المرأة الفلسطينية بين عنف المجتمع وغياب القانون

خلف الجدران الصماء والأبواب المؤصدة يدفعن النساء المعنفات في قطاع غزة ثمناً باهظاً للثقافة الذكورية والقوانين الرجعية التي سلبت حقوقهن على عتبات القهر الاجتماعي والصراع الفكري والقانوني. فبعض النساء يفضلن الصمت والمكوث في بيت المعنّف والتعايش مع الواقع الأليم لحماية أولادهن، وأخريات يخرجن من وطأة الصمت يبحثن عن حياة جديدة بلا ألمٍ وبكرامة.

وأوضح مسح أجرته وزارة شؤون المرأة على 6 آلاف أسرة في قطاع غزة والضفة الفلسطينية بما فيها القدس المحتلة، أن «العنف النفسي هو الأكثر نسبة حيث بلغت (55%)، يليه العنف الاقتصادي بنسبة (53%) ثم العنف الاجتماعي بنسبة (27%) والعنف اللفظي بنسبة (24%) بالإضافة إلى أن العنف الجسدي الذي ازداد خلال جائحة كورونا، حيث (47%) من النساء لجأن إلى طلب الحماية خلال الجائحة، في ظل استغلال الرجل إغلاق المحاكم وصعوبة الوصول إلى المراكز المختصة.

وأشار الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني عام 2019 في نتائج مسح العنف، إلى أن (76.4%) من النساء المعنفات في قطاع غزة سواء المتزوجات أو اللاتي سبق لهن الزواج تعرضن للعنف النفسي، و(34.8%) للعنف الجسدي، و(14.9%) للعنف الجنسي، و(78.9%) للعنف الاجتماعي، و(88.3%) للعنف الاقتصادي.

وتشير الإحصائيات إلى أن زيادة وتيرة الاعتداءات هو التزام النساء الصمت وعدم تقديم شكاوى لأية جهة والتي بلغت ما نسبته (66%)، فيما تصل نسبة من هاجرن أزواجهن وعادن لبيوت عائلتهن (37%)، أما من توجهن لمراكز نسوية لم تتخط نسبتهن (1.8%).

نساء يروين تعرضهن للعنف

سهام (40عاماً) واحدة من النساء اللواتي يتعرضن بشكل دائم للضرب والإهانة بالألفاظ الجارحة من قبل والدتها وشقيقها، تروي قصتها والدموع بعينيها «حطمتني أمي منذ طفولتي حين كرست حياتها في تقديس أخوتي الذكور، أتذكر وهي تضربني بعنف وعيني تذرف الدموع ليس بسبب الضرب فقد اعتدت عليه، ولكن لفقدان حنان الأم في عينيها، كانت سبباً لانكساري وفشلي والآن تحرض شقيقي على إهانتي واستفزازي أمام الناس، غير التلفظ بأبشع العبارات وأقسى الكلمات التي دمرت كياني ومشاعري، تجرعت كأس المرار والعذاب وأخفيت جروحي بداخلي، مما جعلني أفكر مراراً وتكراراً بالانتحار والخلاص..».

وتروي المعنفة (ف.م) 34 عاماً شريط حياتها الزوجية المؤلمة عن «تجربة مريرة خاضتها مع زوجها سنوات قبل أن تنال حريتها قائلة، «على يديه ذقت أنواعاً مختلفة من العنف والتعذيب الذي كان بدايته السب والقذف بالإساءة والتشهير ثم اعتداءه عليّ وعلى أولادي بالضرب المبرح ما جعل حياتنا الزوجية جحيماً لا يطاق، وهو ما دفعني لطلب الطلاق»»، مضيفةً أن «العنف ضد المرأة امتهاناً لكرامتها وخرقاً لكل المواثيق الدولية والشرائع السماوية، فعلى المرأة المعنفة كسر حاجز الصمت والخوف وتغيير النظرة المجتمعية المترسخة في ذهن المجتمع الذي لا يعتبرها ضحية بقدر ما يعتبرها هي السبب فيما حدث لها».

المرأة «المهجورة» و«المتروكة» و«المهملة»..

مسميات تعد انتهاكاً واضحاً للمرأة وشكل من أشكال العنف النفسي الذي يقع على عاتقها ويمنعها من التمتع بحقوقها، غير العواقب السلبية الجسيمة التي تؤثر عليها نفسياً واجتماعياً واقتصادياً.

تختصر شيرين قصتها المأساوية التي تخلى عنها زوجها بعد «عشرة عمر» 18 سنة، هجرها تاركاً كل شيء وراءه، ترك بيته هرباً من تحمل مسؤولياته تجاه أولاده وضغط الديون المتراكمة عليه، ليضع زوجته المسكينة لمن لا يرحم أو يراعي الظروف، الكل يطرق بابها مطالباً بمستحقاته، موضحة «لا ألومه على زهرة عمري التي أفنيتها من أجله ولا على سنين عذابي وإهانتي، بل ألوم نفسي لتقبلي هذا الوضع المهين، ذقت ألواناً من الذل من أجل أبنائي، هجرنا بدون أسباب، نواجه مصيرنا بلا معيل ولا مصدر رزق».

تروي سهير حكايتها قائلة «ليس من السهل عليّ خوض تجربة الطلاق للمرة الثانية وليس هناك اسوأ من نظرة المجتمع القاسية للمطلقة، لهذا تزوجت رجلاً كبيراً بالسن، وبخيلاً لم أستطع التفاهم معه، يثور لأتفه الأسباب.. أجواء مشحونة بالخلافات التي لا تنتهي غير الضرب والشتائم وعدم الإنفاق». مضيفةً «البؤس والشقاء والعناء أهون من نظرة المجتمع التي لا ترحم، فما يلزمني الآن هو الصبر والتحمل لتربية أبني».

القانون حبر على ورق

من جانبها، أوضحت المحامية سعاد المشني من العيادة القانونية في الجمعية الوطنية للديمقراطية والقانون أن «ظاهرة العنف ضد المرأة تشكل مؤشراً خطيراً في مجتمعنا الفلسطيني، حيث زاد انتشاره لتعدد العوامل والضغوطات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، فأصبحت النساء المعنفات رهينة قوانين وتشريعات غير منصفة بحاجة لتعديل، فمنهن من يفضلن الصمت حيال العنف الذي يمارس بحقهن نتيجة عدم ثقتهن بمنظومة العدالة، وعدد قليل منهن يمتلكن الشجاعة للتقدم بشكوى أو طلب المساعدة من المؤسسات المعنية».

وأشارت المشني إلى أن تهميشاً قانونياً بعدم وجود أحكام خاصة تنظم حالة النساء المهجورات والمتروكات في قانون الأحوال الشخصية، وذلك بمنحهن وثيقة تثبت حالة الهجر بمعزل عن طلب التفريق لغايات تمكينهن من التعامل مع المؤسسات الرسمية وتضمن تيسير حصولهن على الصفة القانونية بصفتهن الممثل الشرعي والقانوني لأطفالها دون أن تكون مضطرة للجوء لطلب التفريق للهجر».

إقرار قانون حماية الأسرة

وأكدت المشني أهمية تضافر الجهود لإقرار قانون حماية الأسرة من العنف لتحقيق الاستقرار والأمن الاجتماعي الأسري، والضغط على صناع القرار ومناصرتها في وسائل الاعلام بمختلف توجهاتها وتصنيفاتها كعمل تكاملي تشترك كافة الجهات في تبنيه والدفع به.

وبدوره، أفاد الدكتور عبد الله الجمل استشاري الطب النفسي أن العنف ضد المرأة يسبب أثاراً خطيرة لا تقتصر على المرأة فقط بل تمتد لتشمل أسرتها المحيطة والمجتمع. مبيناً أبرز الآثار المترتبة على العنف ضد المرأة والتي تسبب لها مشاكل مثل الاكتئاب الحاد والاضطراب النفسي والتي قد تدفعها نحو الانتحار.
وأشار الجمل إلى أن العنف الذي تتعرض له المرأة غير مبرر ولا يندرج تحت مفهوم المشاكل الأسرية. داعياً لتكثيف الجهود مع المؤسسات النسوية ومؤسسات المجتمع المدني للاستمرار في برامجها المناهضة للعنف ضد النساء.

من جهتها، قالت الأستاذة هنادي سكيك عضو مجلس إدارة جمعية فتيات الغد الفلسطينية ومناصرة لقضايا المرأة والعدالة، «لعبنا دوراً هاماً وفاعلاً في حماية ورعاية النساء المعنفات وتوفير البيئة الآمنة لهن عن طريق التواصل مع بيوت الإيواء، إن كانت هناك خطورة حقيقية على حياتهن لحين تمكينهم وإعادة دمجهن بالعائلة والمجتمع، ومن الخدمات الأخرى تقديم الاستشارات القانونية للمعنفات وتوعيتهن وتقويتهن للمطالبة بحقهن وحقوقهن المسلوبة ودعمهن نفسياً والعمل على تكاتف جميع الجهود لعودتهن للحالة الطبيعية».

ودعت سكيك لتوحيد آليات التدخل مع جميع الجهات وأصحاب القرار من عدة وزارات حكومية وخاصة التنمية الاجتماعية والصحة والتربية والتعليم والداخلية ووزارة العدل، للخروج بمسارات موحدة لنصرة قضايا المرأة، بالتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني لتحقيق التكامل وعدم الازدواجية في تقديم الخدمة وعدم تشتيتها وإرهاق النساء بذلك.

فيما أطلقت مراكز البرامج والمؤسسات والاتحادات والجمعيات النسوية عدة حملات بأماكن متفرقة في قطاع غزة وعبر الوسائل الإعلامية ومنصات التواصل الاجتماعي تحت عنوان «حملة الـ16 يوماً لمناهضة العنف ضد المرأة والضغط لتعديل قانون الأحوال الشخصية وإقرار قانون حماية الأسرة وتسليط الضوء على معاناة النساء المعنفات في المجتمع الفلسطيني، ونقل قضاياهن للمجتمع والمسؤولين والرأي العام لوضع حلول وإصلاح للقوانين بما يخدم المرأة والمجتمع».

قصص كثيرة عن تعنيف المرأة وظلمها مخبئة بين جدران البيوت ومتوارية بالأنين، صرخات ما بين الألم والقهر ولكن هناك من يقرع الاجراس من الناشطات والمناصرات لمناهضة العنف ضد المرأة، لذلك يتوجب علينا إقرار قانون حماية الأسرة من العنف وإصداره كأحد العناصر الأساسية للمنظومة القانونية لحماية المرأة من العنف وتطوير آليات العمل مع الضحايا الناجيات بزيادة عدد مراكز الإيواء والخدمات المقدمة من المؤسسات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني ورفع مستوى الحماية لهن إضافة للعمل على تمكينهن اقتصادياً لتوسيع اندماجهن في المجتمع .