثمار" داخل المنظمة بإنشاء ومتابعة الاستثمارات، بينما تقوم "الجمعية الأفريقية الخيرية لرعاية الأمومة والطفولة" التي تأسست عام 1985، بكفالة الأيتام والأمهات داخل وخارج السودان، وحماية الطفولة من التشرد، وزيادة الدخل للأسر الفقيرة. ولضمان هامش من الاستقلالية المالية قامت المنظمة بإنشاء "مؤسسة دانفويو القابضة" عام 1981 بهدف زيادة التمويل الداخلي للمنظمة، من خلال ممارستها أنشطة اقتصادية تتركز في مجالي التجارة العامة والمقاولات.
وتتوزع مشاريع المنظمة ضمن مجالات عدة: التعليمية: كإنشاء وترميم المدارس والمراكز والمعاهد، ودعم البرامج التعليمية في الدول الفقيرة. والرعاية الصحية: كتزويد المستشفيات بالمعدات واللوازم الطبية، والأدوية، وإنشاء المراكز الصحية النموذجية، وإقامة المخيمات العلاجية، وتسيير القوافل الصحية، وغيرها من الخدمات. كما تقوم المنظمة بتنفيذ مشاريع توفير المياه الصالحة للشرب، وكفالة آلاف الأيتام في السودان ودول افريقية، ضمن الجهود التي تبذلها "الجمعية الإفريقية لرعاية الأمومة والطفولة" التابعة للمنظمة، ومشاريع أخرى كالأضاحي، وتقديم الدعم المباشر للأسر الفقيرة من مساعدات مالية وعينية، من أبرزها توزيع الطرود الغذائية على المحتاجين.
وتؤكد المنظمة في بياناتها على أنها قدّمت خلال سنوات العطاء التي تميزت فيها بين مثيلاتها من مؤسسات العمل الخيري والإنساني، خدمات لأكثر من 100 مليون أفريقي في 56 دولة، من خلال مكاتبها الإقليمية الأربعة في القارة، حيث حاربت خلال هذه السنوات الفقر والمرض والجهل والأمية، بعزيمة قوية وبمعنوية عالية لا تعرف الخذلان أو الكلل. وبلا شك، ستتضح على المدى البعيد والمتوسط حجم الخسارة لأبناء الشعب السوداني ومعه أبناء القارة الأفريقية بعد فقدانهم هذا الصرح الإنساني الكبير، سيما وأن الأشقاء في السودان يعيشون حالة من التراجع الإقتصادي، واتساع رقعة الفقر مع ما شهده البلد مؤخراً من احتجاجات سياسية أدت لتحولات في شكل وفي جانب من بنية نظامه الحاكم، حيث بدأت التظاهرات أو "الثورة" بمبررات اقتصادية بحتة نتيجة تراجع مستوى المعيشة للمواطن السوداني، وزيادة الاعباء الاقتصادية على كاهله.
وفيما لو كان حل المنظمة تحت أي دواعٍ أو مبررات، سواء أكانت خطوة من خطوات تنفذها الحكومة الانتقالية بهدف إثبات "حسن نواياها"، تجاه من تأمل منهم رفع اسم السودان من اللائحة الأميركية للدول الراعية للإرهاب، أو خدمةً لأجندات خارجية سعت على مدى السنوات الماضية إلى "تسييس" العمل الخيري والإنساني في العديد من الدولة العربية، وعلى رأسها الدول التي خاضت تجربة ما يعرف بالـ"الربيع العربي"، فإن ذلك لا يحمي من العواقب الوخيمة، التي لا نبالغ إن قلنا بأن أقلها سيكون إفراغ الساحة أمام منظمات وهيئات، ربما تأتي بلبوس العاملة في مجالات إنسانية واجتماعية، لتبدأ في تنفيذ مخططاتها في إعادة تشكيل وعي أبناء المنطقة، ومحو هويتهم، والعبث بقناعاتهم الإنسانية، وربما بمعتقداتهم الدينية.
بقلم: الدكتور عصام يوسف – رئيس الهيئة الشعبية العالمية لدعم غزة
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت