- بقلم : محمد السهلي
■ يقدم كتاب«صفقة القرن في الميدان»، قراءة سياسية موضوعية جمعت ما بين تظهير مخاطر الصفقة، وبين تحديد بوصلة مواجهتها، عبر آليات وطنية ترسم معالم الخروج من الأزمات الداخلية في سياق المواجهة. ويشكل إعلان الشق السياسي لـ«صفقة القرن»،(28/1/2020)، مركز الحدث الذي يتناوله الكتاب بالتوثيق والتحليل، لكنه لا ينطلق منه، بل يعود إلى وقائع فلسطينية جرت في الربع الأخير من العام 2019، وبالتحديد يوم 26/9/2019، تاريخ إلقاء الرئيس محمود عباس(أبو مازن) كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الرابعة والسبعين، وإعلان عزمه الدعوة إلى «انتخابات عامة في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس»، في موعد سيحدده فور عودته من نيويورك.
الرجوع إلى التاريخ المذكور كان مفتاحا لعرض الأوضاع الفلسطينية، سلط من خلاله الكتاب الضوء على الاستحقاقات التي تفترضها مواجهة الصفقة في السياسة والميدان، كاشفا عن استمرار السياسة الرسمية في إعادة إنتاج الأزمات الداخلية،على الرغم من الخطوات بالغة الخطورة التي أفرزتها الصفقة تجاه الحقوق الوطنية الفلسطينية، منذ العام الأول لترسيم إدارة ترامب في الولايات المتحدة.
عقدة الانتخابات في ظل الأزمة الفلسطينية المركبة
■ انتجت انتخابات المجلس التشريعي (25/1/2006)، التي أجريت وفق قانون انتخابي مختلط(50% نسبي، 50% دوائر)، نظاما سياسيا مأزوماً برأسين متقابلين، انفجرت أزمته عبر الانقلاب الذي قامت به حركة حماس في غزة (14/6/2007). ومنذ ذلك الوقت، عُقدت سلسلة يصعب حصرها من الحوارات الوطنية الشاملة، والثنائية بين حركتي فتح وحماس، فشلت جميعها عمليا في إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الداخلية. وفي هذه الحوارات، احتلت موضوعة الانتخابات العامة الشاملة موقعاً مركزياً باعتبارها مدخل إصلاح النظام السياسي الفلسطيني. ويسجل لها أنها وضعت خارطة طريق برنامجية وتنظيمية للخروج من الأزمة القائمة، كما أنها توصلت، بالتدريج، إلى حسم موضوعة القانون الانتخابي لجهة اعتماد القانون النسبي ناظماً وحيداً لها. لكن غياب الإرادة السياسية لدى طرفي الانقسام، وتمسكهما بسياساتهما الجهوية والفئوية، أبقى قرارات هذه الحوارات خارج التطبيق، بما فيها إجراء الانتخابات، رغم المواعيد لمتكررة التي حددت لإجرائها.
■ بخصوص الدعوة للانتخابات التي وجهها الرئيس عباس من على منبر الأمم المتحدة، يلفت الكتاب الانتباه إلى أنها كانت مفاجئة لكل الأوساط السياسية الفلسطينية، وأن الإعلان عنها ورد خارج السياق العام لكلمته أمام الجمعية العامة. ويعزو الكتاب هذه الدعوة إلى انتقادات و«نصائح» أوروبية وجهت للرئيس عباس ودعته لإجراء انتخابات لتجديد شرعية مؤسسات السلطة. ومن المعروف أن البرلمان الأوروبي يعترف بالمجلس التشريعي كمؤسسة منتخبة، وقد أصدر الرئيس عباس مرسوماً بحله أواخر العام 2018. بمعنى أن الدعوة للانتخابات جاءت من موقع التفاعل مع النصائح والانتقادات الأوروبية، وليس استجابة لاستحقاقات يفرضها الوضع الفلسطيني الداخلي المأزوم، وربما هذا ما يفسر اقتصار الدعوة على الانتخابات التشريعية والرئاسية. لذلك، يصح التوصيف الذي ذكره الكتاب بأن الدعوة للانتخابات «سقطت» على الحالة الفلسطينية.
■ ومن موقع نقده لعدم الدعوة لانتخابات شاملة، يعرض الكتاب لحال مؤسسات النظام السياسي الفلسطيني القائمة التي« تجاوزت عمرها القانوني، وباتت كلها تشكل امتداداً لصيغة الأمر الواقع». يضاف إلى ذلك أن المجلس الوطني أعلن عملياً حل نفسه، في دورته الأخيرة في 30/4/2018،ودعا لانتخاب مجلس جديد، بعد أن اتخذ قراراً يخول المجلس المركزي القيام بأعماله خارج أدوار انعقاده، أي بات «المركزي» يتمتع بصلاحيات المجلس الوطني.
■ قوبلت دعوة الرئيس عباس بإجماع فصائل العمل الوطني على مبدأ الإنتخابات، ودعت، إلى عقد حوار وطني للإتفاق على آليات تنظيمها. ويشير الكتاب إلى تجاوز الرئيس عباس دعوات الحوار الوطني، وتكليفه د. حنا ناصر، رئيس لجنة الإنتخابات المركزية،بـ«إستئناف الإتصالات والمشاورات مع القوى السياسية والجهات المعنية كافة، للتحضير لإجراء الإنتخابات التشريعية، على أن تتبعها بعد بضعة أشهر الإنتخابات الرئاسية، وفق القوانين والأنظمة المعمول بها».
المفارقة أن الرئيس عباس، الذي رهن الحوار الوطني بإصدار مرسوم الانتخاب، رهن صدور المرسوم نفسه بموافقة الجانب الإسرائيلي على إجرائها في القدس. وعلى ذلك، بات الحوار الوطني مرهونا بهذه الموافقة، والتي يعرف الجميع أنها لن تأتي، فيما دعت أطراف فلسطينية، من بينها الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، إلى إعطاء الأولوية للحوار الوطني قبل إصدار مرسوم الانتخابات، وخوض معركة سياسية مع الاحتلال بشأن الانتخابات في القدس، حتى لا تتحول هذه القضية إلى ذريعة لإلغائها. وهو ما حصل في النتيجة، مع استمرار الارتهان للموافقة الإسرائيلية، ووطأة التطورات السياسية، وأبرزها الإعلان عن الشق السياسي للصفقة في أواخر الشهر الأول من العام 2020.
الانتخابات أمام استحقاقات الوحدة والإصلاح
■ يلقي الكتاب الضوء على أهمية الانتخابات الشاملة للرئاسة والمجلسين التشريعي والوطني كأحد المفاتيح الرئيسية للخروج من الأزمة البنيوية التي تواجه المشروع الوطني، ومعظم الحالة الوطنية الفلسطينية، ويرى فيها مدخلا مهماً لإنهاء الانقسام وإستعادة الوحدة الداخلية. ويعرض لتداعيات الانقسام الذي« لعب،ومازال، دوراً شديد السلبية في الوضع الفلسطيني،إنعكس بوطأته على أوضاع السلطة المنقسمة على نفسها، بين السلطة الفلسطينية في رام الله، وسلطة الأمر الواقع في قطاع غزة؛ فأضعف الحركة الشعبية، وشوَّه المفاهيم والقيم الكفاحية، والصورة النضالية لشعبنا، وفتح الباب لكل أشكال العبث والتدخل الإقليمي في الشأن الفلسطيني الداخلي». وحول الدعوة الأخيرة للانتخابات، يرى أن انتخاب المجلس الوطني، إستكمالاً للإنتخابات الشاملة، «يعيد للخارج بعضاً من ثقله السياسي، ويعزز وحدة الشعب، من خلال تعزيز وحدة مؤسساته التمثيلية وتأكيد وحدة برنامجه، ووحدة كامل حقوقه».
ويشير إلى أن النظام السياسي الفلسطيني« انْتُكِبَ مرتين: الأولى باتفاقات أوسلو، والثانية بالإنقسام»، منوهاً إلى إتفاقات أوسلو«مازالت تشكل عائقاً رئيسياً أمام إنهاء الإنقسام واستعادة الوحدة الداخلية، وفي طريق إخراج النظام السياسي الفلسطيني من أزمته المستفحلة». ويؤكد الكتاب أهمية الإنتخابات الشاملة وفق التمثيل النسبي الكامل في إعادة بناء هذا النظام الذي«انحرف نحو الهيمنة والتفرد، في ظل غياب السلطة التشريعية وتهميش المؤسسات الوطنية القائمة ،والتي تعاني بدورها من التآكل»، لينتقل من «نظام ديمقراطي رئاسي - برلماني، كما هو مفترض، إلى نظام رئاسي محض، يُدار الشأن العام فيه بسلطة المرسوم».وما ينطوي عليه ذلك من مخاطر جسيمة على أسس الإئتلاف والشراكة الوطنية».
الإعلان عن الشق السياسي لـ«الصفقة»
■ يعرض الكتاب في فصله الثاني لما ورد في «صفقة ترامب ـ نتنياهو» وفق نص الإعلان عن شقها السياسي، ويكثف مضمونه بالقول:«هو مشروع الدولة الواحدة بالصيغة الإسرائيلية، دولة إسرائيل الكبرى، بمعازل فلسطينية محاصرة للحكم الإداري الذاتي المحدود، بالمرجعية الأمنية والإقتصادية والسياسية العليا للإحتلال». إذ يعتبر نص الإعلان القدس«العاصمة الموحدة غير المقسمة لدولة إسرائيل»، ويشرعّن تقسيم المسجد الأقصى مكانياً وزمانيا، وتشير الخارطة المفاهيمية المرفقة مع الخطة إلى أن إسرائيل ستحتفظ بالسيادة على شمال البحر الميت والأغوار كجزء من مشروع إسرائيل الكبرى بالإضافة إلى كل المناطق التي بُنيت عليها المستوطنات ويشمل ذلك القدس الشرقية المحتلة. وقد صُممت الخريطة المفاهيمية بحيث تستجيب للمتطلبات الأمنية الإسرائيلية بحيث تبقى السيطرة الأمنية العليا بيد إسرائيل مع سيطرتها على المجالين الجوي والبحري بالكامل. وتضع الخطة تصوراً لدولة فلسطينية ناقصة السيادة، مقسمة لمناطق عدّة، وتكون مناطق معزولة غير متواصلة جغرافياً، تربطها شبكة مواصلات من خلال الجسور والأنفاق، ويخضع بناؤها للمتطلبات الأمنية الإسرائيلية، مع مواءمة جدار الضم والتوسع به لينسجم مع الحدود الجديدة. وحسب الخطة لا تتشارك دولة فلسطين بحدود دولية شرقية مع الأردن، وتبقى السيطرة الأمنية الإسرائيلية على المعابر كافة بما فيها المعابر مع مصر. كما تشطب الخطة حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وممتلكاتهم، وتدعوا لتوطينهم في أماكن لجوئهم أو إعادة تشريدهم. وقد جرى النص بوضوح في الخطة بأنها لا تعمد قرارات الأمم المتحد ذات الصلة لأنها «لم ولن تحل الصراع».
ويقرأ الكتاب ماورد في الإعلان على أنه «مجموعة من الإملاءات، وعرض هابط للإستسلام، بآلية جهنمية مفتوحة الآجال زمنياً، ترمي إلى تأبيد بقاء الشعب الفلسطيني أسيراً، لرباعية المشروع الصهيوني: الإحتلال + الإستيطان + التطهير العرقي والفصل العنصري + إعدام الهوية السياسية». كما رأى فيه إستكمالاً لما سبقه من إجراءات وخطوات ومواقف،«بتصميم أشد على فرضه، بهدف ابتلاع نصف مساحة الضفة الغربية إستيطاناً، وضماً، وإلحاقاً».
مواجهة الصفقة .. معركة فاصلة مع المشروع الصهيوني
■ يكشف الكتاب طبيعة الصفقة باعتبارها مشروعا سياسيا، يستهدف تصفية القضية الفلسطينية عبر توجيه ضربة قاضية للمشروع الوطني الفلسطيني. وهي «مشروع يستحيل تطويره من داخله، ولا يمكن التقاطع معه في منتصف الطريق. والموقف منه يكون، إما معه أو ضده، ولا حل وسطاً بين الموقفين». كما أنه غير مطروح للتفاوض، بل للتطبيق عبر أسلوب الفرض والإملاء.
ويشير الكتاب إلى أن الصفقة تسير على مسارين، إقليمي وفلسطيني، مع تغليب المسار الإقليمي على المسار الفلسطيني. وأنها مستوحاة من رؤية وأفكار ومشاريع عبَّر عنها رئيس حكومة الإحتلال بنيامين نتنياهو، في محطات مختلفة. وقد دعت الصفقة منذ ولادتها في «قمة الرياض»، (أيار/مايو/2017)، إلى قيام حلف إقليمي يعمل على «إعادة صياغة المعايير في المنطقة ليصبح الخطر الذي يتهددها هو الخطر من جانب إيران»، فيما يعتبر دولة الإحتلال عضواً فاعلاً في التصدي لهذا الخطر، لتصبح القضية الفلسطينية في حساباته«عقبة» في طريق تقدم هذا الحلف. وقد كان نتنياهو سبَّاقاً إلى الدعوة لإعادة صياغة المفاهيم والمعايير في العلاقات الإقليمية في المنطقة في هذا الإتجاه. وبذلك تعبر الصفقة عن انضمام السياسة الرسمية الأميركية للرؤية التوسعية الإسرائيلية وتطابقها مع أهدافها.
وينوه الكتاب في هذا المجال إلى مسألة بالغة الأهمية عندما يشير إلى أنه لا ينبغي الربط بين مستقبل الصفقة، وفي جوهرها مخطط الضم، وبين مصير إدارة ترامب في الإنتخابات الرئاسية، لأن «التغير الذي طرأ على سياسة واشنطن حيال الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي لم يكن ظرفياً». وأن تأثير مجيء إدارة جديدة في الولايات المتحدة على منحى الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي يبقى مسقوفاً بمساحة التقاطع الواسعة بين واشنطن وتل أبيب، والعامل الحاسم في إحداث تغيير إيجابي هو خروج الحالة الفلسطينية من أزماتها وحضور دورها كعامل لايمكن تجاوزه في المعادلتين الإقليمية والدولية اللتين تتحكمان بمسار هذا الصراع. ويحذر الكتاب من أن أي رهان على استئناف المفاوضات مع الإحتلال، إنما هو«رهان على الوهم»،ولا يؤدي سوى إلى إرباك الحالة الفلسطينية وإعاقتها عن استجماع مصادر قوتها لمواجهة مخاطر «الصفقة».
لقد أجمعت مكونات الحالة الفلسطينية، بما فيها القيادة الرسمية، على رفض الصفقة، وتعزز هذا الإجماع بعد إعلان شقها السياسي. لكن هذا لم يفتح الباب للانتقال من الرفض إلى المواجهة، ويحيل الكتاب السبب إلى «عدم الإتفاق على برنامج المواجهة السياسية والعملية المباشرة». ويخلص إلى أن مواجهة هذه الخطة وإفشال أهدافها، تعني خوض «معركة فاصلة مع المشروع الصهيوني»، تتطلب استجماع الطاقات الوطنية وتجميعها في مواجهة شاملة.
وفي معرض دعوته لتنفيذ قرارات المؤسسات الوطنية ، يلخِّص الكتاب إستراتيجية المواجهة التي خلصـت إليها الدورة الـ27 للمجلس الوطني الفلسطيني بـ 5 عناوين:1-إعلان إنتهاء المرحلة الإنتقالية التي نصَّت عليها الإتفاقات الموقعة مع الجانب الإسرائيلي، بما انطوت عليه من إلتزامات ؛ 2- تعليق الإعتراف بدولة إسرائيل إلى حين إعترافها بالدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 4 حزيران(يونيو) 67، وإلغاء ضم القدس الشرقية، ووقف الإستيطان؛3- وقف التنسيق الأمني بكل أشكاله؛ 4- التحرر من علاقات التبعية الإقتصادية التي نَصَّ عليها بروتوكول باريس الإقتصادي، ومقاطعة المنتجات الإسرائيلية؛ 5) تبني حركة الـ B.D.S وأهدافها.
* * *
•«صفقة القرن في الميدان» هو الكتاب الرقم 39 من «سلسلة الطريق إلى الإستقلال»،التي يصدرها المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف»، وهو الثالث بخصوص موضوع الصفقة، بعد كتابيِّ«في مواجهة صفقة القرن»،(الرقم 35)،و«صفقة القرن في الميزان»،(الرقم 37)،من السلسلة المذكورة. وبالإضافة إلى الفصلين اللذين تم عرضهما بخصوص الصفقة، يتضمن الكتاب في فصله الثالث دراسة بعنوان «اللاجئون الفلسطينيون في لبنان وسوريا واستهداف حق العودة»، لرئيس «المركز الحمائي» في بيروت، سهيل الناطور، فيما يتضمن الفصل الرابع والأخير بحثاً حول «تاريخ الحركة الشيوعية في فلسطين» للمؤرخ الفلسطيني د. ماهر الشريف.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت