عقدَ مركز مدى الكرمل– المركز العربيّ للدراسات الاجتماعيّة التطبيقيّة، ندوة فكريّة لمناقشة كتابين للد. عزمي بشارة: "في الإجابة عن سؤال ما هي الشعبويّة" وَ "الانتقال الديمقراطيّ وإشكاليّاته"، هذه هي الندوة الأولى من سلسلة محاضرات "ثورات الأمل الذي لن يندثر" التي أطلقها مدى الكرمل بمناسبة مرور عقد على اندلاع الثورات العربيّة من أجل الحرّيّة والديمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة، والتي سيستضيف من خلالها المركز باحثين فلسطينيّين كتبوا عن الثورات العربيّة. ناقشت الندوة فشل وتعثّر معظم دول الربيع العربيّ في التحوّل من أنظمة عسكريّة أو تسلّطيّة إلى أنظمة ديمقراطيّة. وقد افتتحت الندوة د. عرين هوّاري، باحثة ومنسّقة برنامج دعم طلبة الدراسات العليا في مدى الكرمل؛ بكلمة ترحيبيّة هدفت الى تأطير سلسلة المحاضرات والندوة وتبيين أهمّيّة طرح هذا الموضوع.
قَدّمَ د. مهنّد مصطفى، المدير العام لمدى الكرمل؛ القراءة الأولى في كتاب "الانتقال الديمقراطيّ وإشكالاته". يقولُ مصطفى أنّ الكتاب يُعتبر جزءً من مشاريع معرفيّة للكاتب، تُحاول أن تؤسس معرفة عربيّة في العلوم الاجتماعيّة؛ وأنّ قراءة الكاتب للأدبيّات حول الانتقال الديمقراطيّ، التنظير ومقارباته لهذا الحقل نابعة من تجربة الثورات العربيّة بنجاحاتها وتعثّراتها، أو إخفاقاتها.
عَرَضَ مصطفى للإضافة المعرفيّة والنظريّة للكاتب في الحقل المعرفيّ المسمّى الانتقال الديمقراطيّ؛ فالكتاب يرتّب الحقل المعرفيّ، يستعرض جُلّ الأدبيّات حول الانتقال الديمقراطيّ، يُناقشها ومن ثمّ يعرض مساهمته المعرفيَّة في هذا الحقل؛ بصورة تفتح باب البحث والدراسة من خلال الأفكار التي طرحها في كتابه. ويقولُ مصطفى أنّه يمكن استنباط عدّة مقولات هامّة من كتاب بشارة: المقولة الأولى، أنّ كلّ المحاولات لبناء نظريّات حول الانتقال الديمقراطيّ أخفقت لأنّها كانت صحيحة لحالات عينيّة فقط؛ المقولة الثانية، أنّ المشروع الديمقراطيّ هو هدف وليس حتميّة تاريخيّة (أيّ العالم لا يتطوّر نحو الديمقراطيّة)؛ المقولة الثالثة، أدبيّات الانتقال الديمقراطي ركّزت على شروط النظام الديمقراطيّ وأهملت طبيعة النظام السلطويّ وقدرته على صدّ عمليّة الانتقال نحو الديمقراطيّة.
الإضافة المعرفيّة للد. عزمي بشارة في قراءته لكلّ أدبيّات الانتقال الديمقراطيّ هي الإشارة لثلاث شروط أساسيّة لعمليّة الانتقال الديمقراطيّ: أوّلًا، وجود نخبة سياسيّة ديمقراطيّة؛ ثانيًا، دور الجيش هامّ في إعاقة أو تشجيع التحوّل الديمقراطيّ؛ ثالثًا، الموقع الجيو استراتيجيّ وأهمّيّة الدولة. بالإضافة إلى أنّ الكتاب يمثّل موسوعة تحتوي على مقاربات تحليليّة تُغني كلّ باحث وكلّ مهتمّ بهذا الشأن؛ مثل نقده لنظريّة التحديث، فيه يوضّح أنّها لا تشكّل شرطًا لعمليّة الانتقال الديمقراطيّ ولكنّها شرط لاستدامة الديمقراطيّة؛ ومثل مناقشته للنظريّة الماركسيّة وفكرة الانتقال نحو الديمقراطيّة؛ وعرضه لمقاربة نقديّة مهمّة جدًّا للنظرية البنيويّة الوظيفيّة والنظريّة المؤسساتيّة. ويختم مصطفى بقوله أنّ "هذا الكتاب هو فارقة معرفيّة في دراسة الانتقال الديمقراطيّ عمومًا، وفي المنطقة العربيّة خصوصًا".
قدّم القراءة الثانية الباحث خالد عنتباوي، طالب دكتوراه في معهد جنيف للدراسات العليا في سويسرا؛ لكتاب "في الإجابة عن سؤال ما هي الشعبويّة". يقولُ عنبتاوي أنّ بشارة ينطلق من فكرة تبلور مفهوم الشعبويّة داخل الديمقراطيّات الليبراليّة، إلّا أنّه لا يعتقد بإمكانيّة التحدّث عن شعبويّة عالميّة واحدة؛ ويبيّن أنّ ما تتميّز الديمقراطيّات الليبراليّة به، هو تعاملها مع الشعب باعتباره كتلة واحدة متجانسة من النقاء والخير، مقابل النخبة التي تعتبر كتلة من الفساد. ويوضّح عنبتاوي أنّ هذا الفهم الجوهرانيّ للشعب يصطدم بالضرورة مع الديمقراطيّة الليبراليّة لاصطدامه مع فكرة التعدّديّة. من هذا المنظور، يُموضع بشارة نفسه في المدرسة الليبراليّة لنقد الشعبويّة، وهو ينحاز إلى الديمقراطيّة الليبراليّة بشكل واضح، وينفي عدم وجود ديمقراطيّة إلّا إذا كانت ديمقراطيّة ليبراليّة. يبيّن عنبتاوي أنّ هذا النوع من التعريفات للديمقراطيّة يخلق ثلاثة أنواع مركزيّة من التوتّرات الدائمة: الأوّل؛ بين البعد الديمقراطيّ والبعد الليبراليّ. الثاني؛ بين حكم الشعب وضرورة تمثيل حكم الشعب بمؤسسات وبرلمانات. والثالث؛ بين تمثيل إرادة الشعب ووجود مؤسسات بيروقراطيّة قد تقبض في يدها على السلطة والقرار.
ينتقل عنبتاوي للحديث عن إنتاج الشعبويّة في ظلّ هذه التوترات ويشير إلى أسباب ظهورها الاجتماعيّة، البنيويّة، الاقتصاديّة والسياسيّة. إلّا أنّه يركّز على سببين: الأوّل، صعود النيوليبراليّة وتوغّل الرأسماليّة وانكسار العقد التاريخيّ الذي يدمج بين العدالة الاجتماعيّة وبين الحرّيّة؛ وهو ما تسمّيه شانتال موف هيمنة النيوليبراليّة. ويطرح عنبتاوي لمقارنة بين فكر موف وفكر بشارة في هذا الصدد؛ من خلال مفهوم الما بعد سياسة. والثاني، دور الإعلام الاجتماعيّ المتحرّر من سلطة ورقابة المحرّر في الإعلام الممؤسس؛ في حشد الناس من خلال الأخبار الزائفة، وإلغاء وساطة الحزب بين السياسيّ والشعب.
وختمَ عنبتاوي من خلال تسليط الضوء على الشعبويّة في سياق العالم العربيّ والانتقال الديمقراطيّ، ويكشف أنّ هنالك إشكاليّتين في العالم العربيّ؛ واللتين تجعلان من الشعبويّة فيه خطيرة وهدّامة: أوّلًا، أنّ الانتقال الديمقراطيّ في العالم العربيّ لم يتمّ عبر مرحلة لبرلة المجتمع. ثانيًا؛ عدم قدرة الشعب على التمييز بين الموقف من الحكومة المنتخبة والموقف من النظام الديمقراطيّ أثناء الانتقال الديمقراطيّ.
يعتزم مركز مدى الكرمل على نشر المزيد من المحاضرات في سلسلة "ثورات الأمل الذي لن يندثر" على مدار الأشهر القريبة القادمة؛ خاصّة بعد النجاح الذي لاقته الندوة الحاليّة في حشد أكثر من ألفي مشاهدة في أقل من 24 ساعة، والمشاركة الفاعلة لجمهور مدى الكرمل على صفحات مواقع التواصل الاجتماعيّ.