- فتحي كليب
- رئيس الملتقى الديمقراطي للإعلاميين الفلسطينيين
منذ العام 1917، مرت على الشعب الفلسطيني الكثير من المحن والشدائد، وكل محنة كانت تحمل في ثناياها من القهر ومعاناة كفيلة بسحق امم وشعوب. لكن هذا الشعب، وفي كل مرة، كان دائما قادر على النهوض من جديد..
كانت النكبة الكبرى عام 1948 التتويج المباشر لعلاقة غير نظيفة بين مطامع الاستعمار الغربي ومزاعم واساطير الحركة الصهيونية وصمت القيادة الرسمية العربية. فشكلت النكبة مأساة كبرى ليس في تاريخ الشعب الفلسطيني، بل وفي تاريخ ومسيرة الانسانية، لما مثلته من اختلال فادح في موازين العدالة وحقوق الشعوب، عندما انحاز الاستعمار للمشروع الصهيوني وتنكر لأبسط حقوق البشر في فلسطين.
ثم جاءت النكسة عام 1967 التي تواطأ فيها النظام الرسمي العربي، لتصبح كل اراضي فلسطين التاريخية تحت قبضة الاحتلال. ثم كان الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982 الذي كان من نتيجته احتلال اسرائيل لثاني عاصمة عربية، بعد القدس، وانتهاء العمل بالكفاح المسلح بصيغته التقليدية.. اضافة الى عشرات الحروب والغزوات التي تعتبر كل واحدة منها نكبة بعين اصحابها. ولعل القاسم المشترك بين تلك الحروب وعمليات العدوان هو سحق الشعب الفلسطيني واخراجه من التاريخ تطبيقا للنظرية العنصرية البائدة "اربعة دول وخمسة شعوب ويجب التخلص من الشعب الزائد". لكن "حسابات الحقل لم تتفق وحسابات البيدر"، فبقي الشعب وبقيت فلسطين تسكن قلب ووجدان كل نفر من ابناءها، وظل صوته هادرا، وان خفت بحته بين الفينة والاخرى..
هذا الشعب، ورغم الاختلال الواضح في موازين القوى العربية والدولية لصالح اسرائيل، لم يرفع الراية البيضاء يوماً، ولم ينكس راية النضال الوطني والقومي، فخاض على امتداد أكثر من قرن معارك الدفاع عن وجوده وهويته وكيانه في وجه الحركة الصهيونية ومؤيديها، وقدم من التضحيات ما لا يقدمه شعب آخر في التاريخ الحديث، مئات الآلاف من الشهداء والجرحى والمعتقلين، آلاف الاطنان من احدث ما انتجته ترسانة الاسلحة العالمية، تدمير مئات آلاف المنازل وتشريد الملايين. ورغم ذلك، ما زال هذا الشعب، الصغير عددا والكبير فعلا وعظمة، وفيا لعهد قطعه قبل العام 1965، عندما قرر ان يأخذ قضيته بيده، بعد ان تناثر الدم الفلسطيني بين القبائل العربية التي لم تجد منذ اللحظة الاولى في اسرائيل عدوا لها ولشعوبها، فعملت، بالسر والعلن، على امتداد سني النضال الفلسطيني على التخلص من عبء المقاومة الفلسطينية.
حين تتسابق دول عربية على قلب المنطق والتاريخ، وعندما يتحكم بمصائر قحطان وعدنان جهلة لا يفقهون من التاريخ الا ما سمح به مقص الرقيب، فلا بد والحالة هذه ان يكون لعقلاء وحكماء القوم كلمة. لقد اصبح التطبيع مصلحة للعرب والشعب والفلسطيني، وغدت اسرائيل جزءا من تاريخ هذه المنطقة، نزرع ونحصد معا، ونعادي بعضنا بعضا طمعا في كسب ود الاحتلال والولايات المتحدة. لكن كل هذا لم ولن يغير حرفا واحدا في تاريخ يمتد الى ما قبل العصر الحجري قبل اكثر من (600) الف عام من التاريخ.. وشواهدنا المنزرعة في التاريخ وفي حبيبات الارض تؤكد ان هذه الارض لن تكون يوما الا عربية فلسطينية تأبى كل دخيل وغريب..
إحتلت فلسطين بقوة القتل والارهاب، وبتواطؤ من يرى اليوم في التطبيع والانفتاح على اسرائيل خلاصا له. لكن بقيت الارض صامدة واقفة تصارع كي تبقى شاهدة على التاريخ:
- بقيت اشجار الزيتون في نابلس واقفة، وان حاولوا قطعها، وظلت رائحة الزعتر والمريمية تنثر عبقها في سماء فلسطين.
- بقي زهر ليمون يافا تفوح رائحته في كل موسم، وبقي الزعمطوط والخبيزة والعكوب والقرصعنة واللوف تحكي روايات الاجداد التي تنتقل من جيل الى جيل..
- بقيت جفرا وظريف الطول تزين السامر الفلسطيني الذي ما زال يرافق سهرات "يا حلالي ويا مالي"، وبعدو الطير الفلسطيني يحلق في سماء الطيرة والجاعونة.
- وبعدو يرغول الحاج والشبابة والمجوز تطرب الشباب والصبايا في دبكة فلسطينية شمالية وكرادية وعرجا وفتوحية وسبعاوية وشعرواية، وصوت القويل والشوباشي، واهازيج النسوة تلعلع في سماء المخيمات لتنشد للأعراس حكاية عمرها اكثر من الفي عام من التاريخ المعلوم.
- مضت الايام والسنون.. لا الاحتلال اضعف عزيمة هذه الشعب على النهوض في كل مرة، ولا حروب السياسة والمدافع جلعتهم يرفعون راية بيضاء، ولا حروب التجويع دفعتهم للتوسل طلبا للعون والمساعدة..
- إن هاجر الشعب الفلسطيني هربا من ظلم اخوة واشقاء، فلا بد ان يعود يوما. وإن مات هنا فحتما سيولد هناك..
- كما قاومت شتلة التبغ في لبنان المحتل الاسرائيلي وصمدت حتى اجبرته على الرحيل، فان زهرة الحنون في فلسطين تقاوم منذ اكثر من مائة عام وستجبر المحتل ان يرحل ذات يوم..
- لا يوم كلت عزائمنا، ولا خف الاشتياق لأرضنا، هان عليكم تاريخكم وشرفكم، وما هانت علينا ارضنا ومضاربنا..
- اين كنتم يوم كانت فلسطين، بل اين كانت ابراجكم يوم وقفت فلسطين مدافعة عن شرف كل العرب.. واين كانت مضاربكم يوم كان الصراع محتدما بين حضارات التاريخ على ارض فلسطين.
نعم، هو الشعب الفلسطيني، شعب العماليق الجبارين، واسألوا اهل الذكر إن كنتم جاهلين، هم الشعب الذين ما عرفوا عبر التاريخ الا رجال اشداء لا يركعوا امام غاز ولا يطأطوا رؤوسهم امام محتل..
فلسطين باقية ما بقيت حروفها.. وكل ما عداها ومن عاداها الى زوال..
فتحي كليب / رئيس الملتقى الديمقراطي
للإعلاميين الفلسطينيين - 17 آب 2020
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت