- د. أفنان القاسم
التحليل
سيقارب نقدي المنقود ليس تبعًا لما تقترحه المعاني التي تمتلئ به، لسبب بسيط ألا وهو أن هذه المعاني (وكل العناصر النسقية) تقوم على فراغ يجب عليّ ملئه، لا لأصل إلى فهم هذه المعاني، فهي مفهومة، رغم اختلاف فهمها من قارئ إلى آخر، وإنما لأكتب نصًا مغايرًا للنص الأصلي ومطابقًا له في إطار الممكن. لتحقيق ذلك، سأعرض أولاً للحركة الخارجية في قصة "صعلوك" لنازك ضمرة، بكل تعرجاتها التعبيرية والوقائعية، ثم سأسعى ثانيًا مع الحركة الداخلية من وراء العلامات والرموز لأملأ بها بعض المعاني.
الحركة الخارجية: الوقائع
للوقائع وظيفة انتقالية، ترتبط كل منها بمكان داخل مكان:
"غرفة على شارع عام غير معبد –تبدأ القصة بهذه الكلمات- يكثر التراب فيه والغبار ، وباب عيادة الطبيب مفتوح ، أدخل وأرد السلام ، يجلس خلف منضدته قرب المدخل ، يحادث الطبيب نفسه دون أن يتنبه لي ، يشير إليّ بيده للانتظار في غرفة في آخر المبنى مروراً بممرّ سيئ الإنارة، غرفة بلا باب ولا جدار فاصل عن مكان عمله".
ملحوظة أساسية: يمارس السارد لعبة الكلام تحت كل الأبعاد اللغوية والدلالية والنحوية، فلا يربكك قوله بضمير المتكلم "أدخل وأرد السلام" ومباشرة بعد ذلك عن الطبيب بضمير الغائب دون أن يحدد كونه الطبيب "يجلس خلف منضدته"، وفي أمكنة أخرى سيستعمل نفس الأسلوب عن نفسه.
يبدأ السارد إذن بالغرفة، وينتهي بالغرفة، لنستنتج أنه كان في الغرفة، وعاد بالوقائع إلى الوراء: شارع، عيادة، مدخل، ممر، غرفة انتظار بلا باب أو جدار. المكان هو بالأحرى أمكنة مفتوحة على بعضها، مكان هيولي دون أبعاد، وكأنه معلق في الفراغ. تنتقل الوقائع بالمكان، وينتقل المكان بالوقائع.
التعابير
للتعابير وظيفة اصطحابية، يرتبط كل منها بحال تلو حال:
"حاولت الوصول إلى كرسي في الزاوية البعيدة ، أواني معدنية ضخمة كانت في الطريق ، جربت تحريك واحدة منها، لكنها كانت ثقيلة ، تذكرت أن قريبنا ظلّ ينتظر خارج المبنى ، أما الطفل فظل ممسكاً بيدي ، بل شددت قبضتي على يده لأضمن عدم مغادرته ، فهو نشيط لعوب متوقد الذكاء في العبث والأمور التي تتعلق باللعب".
يلجأ السارد إلى التقنية نفسها بخصوص الوقائع، عندما يعود بتعابيره إلى الوراء متذكرًا قريبه الذي بقي بانتظاره في الخارج، حال أولى، وذلك لِيُدْخِلَ عنصرًا بنيويًا آخر، حال ثانية: الطفل، الذي كان هنا منذ بداية القصة دون أن نراه بما أنه ظل يمسك بيده. تصاحب التعابير الحال، وتصاحب الحال التعابير.
الوقائع
تتحرر الوقائع من قيود النص الكلاسيكي، وتسلك نهج التطور اللامنطقي للأحداث كزمان داخل زمان، من الحاضر إلى الماضي، عند الحديث عن القريب المنتظِر في الخارج، ومن الماضي إلى الماضي، عند الحديث عن الزوجة:
"زوجتي وأنا تناولنا جرعة من نفس الدواء ، كان ذلك مساء الأمس ، ثم تناولت هي جرعة ثانية من نفس الدواء صباح اليوم التالي ، اشتكت زوجتي من مغص في الليل وقرقرة ، حاولت الوقوف صباحاً فأحسّت بدوار، ومع ذلك تناولتْ جرعة الصباح ، معتقدة أن الدواء سيخلصها من الآلام التي أقضّت مضجعنا في الليلة السابقة، تراخت أكثر بعد الجرعة الثانية فلزمت الفراش ، وبعد عصر ذلك اليوم خشيت الليل وآلامه، فقررت الذهاب إلى الطبيب شاكياً من آلام في أمعائي".
الحاضر (وجود السارد في العيادة) والماضي القريب (الرجل المنتظر في الخارج) والماضي البعيد –ليس بعيدًا جدًا- (السارد والزوجة المريضان)، زمان كالمكان يتشكل من أزمنة مفتوحة على بعضها، زمان هيولي دون أبعاد، وكأنه معلق في الفراغ. تنتقل الوقائع بالزمان، وينتقل الزمان بالوقائع.
التعابير
كالوقائع تتحرر التعابير من المنطق التقليدي في النص الكلاسيكي، وترتدي الثوب الإشكالي في اللحظة التي تأخذ فيها نهجًا مضادًا في الخطاب عندما نقرأ باقي الفقرة السابقة:
"دعوتها إلى مرافقتي لزيارة طبيب سبق وزرته مرات من قبل ، وألمي لم يتوقف ، حاولت زوجتي إقناعي بعدم زيارة الطبيب ، لكنّ إصراري كان أقوى..".
ذهاب السارد عند طبيب سبق وزاره مرات –لاحظ الإلحاح على مرات كعنصر دال- وألمه لم يتوقف، ومع ذلك يصر على زيارة الطبيب، رغم محاولة زوجته إقناعه بعدمها، وسنعرف في مكان آخر أن الطبيب لعلاجه وصف الدواء الذي وصفه لصديقه منذ سنوات، فالدواء نفسه لكل المرضى ولكل الأوقات. إنه المنطق العدمي المرافق للنص من الكلمة الأولى حتى الكلمة الأخيرة، عدمي تحت مفهومٍ موحٍ لضد عدمي (كينوني)، وفي السياق الذي نحن فيه لانتقال طبيعي خارج عالم غير طبيعي. تصاحب التعابير الخطاب، ويصاحب الخطاب التعابير.
تعرجات
بالإمكان مواصلة التحليل بالطريقة نفسها فقرة فقرة حتى نهاية القصة، لكني سأكتفي بمنطق اللامنطق للحركة الخارجية مشفوعًا ببعض الأمثلة، مع ملاحظة أن اللامنطق هنا غير مطروح على الإطلاق كلامنطق، وهذا برأيي سر ثراء النص:
"حين دخلنا البقالة لم نعثر على المرأة التي شاهدناها تدخلها، والمحل واسع ومتشعب ، ولا يوجد إلا زبون آخر، شاب يبحث عن دخان أصلي أي أجنبي ، بعد خروجنا أدركنا أن الدقائق أصبحت مهمة ، حلّ الظلام على منطقتنا بسرعة لم نكن نتصورها من قبل، والسير فيه صعب ومخيف، المهم أن نجتاز هذا الظلام، تشعبت المسالك ، جادلني رفيقي أي فرع نسلك ، فاختلفنا ، وسلك كل منا فرعاً ، واتفقنا أن ينادي الواحد منا على الآخر إن وجد منفذا سليماً ، ضاع رفيقي وغاب ، مات رحمه الله ، ربما كنت أحلم أو أنه مات منذ زمن بعيد ، فهل يمكن أن يعود ، ولو في يوم عيد؟ ، ارتاح ولن يعود ، أنا ضائع ومشكلتي الكبرى وجود الطفل معي، والدواء السائل في جيبي أصبح يضايقني ، يملأ زجاجة كبيرة منتفخة وثقيلة".
لنلاحظ أولاً وقبل كل شيء أنهم يدخلون البقالة للمرة الثانية، وقائعيًا يعيدنا السارد إلى لحظة انتهت، لكنه يريد أن يدلل تعبيريًا على عنصر المكان الهيولي الذي يخترقه من أية جهة وفي أية لحظة، وكأنه مكانه الشخصي، وكأن المكان شخصه، إنه يحرجل (يتصعلك) فيما حوله، فيما هو خارجه، وفيما هو داخله، وكأنه يحلم، كما يقول، وكأن الموت والحياة شيء واحد. في عالم على هامش العالم، يصبح الضياع مطلبًا، لكن عبث الوجود يظل مطاردًا لموضوعه، حتى الطفولة تغدو عبئًا، حتى قنينة الدواء يصبح حملها مشكلة عويصة.
الحركة الداخلية: الرموز والعلامات
البطل، أو، السارد، في رمزه، هو نفيه الدائم لأي رمز، إنه اللابطل، ليس بالمفهوم الكلاسيكي للابطل، ولكن بالمفهوم اللغوي، فهو في النص عبارة عن نظام سردي، لا يُرى رغم حضوره الكلي، يملأ ويمتلئ، لهذا يتكلم عن نفسه بصيغة ضمير المتكلم تارة وبصيغة ضمير الغائب تارة، وبهذه الطريقة تنبني السردية، ينبني في السرد. إنه كل شخصيات القصة، هو الزوجة، وهو الابن، وهو الصديق، وهو الطبيب، وهو العراقي، وكل واحدة من هذه الشخصيات لا ترمز لشيء، ولا تمثل شيئًا، رغم أنها مجسمة لعناصر سردية، فتتفجر إنسانيتها بشكل عادي في وضع غير عادي لحركة داخلية عادية للشخصية (للشخصيات) حركة هي في الوقت ذاته حركة النص، أو، بكلام آخر، حركة التحول السلبي/الإيجابي للنص:
"وجد الأب وطفله نفسيهما على سطح عمارة تتصل بمباني أخرى ، والشارع الذي كانا يسيران فيه أُقفل بركام من حصى وتراب ، ظنها الرجل عمارة انهارت فوق قاطنيها فأقفلت ذلك الدرب الضيق ، كان يكفي لمرور سيارة ولشخص ماش بجانبها ، ثلاثة أمتار أو ثلاثة ونصف ، اضطررتما للمرور عبر ممرات ودهاليز ضيقة وملتوية، لا بد من المرور على سطوح منازل قديمة رجراجة ، مقامة على أعمدة خشبية متآكلة أو معدنية صدئة ، والمشي تحتها أو قربها أو فوقها خطر ومخيف ، والطفل مشكلتي الكبرى ، يتنبه الطفل المحمول المتشبث بعنقي إلى نافذة صغيرة ، يبدو نور ضعيف من خلالها ، تهلل وفرح، يستند الأب على جدران وعوارض خشبية هزيلة وقضبان معدنية صدئة ، حتى بلغا النافذة الثمينة ، لاحظ كتابة فاهية على خشب النافذة ، جاء فيها (نحن عراقيون) أطل منها شبه إنسان ينطق بلهجة عراقية، سمعته يقول ، (مختبئون في هذا الكهف لسنين)، لم أفهم قوله ، بل ازددت تخوفاً واضطراباً ، سألني طفلي إن كان يكلمني ، لم أجبه ، نظر خلفه ليتأكد أن لا أحد من جماعته يرقبه ، ثم أكمل ، لو كنت أعلم أنكما تستطيعان الوصول هنا ثانية لما ظهرت لكما ، لكنه الطفل ، نعم ، الطفل فقط ، ومن أجل الطفل ، وحين لاح وجهه لنور السراج الضعيف ، بدت عظام وجهه ناتئة ، لكن شواربه طالت ، مسدها وفتلها رفعها على الطريقة التركية ، سقطت سِنّان من جانب فمه العلوي ، فأثر ذلك على صحة نطقه قليلاً ، لكن ثقته بنفسه عالية ، والنخوة بدت جلية عليه والتفاؤل ، سبق الطفل أباه في طلب المساعدة ، ليدلنا العراقي على منفذ كي ننزل عن سطوح المباني القلقة ، قال الطفل له: لا أحب أن أمشي على سطوح مباني متهاوية يا عمّ ، فهل ستساعدنا؟ ترك الأب ابنه بتكلم على هواه ، وحين توقف أضاف الأب:
- لا شك أن زلزالاً أو مصيبة حلت بتلك البيوت ، ألا تحس باهتزازها ، كلها آيلة للسقوط ، فهلا ساعدتنا يا بني كي نسرع الخروج".
يبدأ السارد بالحديث عن نفسه وولده بصيغة ضمير الغائب "وجد الأب وطفله نفسيهما..."، ثم يخاطب نفسه وابنه بصيغة المثنى "اضطررتما للمرور عبر ممرات..."، ثم يتابع بصيغة ضمير المتكلم "والطفل مشكلتي الكبرى..."، ثم يعود إلى صيغة ضمير الغائب "يستند الأب على جدران..."، وهكذا إلى ما لا نهاية. وكل هذا في جو رؤيوي يتفجر (يتهدم) بالعلامات التي تشير إلى نهاية العالم، وكأن شرط ملء فراغ المكان بهدمه، حتى الشاب المنقذ العراقي الذي يحتاج إلى من ينقذه مما هو فيه يأخذ شكل المكان الذي يعيش فيه (عظامه الناتئة شواربه الطويلة أسنانه الساقطة). كل الفاجعة العراقية تتراءى في هذه الرؤية، كل الفاجعة البشرية تتتالى محطة بعد محطة في هذه التتالية، كل فاجعة النص تنزاح انزياح البنى التي يتشكل منها، أقول بنى لتعدد التقنيات وتعدد الأساليب وتعدد الموديلات، ولكن قمة كل هذا، التي تعيد هدم النص لتملأ فراغ النص من جديد، هي العبارة الأخيرة: "وأنت تنأى عنه (عن الشاب العراقي)، تحاول عدم الالتفات إلى الوراء ، ولا إلى كل ما صار ، قلتَ لنفسك ، لا تدري أن الطريق طويلة أمامك أم خلفك".
باريس الثلاثاء 2014.11.25
النص
أعتبر هذه القصة التي قضيت ليلتي مع شخصياتها من بين أجمل القصص التي حللتها منذ أكثر من نصف قرن، كتبها نازك ضمرة عام 2004، وحتى اليوم لم يتكلم عنها أحد. / أ. القاسم
صعلوك –قصة نازك ضمرة
غرفة على شارع عام غير معبد ، يكثر التراب فيه والغبار ، وباب عيادة الطبيب مفتوح ، أدخل وأرد السلام ، يجلس خلف منضدته قرب المدخل ، يحادث الطبيب نفسه دون أن يتنبه لي ، يشير إليّ بيده للانتظار في غرفة في آخر المبنى مروراً بممرّ سيئ الإنارة، غرفة بلا باب ولا جدار فاصل عن مكان عمله ، حاولت الوصول إلى كرسي في الزاوية البعيدة ، أواني معدنية ضخمة كانت في الطريق ، جربت تحريك واحدة منها، لكنها كانت ثقيلة ، تذكرت أن قريبنا ظلّ ينتظر خارج المبنى ، أما الطفل فظل ممسكاً بيدي ، بل شددت قبضتي على يده لأضمن عدم مغادرته ، فهو نشيط لعوب متوقد الذكاء في العبث والأمور التي تتعلق باللعب، يحب أن يعرف أي شيء يراه ، ولأنه الأصغر فهو مدلل ومعظم طلباته ملبّاة، مع أننا لا نلبي له معظم طلباته، في منطقة سكننا لا توجد أشياء مدهشة (فانسي كما يقولون) ولا حتى ثمينة أو مزعجة، طلباته لا تتعدى الحلوى أو الفواكه أو حذاء أو لعبة ميكانيكية صينية الصنع، ولا تعيش مثل تلك اللعبة أكثر من يوم أو يومين على الأكثر.
زوجتي وأنا تناولنا جرعة من نفس الدواء ، كان ذلك مساء الأمس ، ثم تناولت هي جرعة ثانية من نفس الدواء صباح اليوم التالي ، اشتكت زوجتي من مغص في الليل وقرقرة ، حاولت الوقوف صباحاً فأحسّت بدوار، ومع ذلك تناولتْ جرعة الصباح ، معتقدة أن الدواء سيخلصها من الآلام التي أقضت مضجعنا في الليلة السابقة، تراخت أكثر بعد الجرعة الثانية فلزمت الفراش ، وبعد عصر ذلك اليوم خشيت الليل وآلامه، فقررت الذهاب إلى الطبيب شاكياً من آلام في أمعائي ، دعوتها إلى مرافقتي لزيارة طبيب سبق وزرته مرات من قبل ، وألمي لم يتوقف ، حاولت زوجتي إقناعي بعدم زيارة الطبيب ، لكنّ إصراري كان أقوى..
نهضتْ زوجتي أبكر من العادة يومها ، وبرغم آلامها أعدت فنجان قهوة الصباح لي ، لم أتنبّه لما تفعله، وإذا بفنجان قهوة على صينية فضية اللون ، تقشر دهانها في بقع صغيرة متناثرة ، واحتوت الصينية كأس ماء وطبقاً صغيراً به قليل من البسكويت ، أما هي فقالت إنها لا تشتهي القهوة في ذلك اليوم على غير عادتها، قالت إن طعم الدواء ورائحته تنفرانها من أي شيء ، كانت ما تزال بلباس نوم خفيف زهري ، يكاد يمتزج مع بشرتها. كاشف أعلاه، وهفهاف أسفله برغم قصره ، تراخت وترهلت، تمنيت لو آتي بحبتي الرمان اللتين حفظناهما في الثلاجة منذ زمن بعيد، يقولون إن عصير الرمان يشفى من المغص اللعين، سألتها عن موضع الألم الذي تحسّ به، فأمسكت يدي ، وقالت هنا أسفل الصرة، شربت نصف فنجان القهوة، واثنتين من البسكويت. نسيت يدي على موضع الألم، أحسست بعطش فأتيت على كأس الماء المتوسطة ، سحبتها ومسحت فمي من الماء البارد، سألتها إن كانت ما زالت موجوعة، حاولت الابتسام لكن الألم غيّب البسمة، أنّت وأنا أمسك بذراعها ، نمشي صوب غرفة النوم، الوقت صبح وكنت مستعداً لمغادرة البيت، أنعشتني القهوة قليلا، وتنتظرني أشغال أخرى لا بدّ من إنجازها بعد زيارة الطبيب، تقول زوجتي قبل مغادرتي
- لا تنس الهاتف النقال. قبل الابتعاد عن الباب، رأيت قميص نومها أقصر من ذي قبل، يلزمني جرعة دواء ثانية، تمر سيارة (همَر) مهيبة لامعة مسرعة، تثير غباراً في شارع مترب، سعل الطفل وتضايقت أنفاسي، ابتعدت عن البيت وأنا متكدر من الجو الخارجي. لا أدري لماذا أقنعت ابننا ليرافقني، يلتصق بي طفلنا الصغير حسب رغبة والدته، طلب قريب لي يكبرني كثيراً في العمر أن يصحبنا، كان ضجراً يبحث عمن يسليه، أخاطب نفسي، ليتني فعلت مثلها، تذكرت الدهاليز التي سنقطعها ، والمصاعب التي ستلاقينا ، سألني رفيقنا إن كنت أخاطبه ، فأجبته
- أشكو من ندرة الخضرة ومن ارتفاع أسعار الدخان ومن فساد الهواء.
- إذا عملنا أكثر حصلنا على دخل أكثر. لا أدري كيف فهم طفلنا موضوع حديثنا فقال في عناد
- أنا أحب الآيسكريم كل يوم ولا أستطيع الاستغناء عنه يا أبي. أجبته
- كل أسرتنا تحب الآيسكريم وأنا من ضمنهم. مع أنني أعاني من غازات كلما أكلت الآيسكريم ، ظننت أن ما يجلبه أصحاب المحلات التجارية في منطقة سكننا نوعية رديئة أو غير مبرّد جيداً، جربت شراء أنواع أخرى غالية مستوردة من أميركا، ومن محلات كبرى يرتادها مالكو سيارات الهمر والمرسيدس والرولز، فعانيت نفس المشكلة، بل زاد الريح انطلاقاً وقوة وبأصوات يصعب إخفاؤها ، وربما لكثرة المكسرات والملونات التي تضاف إلى آيسكريم الأغنياء، الغريب أنهم لا يحصل معهم كما أعاني، ومع هذا لا يهمهم الأصوات المزعجة والريح العاصفة، حتى لو رافقتها روائح كريهة.
في غرفة انتظار الطبيب جلست على طرف كرسي صغير أمام حواجز معدنية، احترت في أمر تلك الحواجز، ظننت نفسي في مركز أمن، قال أحدهم: أن تكون خلف الحواجز نصف العلاج، تمنيت أن يأتي دوري بسرعة، لأسأل الطبيب عن أسباب وجود الحاجز المنيع المكلف، ألمح الطبيب يمسك معصم ولد مراهق، مغمضاً عينيه كأنه حالم أو نصف نائم، فطنت أنني سأكون جالساً على كرسي في المقهى المجاورة لعيادة الطبيب في مثل هذا الوقت بعد شفائي بيومين أو ثلاثة، مقهى شعبية واسعة في ساحة واسعة فيها متاجر أخرى، قلّ مرتادوها من كل الأجناس، قال قريبي الذي ظل مصرا على مرافقتي حتى للطبيب
- المحطات الفضائية، سواء في المقهى أو في الدكاكين، والجهة الغربية ما تزال مقفلة أمام العين، والشمس تحجبها غيوم كثيفة، والغبار كما يصفونه في نشرة الأخبار الجويةً يزيد أنفاسي ضيقاً، المذيعة الرفيعة البديعة تزيد همومك، تجعلك تقشعر وهي تشير إلى خارطة الثلوج والأعاصير القادمة، ننشغل كلنا بحكّ أعيننا. تلاحق طفلك وهو يحاول التحرّي في غرفة الانتظار الصغيرة.
في المقهى العريق قبل يومين يجلس قريبك الذي يكبرك على كرسي قصير من القش قديم ، لم يأت أحد من العاملين في المقهى كي يسألكما عن الشراب، أكثر من نصف ساعة مرّت. ينادي الطبيب بنفسه علينا وبصوت أجشّ مكتوم، استغربت حين سألني عن اسمي، اهتز المكان بسبب رعد خفيف، جعلني أتلكأ في إجابتي، لكنه طبيب، ويزوره الكثيرون كل يوم، لم أعبأ بأفكاري وذكرت له اسمي، كتبه في مفكرته في تردد وبطء وبمهنية، يجسّ نبضي عند معصمي ثم يقول
- ما الذي يشغلك أو يؤلمك؟
- سبق وزرتك عشرات المرات من قبل يا حكيم، ألا تذكر مزاحنا وأحاديثنا عن الشراب والحلوى والسمنة والأمراض التي تسببها، ألهذه الدرجة تراني تغيرت؟
- آآه ، تذكرت، لم أكن متيقظاً لحظة دخولك. ثم أكمل قائلاً، أحب أن نراك باستمرار ، لنهتم بصحتك ، سألني عن الدواء الذي أتناوله للنوم.
- لا يهمني النوم يا طبيب، ثم أكملت ، ننسى الدواء، كما ينسى الأطباء المرضى، استعجل الطبيب بتوديعي حين شاهد امرأة عجوزاً تتكئ على عصا تتجه صوب عيادته.
- نفس الدواء الذي صرفه لي قبل أربع سنوات. قال قريبي.
- هو طبيب وأدرى منا بعمله.
- إننا سعداء في حارتنا لأن حافلة ركاب النقل العام تصلنا ، وتنقلنا إلى أي مكان داخل المدينة ، أو إلى مدينة مجاورة.
- نحسب الوقت بالسنين والشهور في حارتنا ، لاحظ فريبي شرودي.
قريبي الذي يسير بمحاذاتي يحب الكلام في مختلف أنواع المواضيع ، سياسة ، نقد ، ترفيه ، ذكريات ، وحتى أنه يتغزل بعجائز بدينات أحياناً، لم تصادفنا امرأة واحدة في طريقنا الطويل في ذلك المساء ، كنا نمشي ثلاثتنا، ولم تمر أي سيارة بعد مغادرتنا الطبيب ، والشمس تجري لمستقرها الليلي ، بل غاصت في البحر الغربي ، تذمّر رفيق دربي وقريبي الأكبر مني سناً ، لكنني أحب المشي وقد اعتدت عليه، يقولون إنه يقوي القلب، ويطيل العمر، وصلنا بقالة متوسطة الحجم ، تدخلها امرأة متوسطة في العمر ، متوسطة في الطول وفي الوزن وفي نوعية لباسها ، بمشية معتدلة لا تلتفت يميناً ولا يساراً ، كأنها روبوت يسير ببطارية شحنت لتوها، اقترح رفيقي أن ندخل لنرى موجودات البقالة ومن فيها ، لكن طفلي الصغير سبق رغبة الرفيق ، جذبني صوب البقالة كأمر محتوم، وحيدة في مبنى طويل قديم من طابق واحد ، لا أبواب فيه ولا نوافذ إلا بابها الصغير ، وربما كان باباً لمصلى أثري أو معبد ، رجل كبير في السن يغادر المكان من المدخل إياه ، قد يكون ذلك الشخص كفيفاً ، وإلا فهزيل أو ضعيف بصر أعيته السنون ، سأل قريبي صاحب البقالة عن أغراض دون نية في الشراء ، ثم طلب مني طفلي الاستعجال بشراء ما يريد، علينا المشي السريع لأكثر من ساعة للوصول إلى حارتنا الفريدة، إذا غربت شمسنا يطبق الظلام علينا بسرعة، اشترى طفلنا ما أراد ، لكنه اقتصر على الموز ، وبعض الحلوى الصغيرة الصلبة ، حمل ثلاثاً من الموز ، قال واحدة لي وواحدة لك يا بابا وواحدة لماما ، فاشتريت أربعة قدمت لرفيقي واحدة، ذكرني بالهاتف النقال ، فاتصلت بالمنزل لأطمئن على زوجتي ، فصاحت مولولة ، ولدي أين ولدي؟ اختطف ولدي الهاتف النقال من يدي
- هاي ماما ، آي لوف يو ، أنا آكل موزة ، وأحضرت لك موزة معي ، أتناول الهاتف وأسألها ، هل شفيت وتحسنت حالك؟ فأجابت
- (عمر الشقي بقي)،أظلمت الدنيا ولماذا تتأخر دائماً حينما تغيب؟
- آمل أن نكون عندك بعد ساعة أو ..
- أو ماذا ، هل ستبيت خارج البيت، قلت في نفسي ، سأنام ملء جفوني الليلة.
- طمنيني عنك! أتيت لك بدواء.
- شربت الكثير من الماء والميرمية والبابونج ، وببدو أنني بدأت أتحسن ، لكنني توقفت عن شرب دواء الطبيب القديم.
- هلو هلو … انقطع الخط
أحسست بالجوع ، تمنيت لو أن لدي مالاً كافياً لدخول مطعم نظيف ، وصفوا لي واحداً خلف الحارة التي نسير عبرها ، رن الهاتف النقال ، فأقفلته نهائياً حتى لا يعمل ولا يرن.
حين دخلنا البقالة لم نعثر على المرأة التي شاهدناها تدخلها، والمحل واسع ومتشعب ، ولا يوجد إلا زبون آخر، شاب يبحث عن دخان أصلي أي أجنبي ، بعد خروجنا أدركنا أن الدقائق أصبحت مهمة ، حلّ الظلام على منطقتنا بسرعة لم نكن نتصورها من قبل، والسير فيه صعب ومخيف، المهم أن نجتاز هذا الظلام، تشعبت المسالك ، جادلني رفيقي أي فرع نسلك ، فاختلفنا ، وسلك كل منا فرعاً ، واتفقنا أن ينادي الواحد منا على الآخر إن وجد منفذا سليماً ، ضاع رفيقي وغاب ، مات رحمه الله ، ربما كنت أحلم أو أنه مات منذ زمن بعيد ، فهل يمكن أن يعود ، ولو في يوم عيد؟ ، ارتاح ولن يعود ، أنا ضائع ومشكلتي الكبرى وجود الطفل معي، والدواء السائل في جيبي أصبح يضايقني ، يملأ زجاجة كبيرة منتفخة وثقيلة.
يلتصق الطفل بيد والده ، لا يحس خوفاً من ظلام أو من انقطاع كهرباء ، لكنه جفل مرة لأن قطاً كان مختبئاً ينتظر فأراً ، وما أن خرج الفأر حتى هجمت عليه القطة، لكنه تأكد أنها قطة من نور ضعيف بعيد، وهو يحب القطط كثيراً.
أكل نصف قرن موز حتى تلك اللحظة ، وصار ينوء بحمل النصف الثاني ويتذمر ، يتناولها والده منه ويقضم ما تبقى منها. وجد الأب وطفله نفسيهما على سطح عمارة تتصل بمباني أخرى ، والشارع الذي كانا يسيران فيه أُقفل بركام من حصى وتراب ، ظنها الرجل عمارة انهارت فوق قاطنيها فأقفلت ذلك الدرب الضيق ، كان يكفي لمرور سيارة ولشخص ماش بجانبها ، ثلاثة أمتار أو ثلاثة ونصف ، اضطررتما للمرور عبر ممرات ودهاليز ضيقة وملتوية، لا بد من المرور على سطوح منازل قديمة رجراجة ، مقامة على أعمدة خشبية متآكلة أو معدنية صدئة ، والمشي تحتها أو قربها أو فوقها خطر ومخيف ، والطفل مشكلتي الكبرى ، يتنبه الطفل المحمول المتشبث بعنقي إلى نافذة صغيرة ، يبدو نور ضعيف من خلالها ، تهلل وفرح، يستند الأب على جدران وعوارض خشبية هزيلة وقضبان معدنية صدئة ، حتى بلغا النافذة الثمينة ، لاحظ كتابة فاهية على خشب النافذة ، جاء فيها (نحن عراقيون) أطل منها شبه إنسان ينطق بلهجة عراقية، سمعته يقول ، (مختبئون في هذا الكهف لسنين)، لم أفهم قوله ، بل ازددت تخوفاً واضطراباً ، سألني طفلي إن كان يكلمني ، لم أجبه ، نظر خلفه ليتأكد أن لا أحد من جماعته يرقبه ، ثم أكمل ، لو كنت أعلم أنكما تستطيعان الوصول هنا ثانية لما ظهرت لكما ، لكنه الطفل ، نعم ، الطفل فقط ، ومن أجل الطفل ، وحين لاح وجهه لنور السراج الضعيف ، بدت عظام وجهه ناتئة ، لكن شواربه طالت ، مسدها وفتلها رفعها على الطريقة التركية ، سقطت سِنّان من جانب فمه العلوي ، فأثر ذلك على صحة نطقه قليلاً ، لكن ثقته بنفسه عالية ، والنخوة بدت جلية عليه والتفاؤل ، سبق الطفل أباه في طلب المساعدة ، ليدلنا العراقي على منفذ كي ننزل عن سطوح المباني القلقة ، قال الطفل له: لا أحب أن أمشي على سطوح مباني متهاوية يا عمّ ، فهل ستساعدنا؟ ترك الأب ابنه بتكلم على هواه ، وحين توقف أضاف الأب
- لا شك أن زلزالاً أو مصيبة حلت بتلك البيوت ، ألا تحس باهتزازها ، كلها آيلة للسقوط ، فهلا ساعدتنا يا بني كي نسرع الخروج. ثم عاد الطفل يقول: أكره الاهتزاز يا عمّ؟
كان شاباً لا يزيد عن الخامسة والثلاثين عاماً. نحيفاً لكنه صلب عنيد ، عيناه نجمتان بعيدتان مشعتان ، لم ندر كيف خرج ، ولا من أين خرج ، لم يخرج من الكوّة الصغيرة التي كلمناه من خلالها ، نظرنا إلى الجانب الآخر ، فإذا به ينبثق من باب صغير كفتحة سرداب ، أبقاه مفتوحاً ، تقدمنا عبر طريق متعرج، أوصلنا إلى مناطق أعرف سبلها ، هبت نسمة هواء باردة ، أعقبها برق ضعيف ، لاحت شجرة منخفضة جداً ، وضعيفة النمو ، تتساقط أوراقها وهي تقاوم ، وتعبث فيها الريح ، قال ، طريقكم طويلة.
وأنت تنأى عنه، تحاول عدم الالتفات إلى الوراء ، ولا إلى كل ما صار ، قلت لنفسك ، لا تدري أن الطريق طويلة أمامك أم خلفك.
نورث كارولاينا في 1/9/2004
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت