- عمر حلمي الغول
تجارب الحركات والفصائل والاحزاب السياسية تحمل في طياتها الغث والسمين، الإيجابي والسلبي، النواقص والإبداعات. ولا يمكن لإي من تجاربها الصعود والتقدم دون خيبات ونكسات وهنات وتراجع وآلام. لإن كل منها يمثل ظاهرة بحد ذاتها، لها وعليها، تصيب وتخطىء، تتقدم وتراوح وتنكفىء. والمؤكد تلعب القيادات التاريخية المؤسسة دورا مركزيا في تحديد ميزات وسمات هذا المكون أو ذاك. وبالتالي بمقدار ما تتمكن قيادة قوة سياسية في بلد ما من إلتقاط الحلقات السياسية والإجتماعية والإقتصادية والكفاحية، وتبدع في إدارة معاركها مع الخصوم والأعداء، بقدر ما تتمكن من تبوأ المكانة التي تليق بها.
حركة فتح نجحت قيادتها في إمتلاك ناصية الإبداع والمبادرة مع تجاوزها سقف النظام السياسي العربي، والقوى والحركات والأحزاب الفلسطينية اواسط الستينات عندما أطلقت الرصاصة الأولى، وأعلنت عن إنطلاقة شرارة الثورة المعاصرة. كما وتميزت الحركة برفض تحديد هوية ايديولوجية (فكرية) لإطارها التنظيمي، ورفعت راية الايدولوجية الوطنية، وركزت جهودها على الحلقة المركزية الأهم في الكفاح التحرري الوطني، وهي إعادة الإعتبار لمكانة وهوية الشعب العربي الفلسطيني وقضيته المركزية سياسيا، التي سعى طغاة العصر ومشروعهم الصهيوني نفيها، وتركها عارية كقضية إنسانية بعد ان تآمر معهم اشقاء من النظام الرسمي العربي، ثم رفعها لواء وشعلة الكفاح المسلح كوسيلة، والأداة الرئيسية للنضال الوطني، بالإرتباط مع الوسائل الكفاحية الأخرى لتحقيق الأهداف السياسية للشعب، وتجلت قدرتها وابداعاتها في السيطرة على منظمة التحرير، الممثل الشرعي والوحيد، المؤسسة، التي اوجدها النظام الرسمي العربي عام 1964، فهي من جهة تمردت على سقف واجندة النظام السياسي، ومن جهة أخرى لم تدر الظهر له، وتعاملت مع مكوناته برؤية براغماتية عالية جدا، تفوقت فيها على كل فصائل المنظمة بتموجاتها وخلفياتها الفكرية والسياسية والكفاحية.
كانت النتيجة المنطقية والعبقرية، انها وقفت على رأس حركة التحرر الوطني الفلسطينية رغما عن الفصائل وبرضاها، لإنها فرضت ذاتها ومنطقها قبل ان تمتلك المال والقرار السياسي، بقدرتها التكتيكية الإبداعية في التعامل مع مؤسسات النظام الرسمي العربي بمختلف تلاوينه المحافظة والتقدمية وما بينهما، ومع كل المنظومة الإقليمية والدولية.
هذة الفتح كانت ومازالت تنظيم واحد، بقيادة ورأس واحدة، وباهداف واحدة كقوة وكوحدة تنظيمية مستقلة. ولم تقل يوما قيادة حركة فتح، انها بديل عن فصائل واحزاب الحركة الوطنية، ولم تلغِ اي منها، وتعاملت مع مكونات الساحة على ارضية الوحدة والإختلاف، التضاد والصراع والتكامل، ورفضت بالمقابل تجاوزها، أو القفز عنها، وعن مكانتها كعمود فقري في الساحة، ودافعت كحركة واحدة عن الذات الفتحاوية، ولم تقل يوما ان فتح بديل عن منظمة التحرير، وانها الجبهة الوطنية العريضة النقيضة للإطار الجامع والممثل الوحيد للشعب الفلسطيني، وتمثلت في الهيئات والمؤسسات الوطنية بقرار من اللجنة المركزية، وشاركت في المجالس الوطنية بقوام واحد، وليس بحسابات ضيقة، وأعطت المستقلين دورا رئيسيا، ولكن وفق منظومتها هي، وتكتيكاتها هي، التي تخدم إمساكها برأس منظمة التحرير، ودافعت عن مكانتها وريادتها بصلابة لا تلين.
من المؤكد ان مرحلة الثورة الفلسطينية قبل إقامة السلطة الوطنية لها سماتها وخصالها الخاصة. وبعد إقامة الكيانية الفلسطينية عام 1994 إختلفت خصائص العملية الوطنية، وإن إستمرت عملية التلازم بين اشكال النضال الشعبي والسياسي والديبلوماسي والتنموي البنائي، ومع تشكيل مؤسساتها التشريعية بدأت عملية ديمقراطية جديدة تجاوزت ديمقراطية غابة البنادق السابقة، وبات كل من يرغب المشاركة فيها يقوم بترشيح قوائمه إن كانت قوائم خاصة او مشتركة، أو إن كانت مناطقية او مختلطة او قائمة نسبية واحدة. وكل حركة او فصيل يختار قائمته وفق معاييره التنظيمية الخاصة، ولم يترك اي فصيل او حزب الباب على الغارب ليترشح كل من هب ودب من محازبيه، ووفق حسابات خاصة، وتحت يافطة "الديمقراطية"، هذة ليست ديمقراطية، هذة هي الفوضى والتطاول على وحدة ومركزية القرار التنظيمي، ومن له وجهة نظر فليطرحها في الأطر الداخلية لا خارجها، وتصفية الحسابات تتم في المنصات والمؤتمرات الحزبية او الحركية لا خارجها، وكل من يدعي عكس ذلك، لا يدرك الف باء الديمقراطية لا الداخلية الحزبية ولا الوطنية.
نعم فتح الرائدة حققت إنجازات هامة ومركزية في النضال الوطني، رغم ذلك اخفقت في معارك ومواقف متعددة، لكنها بقيت ممسكة بزمام الأمور في الساحة الوطنية. اصيبت بشيء من الترهل في بعض مفاصلها، وتعاني من ازمة عميقة، نعم. ولكنها لم تصب بالخرف، ولم ينضب دورها، رغم التراجع النسبي في مسيرتها. تكالبت عليها قوى من داخلها وخارجها، بالتأكيد، غير انها مازالت واقفة على قدميها تواجه التحديات. تجربة السلطة في ال27 سنة الماضية أوجدت فسادً في بعض مساراتها، نعم. لكن الكف النظيفة والوطنية بقيت الأعلى والأقوى.
النتيجة المسؤولة والواقعية ولمصلحة حركة فتح والشعب والقضية، هي حماية الذات الفتحاوية متماسكة، بعيدا عن التشظي، والإلتزام بقرارات الهيئات المركزية بغض النظر ان قبلتم بها، او لم تقبلوا. ومن يريد الإصلاح ليناضل من الداخل الفتحاوي، وعبر الأطر التنظيمية لا من خارجها، اما الثرثرات السطحية والساذجة عن الديمقراطية، لم تعد تجدي نفعا، وكل من يشد على يد اي عضو من فتح يريد ويسعى للتمرد على قائمتها المركزية ان كانت خاصة او عامة، يكون متورطا بالإساءة للحركة وقيادتها وتاريخها، وشريكا مع القوى الهادفة لتمزيق وحدة وأداة الحركة بغض النظر عن اسمه ولقبه وموقعه وخلفياته.
[email protected]
[email protected]
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت