- المتوكل طه
***
"الثلاثاء الحمراء" هي قصيدة كتبها الشاعر الفلسطيني الراحل إبراهيم طوقان، في وصف إعدام ملهبي ثورة البراق (1929)، على يد سلطات الانتداب البريطاني، في 17 حزيران 1930: محمد جمجوم، وفؤاد حجازي، وعطا الزير ..
من هنا كان عمق الحدث وفجاعته الدموية القاهرة محفزاً للمبدعين، ودفعهم إلى التأريخ إبداعياً، فكان أن دخلت إلى السجل الشعري التثويري قصيدة "الثلاثاء الحمراء" للشاعر إبراهيم طوقان، ذات العمق الفني والتنويع الموسيقي والبعد التثويري المتوافر بين كلماتها، إذ "إنّ الروائع الأدبية التي يقدرها الناس، والتي تملك القدرة على الاستمرار في التاريخ، إنما هي تلك التي تعكس خصائص فترة من الزمن، وشعب بعينه، دون أن تغفل تراث هذا الشعب، وهي بذلك تساهم بشكلٍ خلاق في إغناء الثقافة الإنسانية بما هو عام ومتميز."([i])
لقد أصبحت قصيدة "الثلاثاء الحمراء" عنوانا وطنياً ونضالياً للشعب الفلسطيني يشير بوضوح ودلالة إلى مرحلة تاريخية ذات أثر مهم في التضحية والمقاومة. لذلك فإنّها تحتل حيّزاً لافتاً من مساحة الشعر الفلسطيني المقاوم ذي القيمة الفنية والنضالية والتاريخية، وهي تشكل محطة إبداعية من محطات التطور الشعري لدى إبراهيم طوقان([ii])، ولأن التركيز على قصيدة بعينها، أو مقاطع معينة، ترجع أهميتها إلى كونها نقطة مركزية في النص الشعري، يخدم البنية الدلالية لكل قصيدة أو البنية الكلية للديوان([iii])، فإن أهمية إفراد حيّز خاص لقصيدة "الثلاثاء الحمراء" ودراستها هنا، تظهر بوضوح.
وإذا كانت القصيدة، بتركيباتها المتوحدة عضوياً والمتباعدة نفسياً، تنتج عن حالة إبداعية-نفسية معينة لدى الشاعر، فإنها تفعل فعلها التأثيري في جمهور المستمعين والقراء، فتحقق غايتها التثويرية إذا ما نبعت من موهبة خصبة وإبداع فيّاض كما هو الحال عند إبراهيم طوقان، حيث ألهبت قصيدة "الثلاثاء الحمراء" جماهير الشعب، وأثارت غضبهم وأحقادهم، فخرجوا في مظاهرة نددت بأعمال سلطات الانتداب واستنكرت الإعدام، وذلك بعدما ألقى إبراهيم طوقان قصيدته في مدرسة النجاح بنابلس.([iv])
وإذا كان للموت قوانينه الخاصة به فإنه، أيضاً، إرادة بشرية تدخل ضمن الإرادة الإلهية. والموت يبدو ضمن دائرة أكبر منه، وهي الزمن نفسه، فالزمن والموت نهائيان ليس بالمعنى الديني، أما التاريخ فهو الوسيط بينهما، فالتاريخ يقع بين الزمن وفواصله، والموت وقوانينه.
لقد أدرك الشاعر إبراهيم طوقان بعمق معنى الزمن ومعنى الموت ومعنى التاريخ في قصيدة "الثلاثاء الحمراء"، كما أدرك الهارموني الكوني الذي ينظم هذه القوى الثلاث. إنّه يشعر بالزمان واللازمان في وقت واحد، على حدّ تعبير ت. س. اليوت، والحس التاريخي هذا واضح جداً لدى إبراهيم طوقان. وفي قصيدة "الثلاثاء الحمراء" التقت قوى الزمن والتاريخ والموت، فانسجم إيقاع هذه القوى الكونية الثلاث مع إيقاع القصيدة، لذلك فإنها تتميز عن غيرها من قصائد ديوان إبراهيم، وتتكون ميزة هذه القصيدة من الشكل والموسيقى (الإيقاع والقافية).
إنّ شكل القصيدة وبناءها الداخلي، ينسجم مع مطلقيّة الموت والزمن داخل بناء فسيفسائي يعتمد التنويع الداخلي، داخل إطار محدد من قافية متكررة تحكم القصيدة كلها. إن حروف الروي في مقدمة القصيدة تُشكل كلمة "سَفَرْ"، أما حروف روي الساعات الثلاث، فتشكل كلمة "هَدَر"، كما تشكل حروف روي الخاتمة كلمة "نَهَرْ" وواضح هنا أن اعتماد هذه الحروف بالذات، دون غيرها، كان متقصداً من قبل الشاعر، لما يعنيه اجتماعها معاً في كلمات من دلالات نفسية وإيحاءات، قصدها الشاعر من هذا التركيب الإبداعي.
وتفصيل ذلك، الآتي:
- مقدمة القصيدة: تبدأ المقدمة ببحر الكامل، وحرف الروي هو "السين"، ثم تنتقل إلى مشطور الكامل، وحرف الروي هو "الفاء"، ثم يعود إلى بحر الكامل، وحرف الروي هو "الراء"، ويظل ينتقل من بحر الكامل إلى مشطوره مع تغيير حرف الروي، إلا أن هناك حرف روي أساسيا يتكرر وهو حرف "الراء".
- الساعات الثلاث: تبدأ الساعة الأولى مستعملة بحر المتقارب وحرف الروي "الهاء"، وتبدأ الساعة الثانية مستعملة البحر نفسه وحرف الروي هو "الدال". أما الساعة الثالثة، فتستعمل البحر نفسه ويتغير فيها حرف الروي فقط، ليكون "الراء".
- الخاتمة: تعود إلى بحر الكامل مع حرف روي هو "النون"، ثم إلى مشطور الكامل، وحرف روي هو "الهاء"، وأخيراً، تعود إلى بحر الكامل، وحرف الروي الأساس وهو "الراء"، وتشكل حركة القصيدة بهذا دائرة مقفلة، لا نهائية، مع وجود تنويعات داخل الدائرة.
والدائرة،وإن كانت دون بداية أو نهاية، فإنها ترمز إلى الكون، والأرض، والنهائية، والقلب، والمرأة، والقمر، الخ.. وهي رمز ديني في أكثر ديانات الشرق، كما أنها رمز سحري، أيضاً. وهي، كذلك، وحدة هندسية قابلة للتقسيم، وإذا تكررت هذه الوحدة، فإنها تمنحنا الشعور بالانعزال.
إنّ تعدد القافية وحرف الروي داخل القصيدة يشبه تماماً الزخرفة الإسلامية التي تعتمد الإبهار البصري ولا نهائية الوحدة الهندسية داخل أطر مغلقة.
وحرف "الراء" الذي يتكرر من البداية إلى النهاية، هو الإطار الذي تجري داخله الأحداث جميعها، وهو الإيقاع الكوني لكلمة "الدهر" أو "العصر"، أو الإيقاع الخفي داخل نفس الشاعر لكلمة "المتكبر" أو "المدبر"، وهما من أسماء الله الحسنى. إذ لا يمكن أمام الموت إلا أن يكون "المطلق" حاضراً ومهيمناً. فلقد وقف الشاعر أمام الموت الفاجع وغير المبرر والقمعي الوحشي، كما وقف أمام التاريخ المزري وحقائقه المخجلة، فلم يجد غير البحث عن مطلقيةٍ تقدم له الجواب الشافي، أو تضع تساؤله ضمن معادلات تستكين النفس إليها. وإذا كان الزمن والتاريخ نهائيين، فإن المطلق يحتويهما ويضعهما في إطارهما الصحيح. والشاعر هنا مدرك لطبيعة حركة الزمن داخل حركة التاريخ، ومدرك لطبيعة حركتهما داخل مطلق آخر، أيضاً، ولهذا فهو يصرخ في آخر بيت من القصيدة بإدراكه هذا بقوله:
"جبروته فوق الذي يغرّهم جبروتهم في برّهم والأبحرِ"
فقد استعمل كلمة "جبروت" وهي من "الجبار" و"المتجبر" وهي تضاف إلى ما سبق ذكره من "المتكبر" و"المدبر". وعلى ذلك فإن حرف "الراء" المتكرر، تعبير عن إحساسه بمطلقه الذي لا يتأثر بكل ما يجري من أحداث، أي أن الشاعر يحتمي بحرف "الراء" وما يمثله من تداعيات أمام الطغيان والظلم؛ ظلم الزمان وعسف التاريخ. وفي هذا الأمر تأكيد على قوة العاطفة الدينية لدى الشاعر الذي كان يعود إلى القرآن الكريم كلما حلت به مصيبة أو كربة، وفي هذه القصيدة جاءت العودة إلى الله الخالق-المتجبر، فنيةً، ذكيةً وغيرَ مباشرة.
إنّ العالم النفسي للقصيدة واضح جداً، فالمطلق يحاصرنا ويؤطرنا ويجعل من الظلم الأرضي مادة للعقاب في السماء، وأن جبروت أهل السماء سيسحق جبروت أهل الأرض، وأن هؤلاء الشهداء "سرقوا" أو "احتلوا" أو "عانقوا" ساعات ثلاث من عمر "التاريخ" ومن "سجل الزمن". وهي وإن كانت ساعات مهمة في عمر الشعب والقضية، إلا أنها تبقى ساعات ثلاث فقط، في حين يتكون التاريخ من أيام وأشهر وسنين. فالساعة الأولى هي "بكر ساعات ثلاث كلها رمز الحمية"، أما الساعة الثانية، فهي "ساعة الموت المشرف" والساعة الثالثة، هي "رمز الثبات".
الصورة الشعرية هنا لا تجديد فيها أبداً، والمعاني التي ساقها، هنا، مكررة ومستهلكة، وربما جاء استنطاق الساعات بجديدٍ هنا، وهو تقليد لشعراء التيار الرومانسي. إلا أن التجديد يتمثل في تغيير القافية، هرباً من تقاليد البيت في القصيدة الكلاسيكية وانفلاتاً من إسار القصيدة المركزية المكثفة، وفي هذا الجانب يعتبر الشاعر مجدداً من ناحيتي الشكل والأسلوب.
لقد استطاع الشاعر التعبير عن المطلق الذي يؤطر حركتي الزمن والتاريخ، والإرادة البشرية، من خلال الصراخ العالي الفني الذي انتقى له كلمات رفيعة داخل إيقاع موسيقي خطابي. فبحر الكامل ذو الموسيقى الصاخبة والنبرة العالية يناسب حديثاً عن حركتي الزمن والتاريخ.
وتقف الحكمة على جانب مهم من القصيدة. فنحن أمام سجل حافل، ولا بد من وقفات تعيننا على فهم هذا السجل، لذلك فإن الشاعر يقف بعد كل "حركة" ليقرر حكمة هامة، أو "ليبكي" أو "ليرثي"، وكأن هذا صوت "الكورس" الإغريقي القديم الذي يرثي البطل أو يقدم للحدث أو يعلق عليه. والشاعر هنا يقف بعد كل مقولة من مقولات الأيام ليبكي.
وعندما تحدث الشاعر عن "الساعات" واجه الحركة بأشد توتر لها، فانتقلت الساعات من كونها "زماناً" عادياً إلى "زمان" غير عادي، ولجأ إلى بحر الحركة والتوتر والكثافة، فالبحر المتقارب يناسب التوتر والحضور والسخونة.
ولكن، لماذا تكلم الشاعر على لسان "الساعات" وليس على لسان "الإنسان"؟
لقد نظر إلى الزمان، بمجمله، نظرة شمولية داخل المطلق الذي يؤمن به، ولهذا فقد رأى أن الساعات الثلاث جزء صغير من هذا الزمن الممتد المضطرب المحكوم بقوانين الموت.
"والموت في أخذ الكلام وردّه فخذ الحياة عن الطريق الأقصرِ"
وإذا كانت النظرة الشمولية هذه ليست مبتكرة، فإن الشاعر قد وقف أمام الشهادة (التي تعني الموت في النهاية) ووضعها في إطار من القضية الوطنية جعله يستحضر التاريخ والمطلق ليفسر هذه الحدة وعدم المعقولية، فجاءت القصيدة ذات بناء خاص، وموسيقى خاصة، لتصبح معادلاً موضوعياً أو بناءً هندسياً ذا قوانين خاصة تناسب رؤيته لحركتي الزمان والتاريخ والإرادة البشرية المؤطرة، دائماً وأبداً، بالمطلق الإلهي.
الشكل الفني:
بعد الدخول إلى مناخ الثلاثاء الحمراء النفسي، والبحث عن الدافعية الإيمانية (المطلق القادر) فيها، أعود إلى الشكل الفني الذي اختار له الشاعر حروفاً بعينها ليبني من خلالها ما أراد.
تتكون القصيدة (المقدمة) من ثمانية مقاطع، لكل مقطع منها بنية واحدة تمثلها المعادلة (س س س س/ ص ص ص ص/ ر) وبالتالي، فإنها تشكل ثماني وحدات مربوطة معاً، بعنصرين: الأول-البنية المشتركة (المعادلة)، والثاني-الراء التي تشكل دقة تقع في نهاية كل معادلة. وداخل هذه المعادلة تحدث متغيرات، حيث أن (س) و (ص) قابلة لقيم مختلفة تظهر هنا في شكل أحرف مختلفة. وهذه القيم المختلفة يتكون كل منها من مقطعين آخرين تجمع كل واحد منهما قيمة واحدة. المقطع الأول من بيتين على البحر الكامل، والمقطع الثاني من بيت على البحر نفسه.
س س س س (لما تعرض نجمك المنحوس/ وترنحت بعرى الجبال رؤوس/ ناح الأذان وأعول الناقوس، فالليل أكدر والنهار عبوس)- المقطع الأول.
ص ص ص ص (طفقت تثور عواصف/ وعواطف/ والموت حيناً طائف/ أو خاطف) المقطع الثاني.
وبالتالي فإن كل مقطع يتكون من ثلاث وحدات يساوي س ص ر.
س: عبارة عن أربعة أحرف تساوي قافية واحدة. إذن يوجد في القصيدة ثماني قيم لـِ (س).
ص: لها، أيضاً، ثماني قيم بالطريقة نفسها، بينما لها قيمة واحدة فقط، لأن الحرف هو نفسه.
المقطعان س، ص معاً يشكلان 16 قيمة، أي ستة عشر متغيراً، مما يسمح بإعطاء ديناميكية مكونة من س، ص كوحدة واحدة مضموناً. ولكن كيف تكون العلاقة بين الشكل والمحتوى؟ وكيف تظهر حركة المضمون في وحدة وصراع الشكل والمحتوى الذي يقود إلى التطور الدرامي؟
إن س، ص مختلفان، ولكن هذا الاختلاف يتكرر في طول القصيدة (أي المقاطع الثمانية) بحيث يتكون ثمانية اختلافات، ولكن في الوقت نفسه، هناك ثمانية تشابهات. في داخل كل مقطع يوجد اختلافان وثمانية تشابهات. ولو قارنا هذه الديناميكية (أي وحدة الاختلاف والتشابه) لفوجئنا، بالدرجة الأولى، بثبات الراء، بمعنى آخر، بالصراع داخل س، ص عبر تناقضهما وعبر تشابههما، وفي صراعهما معاً مع الراء، بحيث يبدو، كنتيجة، أن الصراع ينتهي باستمرار بنهاية واحدة هي الراء، وهذه النهاية في أول أربعة مقاطع تُختتم باستمرار بمأساة، مما ينتج في النهاية إحساسا بثورة تنتهي باستمرار بالنتيجة نفسها، التي هي مأساة أو موت.
أما المقاطع المتبقية، فهي أربع نصائح أو حكم، ما ينتج مرة أخرى صراعاً مكثفا بين أول أربعة (راء) وآخر أربعة، حيث أن آخر أربعة (راء) هي عبرة مكثفة من التجربة تستهدف تغيير النتيجة في القسم الأول.
إنّ البنية الداخلية الفيزيائية للمقاطع بنية متحركة تماما بما يسمح بتحرك المحتوى، أي بما يسمح بالتعبير عن تنامي الصراع نفسه ممثلاً بأول أربعة (راء) تنتهي بالمعادلة نفسها، بينما فيها أربع تجارب تاريخية، الأولى "الثلاثاء الحمراء"، والثانية محاكم التفتيش، والثالثة العبودية الرأسمالية، والرابعة جمال باشا السفاح، وتنتهي باستمرار بالمأساة نفسها، ما يعني أن الراء هي تكرار لنتيجة المحتوى، وليست مجرد تكرار لحرف. وعلى ذلك، فإنه بمقدار ما لا تسمح به هذه البنية بعرض الصراع، أي بعرض المحتوى، بمقدار ما يكون هنالك انفصال بين الشكل والمحتوى الفنييّن.
الموسيقى:
بما أن الموسيقى ترتيب معين للأصوات، فإنّ الموسيقى الفيزيائية - التي تسمى أحيانا بالجرس- هي ترتيب معين للأصوات داخل القصيدة. وبما أن الكلمات تتكون من أصوات، فإنها تحمل في داخلها ترتيباً معيناً، والموسيقى الفنية ليست في انعدام الترتيب، لأن الموسيقى السيئة جداً هي، أيضاً، ترتيب، بل في الشكل العيني الملموس لهذا الترتيب ومدى نجاحه، أولا: كموسيقى، بصرف النظر عن المعايير التي تحدد ذلك. وثانياً: كموسيقى تخدم المحتوى، أي أنها موسيقى المحتوى، أو المحتوى الذي صار موسيقى، والموسيقى التي صارت محتوى.
وفي الحالة الأخيرة فقط، بإمكاننا أن نتكلم عن الموسيقى الشعرية، أي عن وحدة الموسيقى، كشكل في المضمون.
إنّ تكرار الأحرف، والواقع الناتج عن هذا التكرار، هو أول مقدمة أو جزء من الموسيقى الكلية، فمثلاً: س هي (كموسيقى وليست كقافية) عبارة عن أربعة أصوات ذات متغير واحد تختتم أربعة مقاطع موسيقية.
والأمر نفسه بالنسبة لـ (ص) و (راء). وكل معادلة هي تكرار للمعادلة الأخرى، ما ينتج، أيضاً، وقعاً معيناً متشابها هو، في نهاية الأمر، تعبير عن وقع المضمون، أي وحدة الحديث.
ومن ناحية أخرى، فإن هذه الأحرف التي تشكل الأصوات محكومة بوقعٍ أساسيٍ آخر هو ترتيب الأصوات الثابتة والمتحركة بنظام معين، يظهر في النهاية كتفعيلة. ووحدة التفعيلات تشكل س، ص، ر. وهذه اكثر بعداً واختفاءً من وقع الأصوات المباشرة ككل (عدد الأحرف العربية وأصواتها) ووحدة التفعيلة تظهر في البيت. والواقع أن المقطع جميعه، مقسم إلى الفقرات التالية:
أولا: س بيتان على البحر الكامل.
ثانيا: ص بيتان على البحر الكامل.
وهي تكوّن نصف المقطع، وعلى ذلك فإن نصف الصراع يجري في س.
والمسألة الأكثر دقة هي ص، إذ أنها مقسمة إلى أربعة ص، أي بحجم س، بالرغم من أنها تشكل نصف س، مما يعني حركية موسيقية تضاهي من الناحية الدرامية قوة س مضاعفة ما يسمح رياضياً بالقول: إن ص تربيع يساوي س، مما يظهر كثافة الصراع في ص.
وبعد ذلك مباشرة يأتي الربع الأخير الذي هو في الواقع ثُمن س من ناحية القافية، ولكنه يساوي الربع من ناحية بطء الوقع، ما يعني أننا نصل القمة الدرامية في ص ونهبط (الخاتمة) في راء.
من هنا، يكتسب تحليل ص أهميةً، لأنه تحليل للقمة الدرامية، فمن ناحية الوقع يساوي سرعة القافية، وبالتالي الموسيقى، لأن التفعيلة تقسم على أساس القافية. مثلاً: في ص نرى الفصل بين بيت واحد (ست تفعيلات) يصل إلى أربع وحدات: تفعيلتان وحدهما تشكلان وحدتين، والبقية وحدتين، ما يزيد، أيضاً، من سرعة الوقع الموسيقي. بهذا الفهم نرى أن سرعة الوقع تصل القمة في ص، وترجع إلى حركة بطيئة جدا في راء.
ولفهم علاقة هذه السرعة بالمحتوى، أشير إلى التناقض الداخلي الأساسي بينهما: ص في المقطع الأول هي:
طفقت تثور عواصف وعواطف
والموت حيناً طائف أو خاطف
وبالتالي، فجوهرهما هو الموت والغليان، ما يجعل المحتوى يتصاعد مع سرعة الوقع، بحيث نستطيع القول: إن سرعة الموسيقى هي تعبير، أو شكل آخر، عن سرعة الموت والغليان أو الثورة العاطفية، ما يجعل الشحنة العاطفية تسير باتجاهٍ دراميٍ واحدٍ، بينما العكس تماماً يحدث في ص6 وهو:
حمل البريد مفصلاً ما أجملا
هلا اكتفيت توسلاً وتسولا
حيث تبدو السخرية في التساؤل، كما يظهر ذلك مثلاً في التسوّل والتوسل، ما يجعل الوقع الموسيقي يزيد من حدة السخرية في الحقيقة، وليس في المأساة، وبهذا تتضح الصلة الداخلية بين الموسيقى والمحتوى.
التجديد والتقليد:
تطرح البنية الفيزيائية للمقدمة من الناحية الفنية سؤالاً حول الإبداع: ما هو التقليد وما هو التجديد في هذه البنية؟
في س يوجد بحر كامل بصدر وعجز ينتهي بـ (س)، وهذه بنية ليست جديدة في تاريخ الأدب العربي الكلاسيكي، والأمر نفسه يقال بالنسبة لتركيبة ص، ر. ولكن التجديد يكمن في ترتيب المعادلة بهذا الشكل وتكرارها ثماني مرات، رغم أن هذا التكرار في بنية فيزيائية محددة، بحد ذاته ليس جديدا، أيضاً، فالجديد إذن هو تكرار البنية الجديدة على وجه التحديد، مما يعني أن البنية الفيزيائية للشكل الفني تشكل طفرة بالنسبة لأشعار طوقان ككل.
الصورة الشعرية:
تدخل الصورة الشعرية ضمن البنية الفيزيائية للشكل الفني باعتباره نقل المحتوى المجرد إلى مستوى المحسوسات، تماماً كما أن قوانين الرياضيات التي تتحكم في دار معينة، تترجم نفسها في نهاية المطاف كصورة معينة للدار.
من الملاحظ أن "الثلاثاء الحمراء" قصيدة ذهنية، بحيث أن أقوى صورة ملموسة فيها هي المقطع الأول، وإن كانت تفتقر إلى حد كبير للّون، بحيث يمكن القول.. إنها صورة بالأبيض والأسود فقط. ولكنها تستعمل الصوت بشكل محسوس، وتحديداً في قوله:
"ناح الأذان وأعول الناقوس"
وهي مستمدة من الأحداث الفعلية([v])، لذلك فإن استعمال الصوت واللون والصورة بهذه الندرة، يلقي بالعبء الأساسي، في التعبير عن المضمون، على البنية الفيزيائية للقصيدة.
في المقطع الأول يبرز الصوت واللون كمكونين مركزيين للصورة الشعرية، أما في المقطع الثاني فإنه يلجأ إلى الصوت والتشخيص، أي تحويل الزمن إلى شخص بإعطائه صفات الإنسان، ولكنه لا يوضح معالم هذا الإنسان، ما يجعل الصورة باهتة غير محددة. في حين يشخّص محمود درويش التاريخ تشخيصاً واضحا، بقوله:
"أرى التاريخ في هيئة شخص يلعب النرد ويمتص النجوم"([vi])
حيث نرى لعبة النرد واليدين والشيخوخة وحركة الفم والنجوم في داخله.
ويبقى الصوت هو الأداة المركزية في شكل حوار بين تشخيصّين ليومين تاريخيين بانعدام الوضوح نفسه. وما يقال عن المقطع الثاني، يصدق على المقطع الثالث مع اختلافات قليلة، لا تسمح بالإحساس بصعودٍ أو هبوطٍ في الصورة. أي أن عدم استعمال هذا الجزء الأساس من البنية الفنية (الصورة) يجعل القصيدة (المقدمة) مقدمةً ذهنيةً. والفكر المجرد، إلى حدٍ معين، هو ما يشكل جوهر الأسلوب الفني في جانبه الشكلي.
الأسلوب الفني:
ليس المقصود بالأسلوب الفني الحرفيات التكنيكية، بل العقائدية التي تحكم العمل الفني ككل. وبهذا الفهم تكون الحرفيات التكنيكية، بما فيها الجزء الفيزيائي من الشكل الفني، محكومة بالأسلوب، والأسلوب بالعقائدية، ما يوصلنا في النتيجة إلى المضمون، وخلال ذلك سوف نرى البنية الاجتماعية للشكل الفني.
تبرز العقائدية بأصفى أشكالها عند إبراهيم طوقان في النبوءة التاريخية التي يتميز بها شعره/ الموقف العدائي الجذري من بريطانيا واليهود والأنظمة العربية والطبقة الحاكمة. ويؤخذ على الشاعر هنا بروز انكسار حاد في زاوية الرؤيا أحياناً، في شعره بشكل عام، فتارة نجد المدائح لذات الفئات الإقطاعية والأنظمة العربية إلى جانب الموقف العدائي الجذري منها([vii])، ويمتد هذا الحكم إلى قصائد الرثاء عنده، أيضاً.
وإذا ما قارنا طوقان بعبد الرحيم محمود، فإننا نجد أن الانكسار نفسه موجود في الرؤيا، فمن النبوءة والموقف مع الطبقة العاملة إلى قوله "نجم السعود".. حيث نجد في القصيدة ذاتها التناقض أو الانكسار، ما يسمح بالاستنتاج أن هذا الانكسار كان يشكل في الحقيقة الحدود التاريخية للرؤيا عند الأغلبية الساحقة من الشعب الفلسطيني. لكن إبراهيم طوقان يبصر إلى مسافة أبعد من عبد الرحيم محمود، وذلك يعود إلى تميز إبراهيم ثقافيا وفنياً.
إنّ الرؤيا، أو العقائدية، التي تحكم "الثلاثاء الحمراء" هي العقائدية نفسها التي تحكم البقية من قصائده، ولكن كون عملية الإعدام وارتباطها بالثورة ككل ترتبط بهذا الجانب غير المنكسر من رؤياه، فإنّ ذلك يعطيها صلابة عقائدية مميزة.
من هذا الاستنتاج، ليس عبثا أن الشكل الفني يتميز بالتجديد، جنباً إلى جنب مع التقليد، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار كون هذه القصيدة تشكل طفرة في شعر إبراهيم طوقان، فإنّ الجانب التقليدي في رؤياه يظهر في تقليدية كبيرة في الأسلوب، وبالمقابل فإن حدة الرؤيا والنبوءة، والجانب الساخر من شعره واستعماله للسخرية الشعبية، تمثل الجانب الأكثر إضاءة في عقائديته. من هنا تنشق الوحدة بين الأسلوب والمضمون وتتباعد. أي أنه إذا كانت لدي مثل هذه القدرة على التنبؤ، فإن صياغتها والتعبير عنها لا يمكن إلا أن يأتي بأسلوب جديد، إلا إذا كان هنالك شرخ في عقائديته ككل، أي أن التناقض في عقائديته يظهر في التناقض في الرؤيا، وبالتالي في الأسلوب.
وفي معظم قصائده، عامة، يبرز الأسلوب المحافظ، بينما هنا في "الثلاثاء الحمراء" تبرز الرؤيا جنباً إلى جنب مع التجديد، والسؤال هو: ما سرّ الإبداع في هذه القصيدة بالذات؟
إذا تأملنا التجديد عنده ككل، فإنه يبرز أساساً في شكل تجديد في الموضوع، من قصيدة "بيض الحمائم" إلى "الثلاثاء الحمراء" أو "الفدائي" أو "الشهيد" أو "الحبشي الذبيح".. وهذا يتطلب فهم العقائدية بشكل أعمق من مجرد العقائدية السياسية على وجه التحديد، حيث يبرز مثلاً تجديده في المواضيع وكأنه دليل على عقائديةٍ، ليست بالضرورة سياسية في جوهرها لقصيدتي بيض الحمائم، والحبشي الذبيح. من هنا يمكن تقسيم أشعاره جميعها من ناحية العقائدية فيها إلى:
أولاً: العقائدية الدينية.
ثانياً: العقائدية السياسية.
ثالثاً: العقائدية التي تمتد جذورها إلى الجنس، بالمعنى الفرويدي للكلمة.([viii])
ولدى محاولة الدارس ربط هذه (العقائديات) في وحدة واحدة، فإنّه يصطدم بالتناقض بين العقائدية الدينية والعقائدية الجنسية، ما يعني أن عمق التناقض في عقائديته السياسية لا ينفصل عن التناقض بين العقائدية الدينية والجنسية، الأمر الذي يحيط المسألة بنوع من التعقيد والتركيب، ويظهرها على أنها ليست مجرد عجز في الرؤيا، وذلك يسمح بتقديم الفرضية التالية:
إنّ الترابط بين الغريزة الجنسية والأخلاق، ليس بحاجة إلى برهان من منطلق التحليل النفسي ولكن، أيضاً، لا يمكن الفصل بين الأخلاق الدينية والموقف الأخلاقي من الجنس.
ونجد في أشعار لم تنشر لإبراهيم طوقان، هوسا جنسياً، مما يعني أن موقفه من الجنس، أخلاقياً، موقفٌ مزدوج؛ فهو من جهة يتكلم بحب وجمالية ورمزية في بيض الحمائم والمكتبة، وبفضائحية كاملة في أشعار أخرى.. وما أريد تأكيده، هنا، هو أن الكبت الجنسي موجود جنباً إلى جنب مع الإباحية، والمحافظة السياسية موجودة إلى جانب المعارضة السياسية. ويبدو أن تغيراً معينا فجائياً (لا واعياً، كما يعبر فرويد) قد أنتج طفرة فنية في لحظة من لحظات الثورة الخاطفة.
في بنية "الثلاثاء الحمراء"، من ناحية الأسلوب، نجد لبرهنة الفرضية السابقة، التناقض التالي:
في المقدمة يوجد تجديد، ولكن في الساعات الثلاث يوجد ارتداد من ناحية الشكل الفني الفيزيائي إلى النمط الكلاسيكي، ونجد، أيضاً، في المقدمة (كمقدمة ذهنية) مستوى فكرياً رفيعاً وجديداً؛ فمن محاكم التفتيش إلى نقل العبيد من أفريقيا إلى جمال باشا السفاح إلى المندوب السامي.. إلى تكتيل الممارسة ونقده لها.. يرتد إلى عاطفية مكررة بحيث أنه، من ناحية المحتوى، يوجد هبوط كامل تقريباً في المستوى الذهني، وتكرار لمحتوى الساعات الثلاث نفسه، حيث أنها من ناحية المستوى الذهني والعاطفة عبارة عن تكرار.
من هنا أرى أن المقدمة وحدها شهدت الطفرة، وليس القصيدة ككل، وبالإضافة إلى ذلك يبدو التكرار للمقاطع في المقدمة وكأنه قد عثر على قالب لم يرد الخروج عنه، أو لم يجسر على ذلك، حيث يمكن القول: إنّ الطفرة الإبداعية تتجسم أساساً في المقطع الأول، ويدعم هذا القول، كون الصورة الوحيدة الواضحة هي في المقطع الأول.
إنّ هناك ثورة عاطفية لا واعية برزت في المقطع الأول، ولم يستطع الشاعر المحافظة عليها إلا بالرجوع إلى التجريد الذهني، أي قتل هذه الثورة وتطوير ذهنية القصيدة. فمن الناحية الفنية أخرج هذا الأمر مقدمة متماسكة، ولكن من ناحية التجديد بدا على أنه نتاج لطفرة أولية.
ولكن، ما طبيعة هذه الطفرة بالتحديد؟
منذ المقطع الأول في (س) نجد صورة النجم وترنح الرؤوس في الحبال، كما نجد فوق ذلك صورة حادة تماماً للموت والقبر، مقابل رجوع إلى التاريخ ومحاكم التفتيش في المقطع الثاني. وأول ما يلفت الانتباه، هو الابتعاد الكامل في طبيعة الدافع (الموت) والتخيل الناتج عنه (محاكم التفتيش). وقد يكون التفسير الأسهل للاختلاف في المقطعين هو التداعي، إذ الشيء بالشيء يذكر. ولكن لو تتبعنا المقاطع الباقية لوجدنا أن هذا التداعي يتحول إلى تثبت عند المقارنة التاريخية، ما يوحي بأن هذا الذهن فقط هو الذي أخذ يقود الآن العملية الإبداعية، في حين أن الموت والإعدام والأجراس هي التي قادت الإبداع في المقطع الأول، وفيما بعد، باتجاه النهاية، يرجع للسخرية والحكمة أو النصيحة التي تدل على شيئين: الأول - أنه قد بدأ في خياله، ينشطر إلى شخصيتين: شخصية تنظر إلى الشعب، وشخصية تنصحه، والثاني- أنه رجع تماما إلى ذاته الساخرة السابقة.. وهذا الانتقال من حالة ذهنية فيها الإحساس الحاد بالموت، إلى حالة فيها التاريخ والشعب والمعلم والساخر- تحمل في داخلها نقلة جوهرية في الوعي. بهذا أستطيع القول: إن هذه النقلة هي التي لم تسمح له بخلق شكل فني جديد للمقاطع الأخرى.
بين الوطني والسياسي:
تضع قصيدة "الثلاثاء الحمراء" الدارس أمام مصطلحي "الشعر السياسي" و"الشعر الوطني" في طريقة لتأطيرها داخل هذين المصطلحين اللذين شاعا في أوساط الدارسين لشعر فترة العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين. وعلى ما يبدو، فإنّ السياسة تختلف عن الوطنية لارتباط الأولى بالأشخاص والأحداث، في حين ترتبط الوطنية بالوطن نفسه الذي هو أشمل وأوسع وأبقى. لذلك أستطيع أن أقرر أن الشاعر إبراهيم طوقان كتب الشعر الوطني، أكثر مما كتب الشعر السياسي إذ "لا خلاف في أن الشعر الوطني غير الشعر السياسي، فبين اللونين فروق وتفاوت، إذ ليس كل سياسي بوطني، ولا جاز الضد، وإنما قد يكون المرء آخذاً منهما أو منفردا بأحدهما"([ix]).
وإذا كان الشعر الوطني هو شعر سياسي في الوقت نفسه، فإنّ الشعر السياسي ليس وطنيا في معنى من المعاني، بعدما ارتبطت السياسة بالحرفة والمنفعة الخاصة والظهور بمظهر الوجاهة والنفوذ. إنّ الصدق الفني أساس تقييم الشعر الوطني السياسي، وإبراهيم طوقان في وطنياته صادق وطني، لا سياسي مدُّعٍ.
لقد أدرك الشاعر بحسه الصادق وبُعد نظره أهمية النشيد والقصيد في تربية الأجيال والتأثير فيها، "فكان، كلما هزته حادثة وطنية، وضع لها أنشودة حماسية ليتردد صداها في دنيا العرب."([x]) وبقدر ما حارب سماسرة الأراضي والمستعمرين والمتاجرين بالقضية، كان شعره مليئاً بالنقمة والمرارة والتهكم على محترفي السياسة ومدعي الوطنية([xi]).
ويجد الباحث والمؤرخ لقضية فلسطين في شعر إبراهيم طوقان جوانب خفية من الحركة الوطنية الفلسطينية، كما يعثر على وثائق تؤكد دراسته من خلال إشارات دالة في قصائده([xii])، وعندما كان الشاعر يلقي قصائده أو يكتبها، لم يكن يهمه أن يتملق الجمهور، أو أن يرضيه على حساب القضية ليكسب شهرة أو مجدا، بقدر ما كان مدفوعاً بإيصال رسالة واضحة ومحددة نابعة من شعور وطني صادق وألم حقيقي لما يجري من أحداث في ساحة الحياة والبلاد. وتوفر قصيدة "الثلاثاء الحمراء" مثالا واضحاً على شاعرية الشاعر التي تفجرت بفعل شعوره الوطني المعهود.
عنوان القصيدة:
لعل عنوان القصيدة (الثلاثاء الحمراء) يغطي، بدايةً، الحدث ويؤرخه ويصفه. والعنوان في حد ذاته أصبح عنوانا لأحداث البراق، فما أن تذكر الثلاثاء الحمراء حتى تحضر في الذاكرة والنفوس أجواء الثورة وإعدام الأبطال وسجن عكا، ويعود ذلك لسببين: أولهما أن القصيدة تناقلتها الأجيال عبر دراستها من خلال المنهاج المدرسي الإلزامي، وثانيهما أن زجلية عوض النابلسي التي مطلعها (يا ليل خلّي الأسير تا يكمل نواحو)([xiii])، والتي تغنيها فرقة العاشقين الفلسطينية وتستعرض في بداية غنائها قصة استشهاد الأبطال جمجوم وحجازي والزير، ساهمت في تكريس "الثلاثاء الحمراء" كعنوان مضيء كبير، كما عملت على تعميقها، وجعلها لافتة معروفة مثلما أثبتتها كملمح من ملامحنا الوطنية النضالية.
وعنوان القصيدة يعترف باللون كلغة، إذ أن اللون، في حدّ ذاته، لغة قادرة على حمل المدلولات الكافية لإيصال المعنى، فالأخضر يعني الخصب والزرع، والأحمر الدم والعنف. بمعنى أن إبراهيم طوقان من الذين أسسوا لتوظيف اللون كلغة، حتى أصبح الشعراء، يحمّلون اللون معاني ودلالات خاصة بهم، أو مقاربة لما أمست تعنيه في أذهان القراء والمستمعين، مثل "إلى الجحيم أيها الليلك"، أو "زرقة الأحزان" أو "ليل البنفسج"،أو "حليب أسود"، أو غير ذلك.
وعنوان القصيدة أسس، كذلك، لبداية واسعة تفسح المجال لربط أحداث ما بالأيام التي وقعت فيها كالسبت الأحمر، والأحد الأسود، أو حتى بالأشهر كأيلول الأسود وما إلى ذلك. ولعل تراثنا العربي استخدم اللون للدلالة على معانٍ محددة كقولهم (ضحكة صفراء) كما ربطوا الأحداث بالأيام والسنين كقولهم (سنة الثلجة) أو (المجاعة) أو (الطاعون)، ولكن تتجلى قدرة طوقان في التقاط هذه الذرات والمفاهيم من تراثنا، وتوظيفها لتصبح قادرة على تكثيف الأحداث كلها، وتركيزها بكلمتين خالصتين من شوائب الاستهلاك اليومي، ونقلهما من مستوى العادي المتكرر إلى مستوى الجدّة والعذرية([xiv]).
تأثير القصيدة:
حازت "الثلاثاء الحمراء" على شهرة كبيرة وضعتها في مصاف ما أنتجه كبار المبدعين في وقتها، وما زالت قيمتها الفنية والتاريخية مستمرة إلى أيامنا هذه، حتى أنها أصبحت أحد عناوين النضال والتحدي للاستعمار والاحتلال في العالم العربي، وهي تؤرخ، في الوقت ذاته، لثورة البراق التاريخية في السجل الفلسطيني المقاوم، وتلمح إلى نهج الفداء الذي يختطه الثائر الفلسطيني.
لقد فعلت القصيدة فعلها في تثوير الجماهير الفلسطينية وترسيخ وعيها وتأطيره بما احتوته من صدق في التعبير، وسعي فني للتنوير، واستمرار الغضب الثوري، وبثّ الحماس في النفوس. وفي هذا كلّه يتجلى الدور الاجتماعي للفن والقيمة الجمالية والادراكية والتربوية والتوصيلية، إذ "تتطلب معرفة جوهر الفن، أول ما تتطلب، دراسة صلاته بالواقع وبالوعي الاجتماعي والفردي لدى البشر، وتأثير المجتمع في الفن الذي يتم عبر الفنان، وكذلك تأثير الفن في المجتمع الذي يتم من خلال إنجاز الفن لوظيفته. وعبر هذه العملية الأخيرة يتجلى الدور الاجتماعي للفن"([xv]). إنّ استيعاب علم الجمال يعين البشر على أن يعملوا بوعي على تغيير الطبيعة والمجتمع وفق قوانين الجمال، ويوجّه جهودهم صوب خلق قيم جمالية جديدة".([xvi])
بهذا الفهم أراد إبراهيم طوقان أن تكون "الثلاثاء الحمراء"، أما القصيدة والواقعية الفعلية، منارة تغيير في المجتمع وللمجتمع. وقد حقق ما أراد من ناحية تحريك الفعل التثويري الغاضب في القارئ والمستمع. والشاعر هنا أراد أن يستحث الإنسان من خلال تصوير بشاعة الظالم، وأبقى على التفاؤل وحارب اليأس مقتدياً بنهج الواقعية التي تهدف "إلى تغليب عامل الخير والثقة بالإنسان وقدرته، وهي وإن كانت تتخذ مضمونها من حياة عامة الشعب ومشاكله، إلا أن روحها متفائلة، تؤمن بإيجابية الإنسان وقدرته على أن يصنع الخير، وأن يضحي في سبيله بكل شيء، في غير يأس ولا تشاؤم ولا مرارة مسرفة."([xvii]). وبناء على هذا، فإن "الثلاثاء الحمراء"، الأنموذج التاريخي والفني، جسّدت العمل الشعري المبدع من خلال صفاتها وأثرها في الناس "فالعمل الشعري الجيد المبدع، هو الحلم، وهو رؤية المستقبل في تماس مع الحياة، تتجاوز الماضي والحاضر لمهمة إنسانية"([xviii]).
وعندما كان إبراهيم طوقان يلقي قصائده الوطنية، و"الثلاثاء الحمراء" بالتحديد، كان يحدث أثراً تثويرياً وتغييرياً في جمهور مستمعيه، "إن التأثير المتبادل بين الأديب وجمهوره قادر على تغيير الأديب وجمهوره معاً، إذ يبعث في الأديب حياة وينشر بين الجمهور وجداناً ومناخاً يمكّن من الوصول إلى منابع التغيير الأول.([xix])
لقد كان إبراهيم طوقان أديباً حقيقياً صادقاً يتلمس القضايا الملتهبة ويثبتها في ديوانه الشعري، بصياغة فنية متمردة، "إن الأديب الحقيقي هو الذي يشعر بمسؤولية تجاه أحداث زمانه، في وطنه، وفي العالم، إذ أن هذين المفهومين مترابطان لا غنى للواحد منهما عن الآخر، وقديماً قال أرسطو:: "إني أثيني، ولكن وطني هو العالم"([xx]).
إنّ ثقافة الشاعر وعمق إحساسه وانتمائه الوطني قد صاغت تفجره الشعري بقالب مغاير لم يرمّز فيه، ولم يكن غامضاً، بل صادقاً واضحاً استحضر العذابات الإنسانية وجمعها في بوتقة واحدة وأبقاها في النهاية عاجزة عن تجاوز الكلمات ودلالاتها، وصعّد من حدة تأثيرها من خلال ربط الظلم في عدة مواقع، معاً. "إن الرمزية في الأدب يقابلها الاستعمار في السياسة، والتصالح الطبقي في المجتمع. ولهذا فإن كل رمزية ضبابية في العالم الثالث (الذي ينبغي أن تتفجر فيه التناحرات على أشدها) مدانة سلفاً، ومحكوم عليها بأنها تفرغ الأدب من فعاليته التثويرية."([xxi]). وهي تبعد الأدب عن كونه أداة مقاومة، واحتجاجاً وتوعيةً، لتحيله إلى ألفاظ غامضة بعيدة عن ذوق القارئ أو المستمع، وغير مؤثرة في وجدانه وأحاسيسه، وتحوّل الشعر من فن للعامة إلى شعر للنخبة. والشعر العربي في العقود الأولى من القرن العشرين لم يعرف مثل هذا الغموض ولا هذا التبعثر، مع أن تلك المرحلة كانت مرحلة انتقال وتحول([xxii]).
وعليه، فإن "الثلاثاء الحمراء" قصيدة تمارس تأثيرها في شتى العصور، لأنها من الآثار الفنية الأصيلة الباقية([xxiii])، والتي تخطت وقتها لتمارس في الأجيال اللاحقة وتسم المراحل اللاحقة بميسمها الثوري العالي المجيد.
روافد القصيدة:
يقول الشاعر مُريد البرغوثي:"إن العمل الفني عموماً هو تلك القدرة على تحويل الواقع إلى فن"([xxiv])، الواقع خليط من المعطيات والإحداثيات والإرث وتراكماته ومتعلقاته. وقصيدة "الثلاثاء الحمراء" كعملية إبداعية استمدت خصائصها مما يتمتع به المبدع من استعدادات([xxv])، واستعدادات إبراهيم طوقان ومكوناته الثقافية عالية غنية، وذلك يظهر جلياً من خلال توظيفه لعدد من المقولات الشعبية والثقافية والدينية، الأمر الذي جعل القصيدة توفر ميداناً نموذجياً لإبداع طوقان، تمكّن الدارس من أن يضع يده على الأبعاد التي تشابكت واندمجت في شخصية الشاعر التي أفرزت هذه القصيدة.
وفي القصيدة، ثمة أبعاد متنوعة اندمجت معاً، أستطيع تصنيفها على النحو التالي، ضمن الإطار العام الذي طغى على "الثلاثاء الحمراء":
- الأبعاد التاريخية:وتمثلت من خلال الإشارة الصريحة إلى: محاكم التفتيش، بيع العبيد، مذابح عاليه وجمال باشا السفاح. هذه الأبعاد هي أحداث تاريخية حقيقية تشكل معادلاً موضوعياً لشنق الأبطال، وتصوّر القمع والذبح والقتل على مدار التاريخ.
- الأبعاد الدينية: وتمثلت من خلال الإشارة الواضحة إلى : يوم المحشر، الجنّة، الملك القدير، الآذان، الناقوس، الشهيد، الإله، والعفو والغفران. وهذه الأبعاد نجدها نصاً في القرآن الكريم ضمن سياق آياته البيّنات.
- الأبعاد الشعبية: والمستمدة من الحياة اليومية، وهي من المميزات التي تفرّد بها شاعرنا عامة، وتمثلت هذه الأبعاد من خلال ذكره لموتيفات يومية منها: عاشت جلالته، وعاش سموّه، أنا ساعة القلب الكبير، الفضل لي بالأسبقية، صغارك الأشبال تبكي الليث، وأتى الرجاء، قلوبهم فتقطعا، صمّ الصخور، الموت في أخذ الكلام ورده. ولعل مصدر هذه الموتيفات، نجده في أحاديثنا اليومية العادية للتدليل بها.. أو للتوضيح أو للاختصار والتكثيف، وأعتقد أن هذه الأبعاد قد جاءت ضمن إطار عام للقصيدة ليخدم السخرية والحكمة الباديتين في "الثلاثاء الحمراء". وتوظيف التراث والتاريخ والموروث الشعبي، عدا عن أنه يغني القصيدة، فإنه كذلك، يبرز قدرة الشاعر على ضخّ هذا الموروث في جسد القصيدة دون أن يظهر، وكأن هذا الموروث أو الموتيفات قد أقحمت في القصيدة، أو تظهر وكأن القصيدة مرصعة بهذه الأبعاد عمداً وبقصدٍ مقصود حيث.. أن الفرد المبدع لا يختلف كيفاً عن عامة البشر، إلا أنه يتميّز بالجمع بين كل هذه القدرات في وقت واحد وبدرجة عالية"([xxvi]). بمعنى أننا لو لم نمعن النظر في تفاصيل القصيدة لما تبيّنا من وجود هذا الموروث وتلك الموتيفات، لأنها مندغمة في القصيدة، ومتماهية في روحها وجسدها، الأمر الذي حقق لهذه القصيدة جماليتها مثلما أكد دورها التثويري، لأن "العمل الشعري الذي لا جمال فيه لا ثورة فيه"([xxvii]).
قصيدة جديدة في شكلها ونهجها:
والقصيدة، لأهميتها البالغة، شكلاً ومضموناً، قد تناولها غير دارس لأشعار إبراهيم، أو للشعر الفلسطيني، ولعل ما قاله الأستاذ الجليل إحسان عباس، الذي رأى القصيدة تؤصل للشعر الفلسطيني، وتفتح الآفاق أمامه، خير ما ننهي به هذا الباب: "يمكن أن يعد عام 1930 بداية الشعر الفلسطيني الحديث، في الشكل والمضمون. ففي ذلك العام شنق الشهداء الثلاثة فؤاد حجازي ومحمد جمجوم وعطا الزير. ونظم إبراهيم طوقان قصيدته "الثلاثاء الحمراء" في تخليد بطولاتهم، فجاءت قصيدة جديدة في شكلها الفني ونهجها. صحيح أنها في الشكل الخارجي تشبه الموشح، ولكنها موشح بالغ الدقة والتعقيد في دوراته، أما التجديد الكلّي فيها فهو ذلك التدرج الدرامي في حركة الأيام التي نطقت عن نفسها مشبهةً ذلك اليوم المهول – يوم إعدام الشهداء الثلاثة- والتدرج الدرامي في حركة الساعات الثلاث التي اختصت كل ساعة منها بالحديث عن مميزات كل شهيد منهم؛ ففي المراوحة بين الأيام الثلاثة والساعات الثلاث، وفي النقلة من نطاق الموشح في حديث الأيام إلى التباري الخطابي في حديث الساعات، كان إبراهيم يضع نواة مهمة في تطوير الشعر الفلسطيني"([xxviii]).
[i]) )عبد الرحمن بسيسو، استلهام الينبوع، الاتحاد العام للكتاب الفلسطينيين ومؤسسة سنابل، ط1، ص72.
(5)ديوان إبراهيم، د. إحسان (نظرة في شعر إبراهيم طوقان)، دار القدس، بيروت شباط 1975، ص211.
(6)راجع: اعتدال عثمان (الشعر والموت في زمن الاستلاب)، مجلة فصول، المجلد الرابع، العدد الأول، 1983، ص 222.
(7)راجع: أديب رفيق محمود وطارق عبد الكريم محمود، عبد الرحيم محمود بين الوفاء والذكرى، مركز إحياء التراث- الطيبة، ط1، سنة 1990- ص213- 215. وأنظر فدوى طوقان، أخي إبراهيم، ديوان إبراهيم، دار القدس، بيروت، شباط 1975 ص 16.
(8) راجع: عيسى السفري، فلسطين العربية بين الانتداب والصهيونية، 1981، ط2، ص138.
(9)محمود درويش، آخر الليل، الطبعة الأولى دون تاريخ، ص53.
(10)يتضح ذلك على سبيل التمثيل، في القصائد التي تحدثت عن سماسرة الأراضي.
(11) عالم النفس سيجموند فرويد، مؤسس مدرسة التحليل النفسي، والذي بنى نظريته النفسية على الغريزة الجنسية لدى الفرد وقسّم النفس البشرية إلى ثلاثة أقسام: الهو والأنا والأنا العليا.
(12)زكي المحاسني، إبراهيم طوقان ص 129.
(13)زكي المحاسني، إبراهيم طوقان ص 134.
(14)راجع: زكي المحاسني، إبراهيم طوقان ص141.
(15) راجع: زكي المحاسني، إبراهيم طوقان ص142.
(16)أنظر: عبد الرحمن ياغي، حياة الأدب الفلسطيني الحديث، ص263 وما بعدها.
(17)بخصوص ما كتب حول قصيدة "الثلاثاء الحمراء"، في هذا الباب، أنظر ما كتبته في مجلة العودة المقدسية العدد 78 السنة الرابعة، تشرين الثاني 1985 ص85- 89تحت عنوان: من سجن عكا: الشكل الفني، الديالكتيك، التجريد الذهني، والصوت الداخلي في قصيدة "الثلاثاء الحمراء" لإبراهيم طوقان.
(18)أوفسيانكوف وزملاؤه، أسس علم الجمال، موسكو- دار التقدم، سنة 1981، ترجمة جلال الماشطة، ص6
(19)المرجع نفسه، ص11- 12.
(20)د. محمد مندور، الأدب ومذاهبه، القاهرة دار نهضة مصر، ص92.
(21) علي عقيل، مقال بعنوان (مع الشعر الحديث) مجلة الشعر، عدد24، أكتوبر 1986، السنة 11، ص22.
(22) أيوب صابر، صحيفة الطليعة- القدس، السنة الرابعة، العدد 173.
(23) عبد المطلب صالح، دراسات في الواقعية والواقعية الاشتراكية، القدس- منشورات صلاح الدين، 1978، ص5.
(24 ( يوسف اليوسف، مقالات في الشعر الجاهلي، دار الحقائق، ط3، سنة 1983، ص7.
(25) راجع: المرجع نفسه، ص9.
(26) راجع: محمد دكروب، الأدب الجديد والثورة، بيروت- لبنان، دار الفارابي ط2/ 1984 ص16.
(27) مريد البرغوثي، مقابلة مع الشاعر، مجلة الفجر الأدبي، العدد 39، القدس، كانون أول 1983 ص79.
(28) أنظر فكري خليفة، الإبداع والمبدعون، مجلة الفجر الأدبي العدد 39- القدس، كانون أول 1983 ص28.
(29) محمد عماد فضلى، بين الأدب والموسيقى، مجلة فصول، المجلد الخامس، العدد الثاني، القاهرة 1985 ص 109.
(30) مجلة الناقد، العدد 37، تموز 1991، لندن، بريطانيا ص53.
(31) د. إحسان عباس، الشعر في فلسطين حتى العام 1967، الموسوعة الفلسطينية، القسم الثاني، المجلد الرابع، ط1 بيروت 1990، ص21.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت