إطلالة على وكالة الغوث .. من نافذة كورونا (1/2)

بقلم: إياد محمد عبدالحميد مسعود

كتب: إياد محمد عبدالحميد مسعود

من الاستخلاصات والدروس المهمة، التي توصلنا إليها في قراءتنا لصفقة ترامبـ ـ نتنياهو، ومجابهتنا لها، أن الرئيس الأميركي، وهو يعمل على شطب قضية اللاجئين وحق العودة، باعتبارها «عقبة في طريق الحل»، مثلها مثل القدس والجولان، اتبع سياسة بديلة لأسلافه في البيت الأبيض.

فبدلاً من ان يدعو إلى اعتبار قضية اللاجئين بنداً على جدول أعمال المفاوضات، ويطرح لها حلاً يقوم على التوطين أو إعادة التهجير، مقابل تعويضات سخية للدول المضيفة السابقة واللاحقة، عمد إلى استبعاد القضية برمتها عن جدول المفاوضات، وإلى حل بديل يقوم على تفكيك القضية إلى أجزاء، يعاد من خلالها قراءة الملف المعقد، قراءة جديدة، تقود إلى إلغاء الملف نفسه، بحيث تخرج قضية اللاجئين من الملف الفلسطيني، وبحيث (أيضاً) يقتصر هذا الملف على حل مسألة مصير الأرض المحتلة من خلال ضمها (أو ضم أجزاء واسعة منها) إلى دولة إسرائيل الكبرى.

الخطوة الأولى

الخطوة الأولى في عملية التفكيك، كانت (ومازالت) العمل على إعادة تعريف اللاجئ الفلسطيني، بحيث يتم شطب ملايين اللاجئين، وبحيث (أيضاً) تفقد القضية موضوعها. إذ لا قضية لاجئين من دون لاجئين. وإلغاء وجود اللاجئين، يقود حتماً، وبالضرورة إلى إلغاء القضية.

استند ترامب في تعريفه للاجئ الفلسطيني، إلى ما سبق وأن قدمه المفاوض الفلسطيني من تنازلات في مفاوضات سابقة، فكك فيها هو أيضاً قضية اللاجئين إلى فئات، نزولاً عند الضغط الأميركي والإسرائيلي، وفي سياق عمليات المقايضة الفاسدة بين عناصر القضية والحقوق الوطنية الفلسطينية.

• الفئة الأولى، من فئات اللاجئين، هم مواليد فلسطين (أي ما قبل نكبة 1948) هؤلاء اتفق الطرفان المتفاوضان، الفلسطيني والإسرائيلي، على «حل» قضيتهم بالسماح لهم بجمع الشمل مع أهاليهم في مناطق ال 48، من زاوية إنسانية، وليس في إطار تطبيق القرار 194، أي ليس في إطار ممارسة حق العودة. وبشرط أن يعود هؤلاء دون ذريتهم أي يفترقوا عن أزواجهم (وأزواجهن) وأولادهم (وأولادهن). خلفية القرار أن إسرائيل لا تعترف بأن حق العودة حق دائم وثابت يتوارثه الأبناء والاحفاد عن الآباء والأجداد. اللاجئون، كتصنيف، شكل أساساً لاتفاق جمع الشمل، هم فقط من غادروا ديارهم عام 1948. أما من ولدوا خارج فلسطين في الزمن اللاحق، ووفقاً للمعايير الإسرائيلية، لا تنطبق عليهم الصفة القانونية للاجئ.

• أما الفئة الثانية، أي الذين ولدوا خارج فلسطين، في زمن اللجوء، فمصيرهم التوطين أو إعادة التهجير، وفقاً لما ورد في وثيقة جنيف_ البحر الميت، التي شارك في ولادتها فريق فلسطيني بتكليف رسمي من رئيس م.ت.ف آنذاك.

وجوهر الوثيقة أن حل قضية هذه الفئة، هو في البحث عن مكان سكن دائم لأفرادها، في الضفة، وفي غزة، بشكل خاص للاجئين في لبنان، وفي مناطق اللجوء الأخرى، كأوروبا والدول الخليجية للأخرين.

وبناء على هذا التمييز، غير القانوني والمخالف للقرار 194، ولتعريف اللجنة القانونية العليا للأمم المتحدة، ولتعريف مقاييس وكالة الغوث، تتقلص قضية اللاجئين، من قضية 6ملايين لاجئ، إلى ما لا يزيد عن 50ألفاً، يتم «جمع شملهم» مع أهاليهم (إن وجدوا) في 48، على دفعات، تتراوح بين 5 و10 سنوات. علماً ان الذين صاغوا هذا الاتفاق كانوا على دراية تامة، أن الزمن سيكون كفيلاً «بحل» قضية هؤلاء، الذين لا يقل سن أكثرهم شباباً (الان) عن 73 سنة (!)

الخطوة الثانية

إذا كانت الخطوة الأولى شكلت في مضمونها انقلاباً على القوانين والمعادلات الدولية، واصطدمت بإرادة دولية حاسمة، رفضت التعريف الأميركي للاجئ، فإن الخطوة الثانية لم تكن تقل خطورة عن الأولى في مضمونها، بل تفوقت عليها في أنها لا تحتاج موافقة المجتمع الدولي ومصادقته، بل تحتاج إلى مجرد قرار من رئيس الولايات المتحدة لتأخذ طريقها إلى التنفيذ.

مشروع ترامب اعتبر وكالة الغوث مؤسسة، باتت وظيفتها، حسب رأيه، أن تديم مشكلة اللاجئين لا أن تحلها. فالوكالة، تأسست، كما يقول ترامب، ودوائر أميركية تسانده في الكونغرس، من أجل أن تعمل على «دمج» اللاجئين في المجتمع المحيط (أي التوطين)، غير أنها تحولت إلى مجرد منظمة إغاثة، أسهمت في صون الشخصية الفلسطينية، وإعادة بناء المجتمع الفلسطيني، ووفرت البيئة الاجتماعية والمسرح المكاني (المخيمات) لعمل سياسي أسهم في إعادة بناء الهوية الوطنية الفلسطينية، التي فشل التهجير والشتات في تذويبها.

ومثل هذه الخلاصة تقتضي، في حسابات ترامب ومن يؤيده، حل وكالة الغوث ونقل خدماتها إلى الدول المضيفة، وإذا ما ربطنا بين هذا «الحل»، وبين إعادة تعريف اللاجئ، نصل إلى نتيجة تقول إنه ما دمنا أمام وضع ينتفي فيه وجود لاجئين فلسطينيين، فمن الطبيعي ان تحل المؤسسة التي أنشئت لإغاثتهم.

ترامب يدرك ان قرار حل «الوكالة» ليس بيد ادارته بل هو بيد الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي اعتادت أن تجدد لها تفويضها مرة كل ثلاث سنوات. لذلك جندت إدارة ترامب طاقاتها لتضغط على الدول الأعضاء في الجمعية العامة للتصويت ضد تجديد التفويض للوكالة، في وقت كان التجديد ينال إجماع الجمعية العامة باستثناء امتناع المندوب الأميركي عن التصويت، ومعارضة المندوب الإسرائيلي.

هذه المرة، فشلت الولايات المتحدة في الضغط على الجمعية لتجديد التفويض للوكالة، لكنها نجحت بالمقابل في جر عدد من الدول الهامشية والميكروسكوبية للتصويت معها.

طبعاً لم تستسلم إدارة ترامب إلى النتائج، بل عمدت، مع العديد من وسائل الاعلام، إلى تضخيم الحديث عن «أوضاع فساد» في وكالة الغوث واعتبرت «الفساد» ذريعة لدعوة الدول والجهات المانحة لقطع التمويل عن الوكالة وتجفيف مصادرها المالية، في إدراك تام و واعي أن أهمية الوكالة هي في برامج خدماتها، وأنه يكفي تجفيف تمويلها، حتى تتعطل برامجها، وتشلّ، وتصبح في حكم المؤسسة المنحلة.

صحيح أن قضية الفساد في وكالة الغوث احتلت من الإعلام والرأي العام أكثر مما تستحق، وبهدف القضاء على مصداقية الوكالة، إلا أن المجتمع الدولي (ما عدا الولايات المتحدة ودول أخرى) وازن بين القضاء على الفساد، أينما كان، وضرورة إدامة عمل الوكالة. وبالتالي خسرت إدارة ترامب الجولة لتذهب إلى جولة ثالثة.

الخطوة الثالثة

المال و«العقوبات» الاقتصادية، هما السلاح الذي تلجأ إليه إدارة ترامب (ومن قبلها الإدارات السابقة) في حروبها العدوانية ضد الدول والشعوب والقوى السياسية المعارضة لسياستها. وقد لجأت إلى هذا السلاح، حيث أعلنت قرارها التوقف عن تمويل وكالة الغوث (كما أعلنت في السياق نفسه عن وقف تمويل السلطة الفلسطينية) علماً أن حصة الولايات المتحدة في تمويل الوكالة تصل أحياناً إلى ما يقارب 50% من ميزانيتها، في وقت كانت واشنطن، قد تعهدت، عند تشكيل الوكالة أن تتولى سد العجز المالي في موازناتها ومدفوعاتها. وكلنا يذكر كيف حاولت الولايات المتحدة وإسرائيل، أن تروجا لاتفاق أوسلو، حين عملتا على إطلاق «برنامج تطبيق السلام»(P.I.P) في المناطق الفلسطينية المحتلة، بموازنة بلغت في حسابات تلك الأيام 350 مليون دولار، في وقت كانت تدعي فيه الجهات المانحة عن سد عجز وكالة الغوث بمبلغ لا يكاد يصل إلى 35 مليون دولار آنذاك.

ما يؤكد أن الولايات المتحدة تنظر على الدوام إلى وكالة الغوث على أنها إدارة في خدمة مشاريعها السياسية، فتدعمها حين يتطلب المشروع السياسي ذلك، وتحجب عنها الدعم والتمويل، حيث تتطلب المصالح الأميركية ـ الإسرائيلية ذلك.

 باعتراف وكالة الغوث، أحدث الموقف الأميركي السلبي هزة في أوساط الوكالة، وانعكس بشكل خطير على برامجها، وما زالت تداعياته مستمرة حتى اللحظة، فقد دخلت الوكالة في أزمة مالية معقدة ومركبة، تصل فيها أحياناً إلى إلغاء بعض برامجها الاجتماعية، أو إلى قرع جرس الإنذار باحتمال وقف دفع رواتب الموظفين، أو حتى في تأخير، وأحياناً، تعطيل العام الدراسي في المدارس التابعة لها.

صحيح أن المساعدات الاستثنائية، بين فترة وأخرى، من الدول العربية، خاصة النفطية منها، (كالسعودية وقطر والكويت) واليابان والاتحاد الأوروبي، (على سبيل المثال لا الحصر) تلعب دوراً في حل العقد المالية للوكالة، إلا أنها لم تضع حلاً جذرياً لأزماتها المالية المتكررة في العام الواحد أكثر من مرة، ما يضع خدماتها على حافة الهاوية بكل ما في ذلك من انعكاسات وتداعيات مدمرة على مجتمع اللاجئين في المخيمات الفلسطينية.

 كورونا..عدو جديد

زاد الأمور تعقيداً، في الأسابيع الأخيرة، انتشار وباء كورونا وقد تسلطت الأضواء على مخيمات اللاجئين كغيرها من المناطق السكنية المكتظة والفقيرة، والمحرومة من الخدمات الضرورية، التي من شأنها أن تعزز مناعتها في مجابهة كورونا. ولنا ان نقرأ تحذيرات المؤسسات الدولية وتوقعاتها الكارثية إذا ما انتشر الوباء في قطاع غزة، على سبيل المثال، أو في مخيمات لبنان. ولعل حادثة اكتشاف حالة في مخيم الجليل في بعلبك (لبنان) دقت جرس الانذار بقوة، استدعت من القيادة الفلسطينية المحلية أن تتفقد المخيم، وأن تجري، إلى جانب سفارة فلسطين، مباحثات مع الجهات المعنية في الدولة اللبنانية لتوفير عناصر الصمود في وجه الوباء، أسوة بما يتم تأمينه لمناطق السكن اللبنانية.

غير أن قضية كورونا أبعد من كونها قضية وباء ومسألة صحية، بل هي قضية ذات اوجه متعددة.

• هي قضية صحية لأنها تهدد بخطر الاصابة والموت، ولنا في ارقام أوروبا مثال مخيف.

• هي اجتماعية لأنها تفرض على المواطنين نمطاً جديداً من الحياة، كالكمامات والقفازات الطبية والنظافة اليومية، وهذا كله يتطلب مصاريف اضافية لأفراد العائلة، خاصة في المناطق التي تفتقر إلى الماء النظيف والصالح للشرب.

• هي اقتصادية لأنها فرضت على المواطنين الحجر المنزلي من جهة ومنع التجول من جهة أخرى، فأصيبت الدورة الاقتصادية لألاف العائلات بالخلل، خاصة الباعة المتجولين، والعمال المياومين، والحرفيين، وغيرهم من أصحاب الدخل اليومي والمحدود في أن.

• هي تربوية، لأنها أدت الى تعطيل المدارس وحرمان الطلبة من الدراسة ما يهدد، في حال اللجوء الى أنظمة الترفيع الآلي، إلى تدني مستوى التعليم.

وفي سياق هذا كله علينا أن ندرك جيداً أننا نخوض معركة ضد كورونا، وخططنا لا تتجاوز الاجراءات الدفاعية الوقائية، لان العلم لم ينجح حتى الأن في اكتشاف عقار او لقاح له، ما يعني أن ازمة كورونا مرشحة لان تدوم طويلاً، البعض يقول عدة أشهر، والبعض الأخر يتوقع حتى نهاية العام الحالي، وآخرون يتوقعون عاماً ونصف. وكلها تراهن على احتمال اكتشاف لقاح لهذا الوباء.

هذا الواقع الجديد، يرسم امامنا صورة قاتمة لمخيمات اللاجئين الذين ارتبكت وتيرة حياتهم، وقد اعتادوا ان تكون وكالة الغوث ملجأهم الاول والرئيسي في النكبات، ما يعني أن الوكالة، والتي تعاني من ازمة تمويل من الأساس، باتت تقف الان امام واجبات ضخمة، تحتاج الى موازنات ضخمة رصدتها لنلاحظ الموازنات التي رصدتها الدول، غنية وفقيرة، لمكافحة الوباء، ودعونا نسأل ما هي الموازنة التي رصدها الوكالة لمكافحة الوباء في المخيمات وكم تبلغ؟

أخيراً وليس أخراً

نقول إن ملف وكالة الغوث بات أكثر تعقيداً من ذي قبل، وتطورات الحالتين السياسية والصحية باتت تطرح علينا سلسلة كبيرة من الأسئلة التي تفترض ممن يتطوع للإجابة عنها، أن يمتلك رؤية متجددة لواقع الوكالة، وللحلول الواجب العمل على توفيرها، لمعالجة هذا الواقع، وبالتالي إخراج الوكالة من عنق الزجاجة.

إياد محمد عبدالحميد مسعود

صحفي فلسطيني من أسرة «الحرية»

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت