- الكاتب والمحلل و المفكر السياسي د. رائف حسين
ردات الفعل على قرار الرئيس التركي اردوغان بتحويل كنيسة ايا صوفيا الى جامع كانت باكثريتها الساحقه عاطفيه… وهذه، ردات الفعل، يمكن فهمها والتعامل معها كونها تتبلور في جو اجتماعي سياسي شرقي به الدين اداة تسلط وتحكم والتدين اداة تقوقع وتبجح.
المؤيدون قيموا الخطوة على انها بدايه انبعاث جديد لعصر اسلامي تمنوه منذ سنين طويله … والمعارضون اعتبروا الخطوه عنجهيه تتبع قانون الغاب ولا تحترم شعور المسيحيين.
البعض رأى بالرئيس التركي "قائد اسلامي" واطلق عليه اسم "الفاتح" وبدأ يحلم بعودة الخلافه والبعض الاخر تخوف من تهور رئيس يتخبط بالسياسة والاستراتيجيه كالافعى مقطوع الرأس.
قرار الرئيس التركي لم يأخذ كلا الطرفين، مؤيدين ومعارضين، باولويات دوافع اتخاذه مثل هذا القرار التاريخي. ما دفعه لاتخاذ هذه الخطوه هي غريزته بالتسلط وحبه للبقاء بالحكم … القرار له علاقه في مكانة الرئيس ومصداقيته وتأييد سياساته الداخليه والخارجيه ومكانة حزبه، حزب العدالة والتنمية، واستطلاعات الرأي للانتخابات البرلمانيه القادمه.
اردوغان وحزبه تلقوا في السنوات الماضيه عدة ضربات سياسيه واقتصادية ودبلوماسيه قوية هزت ثقة الشعب التركي بالرئيس وحزبه … وقراره هذا هو مناوره تكتيكيه شعبوية لا يعرف احد مدى تأثيرها على الرأي العام وخصوصا على الناخب التركي والقرار بحد ذاته مجازفه كبيره ممكن ان تتطور الى عاصفه دبلوماسيه مدمره وتكون بمثابة الخشبه الاخيره في تابوت اردوغان السياسي من قبل بعض الجهات وخصوصا الاتحاد الاوروبي.
اخطاء ومقامرات اردوغان السياسه التي زعزعت التماسك والوحده داخل حزبه كانت عديده ومتنوعه، لكنها كلها مرتبطه بجنون العظمه الذي اعتلى الرئيس التركي منذ بداية تخلي الادارة الامريكيه عن حلفائه العرب التقليديين بالشرق الاوسط مثل مبارك بمصر وبن علي بتونس .
في منتصف سنة ٢٠١٠، قبل بداية ما يسمى بالربيع العربي قامت نيويورك تايمز بنشر كامل للقرار التنفيذي ( PSD 11) للرئيس الامريكي اوباما المتعلق باتخاذ استراتيجيه جديده تجاه الشرق الاوسط والتي كانت ترى دعم تيارات الاخوان المسلمين وشعبهم لاستلام الصداره بالعالم العربي والحل محل الزعامات المكروهه من شعوبها والتي اصبحت تشكل خطر على المصالح الامريكيه . انذاك كان العالم واوباما منبهرين من نجاحات اردوغان في تركيا. اذ انه وبفترة سنوات حكمه الاولى استطاع ان يوصل تركيا الى بر امان اقتصادي وسياسي داخلي وسياسة اقليمية حكيمه كانت تعتمد مبدأ "صفر اشتباك مع الجيران".
اردوغان كان بداية قائد سياسي ناجح ومدور للزوايا في الداخل والخارج وجذوره الاخوانية لم تكن عائق امام هذا النجاح … وكونه لم يغير من علاقة تركيا الاستراتيجية، عسكريا واقتصاديا، مع اسرائيل وابقى على كل الاتفاقات الموقعه معها جعله بنظر الادارة الامريكيه الرجل المناسب لبدء استراتيجيه جديده واصطفافات جديده في الشرق الاوسط الذي اصبحت به ايران الشيعيه قوه اقليميه مدعومه من حلفاء عصاميين والدول السنيه العربيه، مثل مصر والسعوديه، بدأت تتأكل وتضعف.
اردوغان قرأ الاستراتيجيه الامريكيه الجديده واستنتج منها ان هذا العصر هو عصر تركيا وعصر الاخوان وعصره هو شخصيا لترسيم معالم شرق اوسط جديد بقيادة تركيا… وبدأ في مغامراته وتهوارته السياسيه والدبلوماسيه بالخارج والداخل …وظهر احيانا بافعاله واقواله كالفيل الذي دخل حانوت لبيع القزاز… يدمر كل ما امامه.
تغيير استراتيجية " صغر مشاكل" الذي وضعها داووداغلو السياسي والاستراتيجي المخضرم والرأس المدبر خلف اردوغان وصعوده العامودي في الحلبه السياسية التركيه وتدخله السافر في الحرب على سوريا ودعمه للارهاب المتأسلم بانيا هذا التوجه على نجاحات موقعيه لحركة الاخوان المسلمين في كل من مصر وتونس ودعم اقليمي خصوصا من قبل قطر والولايات المتحده الامريكيه. اردوغان كان يعتقد فعلا انه " الخليفه" المنتظر من العالم الاسلامي السني، تصريحاته وتصرفاته كانت توحي بهذا الامر دون التباس.
الاشكالات التي بدأت بهذا التهور والتي لم تنتهي بعد اضعفت اردوغان سياسيا واضعفت تركيا اقتصاديا وامنيا ودبلوماسيا واعادت تركيا الى الوراء.
العديد من القيادات المؤسسه والكرازماتيه في حزب العداله والتنميه ادارت ظهرها لاردوغان المتغطرس وخرجت من صفوف الحزب.
علي باباكان، وزير الاقتصاد السابق والعقل الاقتصادي المتزن والرجل وراء بناء اقتصاد تركي قوي، خرج من الحزب واسس حزب اخر لوحده اسمه : حزب الديمقراطيه والتقدم DEVA. ورئيس الوزراء السابق، الاستراتيجي المخضرم احمد داوداغلو ادار ظهره للحزب ولاردوغان واسس حزب اخر اسمه حزب المستقبل Gelecek. هذه الاحزاب اصبحت تشكل خطرا على اردوغان وامكانية نجاحه في انتخابات قادمه. اضافة الى التآكل الذي بدأ يظهر في حزب العداله والتنميه بجمهرة اقارب اردوغان حوله بدل الشخصيات القويه المركزيه التي كانت في بداية مسيرته السياسيه.
هذه الزعزعة الداخليه بحزب الرئيس التركي اتت متزامنه مع الانكسارات العسكريه التركيه بسوريا وصمود سوريا وحلفائها وانكسار تيار الاخوان بمصر وتونس وبداية هبوط نجم تركيا العالمي والاقليمي وزيادة الضغوطات الاقتصاديه على تركيا من قبل الاتحاد الاوروبي وروسيا.
اضافة الى هذا كله كان تصرف اردوغان بعد محاولة الانقلاب تصرف جنوني غير مسؤول اعاد الاضطراب الى الجبهه الداخليه وعدم الاستقرار الامني خصوصا في شرق تركيا، اماكن تمركز الاكراد.
حاول اردوغان بتوسيع رقعة تدخلاته العسكريه في سوريا وشمال العراق وقطر وليبيا وتأرجحه بالسياسة الخارجيه بين الناتو وطلب الانضمام لحلف شنهاي الاستراتيجي وبين الانضمام للاتحاد الاوروبي الى طلب الانضمام الى حلف البريكس الاقتصادي وبين ال S400 الروسي والباتريوت الامريكي من جهة وابتزاز الاوروبيين بسلاح اللجوء واللاجئين السوريين من جهة اخرى … وكل هذا تخبط ، لان يعيد لتركيا مكانتها التي وصلت اليها قبل الربيع العربي.
النتيجة كانت تراجع مستمر لشعبية الرئيس التركي وشعبية حزب العدالة والتنميه. الانتخابات المحليه الاخيرة اظهرت جليا الخطر الذي يجابهه اردوغان. في هذه الانتخابات خسر الحزب مواقع اساسيه مثل اسطنبول وانقره ومدن اخرى.
اردوغان يحاول بشتى الوسائل انقاذ ما يمكن انقاذه للتحضير للانتخابات البرلمانيه القادمه سنة ٢٠٢٣ والتي من الارجح ان يقوم بتقديمها خوفا من تعاظم قوة القوى السياسيه الاخرى خصوصا الحزبين الذين بناهما اشخاص من داخل الدائرة الضيقه حول اردوغان. الرئيس التركي يرى ان كل شيء متاح لضمان اعادة انتخابه وتمسكه بالسلطه.
هو لا يتراجع امام خطوات شعبوية كتحويل ايا صوفيا لمسجد لدغدغة مشاعر الطبقات المحافظه في تركيا كونه يدرك ان هذه الرغبه موجوده داخل الشعب التركي منذ قرار اتاتورك بتحويلها الى متحف.
اردوغان ليس بفاتح وليس بقائد … هو سياسي نرجسي بامتياز ويتخبط لانقاذ حياته السياسيه
وتركيا رغم مركزيتها بالشرق الاوسط الا انها ليست القوة الاقليميه الكبرى بالشرق وارتباطها باتفاقيات استراتيجيه مع دولة الاحتلال الصهيوني لا يجعلها محطة ثقة وامان
والدولة العثمانيه لم تكن زمرد الخلافه الاسلاميه الذي يحاول البعض التزين به… العثمانيه كانت رمز للاستعمار والدمار والقتل والرجعية… سرقت خيرات المشرق ومنعت تطوره وحاولت ابادة الارمن واستعمرت البلقان وخطفت اطفاله صغارا وربتهم على الحقد والكراهيه ضمن صفوف جيش الانكشارية الوحشي.
الخلافة العثمانيه اتسمت بوحشيتها ومرجعيتها وطغيها … وان كان اردوغان بنظر البعض هو الخليفة الجديد فما بنا الى ان نقول: من شب على شيء شاب عليه… عثمانية اردوغان من عثمانيه من سبقه!
Von meinem iPad gesendet
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت