- د. دانييلا القرعان
تزدحم القصص في المدينة المحتلة فوق الأرض وأسفلها، ومن القصص التي تأبى مغادرة ذاكرة المسنين المقدسيين رغم دفن أبطالها منذ عقود، هي شجاعة واستبسال الجنود الأردنيين في دفاعهم عن الأرض في حربي عام 1948 و1967 رغم تلقيهم الأوامر بالانسحاب، وقصص الاستبسال التي تلاها استشهاد 364 جنديا أردنيا في حرب عام 1948 و587 في حرب عام 1967 تركت أثرا خاصا في نفوس من شارك في البحث عن جثث الجنود وبادر إلى مواراتهم الثرى.
طوبى لهم هؤلاء الذين ظاهروا على الحق، وجاهدوا على أسوار القدس وأكناف بيت المقدس، طوبى لهم أهلنا فقد خرجوا من بيوتهم قاصدين الشهادة في أرض الرباط التي بارك الله فيها وحولها، استظلوا رايات الجيش العربي المصطفوي، وسجلوا في تاريخ هذه الأمة فصولا من الضياء والغضب الساطع، منهم من فاز بالشهادة ومنهم من ينتظر ويحدثنا اليوم عن رحلته تلك الى الجنة.
لقد كان تاريخنا الذي نعتز به معبّدا بالشهادة منذ البدايات في سعينا نحو الحرية والاستقلال، اننا لن ننسى شهدائنا الذين قضوا على أسوار القدس وفي باب الواد واللطرون والجولان، فمن منا ينسى شهيد الأقصى المغفور له الملك عبد الله الأول والشهداء مفلح الكايد العبيدات ووصفي التل وإبراهيم هاشم وهزاع المجالي والكثير من شهدائنا الابرار الذين قدموا ارواحهم فدى القدس الشريف، ولأن سجل جيشنا الأردني العربي المصطفوي واجهزتنا الأمنية حافل بالبطولات ومسطر بالتضحيات وبأسمى معاني الفداء سيبقى هذا السجل الناصع البياض المرصع بالنقاء والبهاء والكبرياء عنوان شرف لنا ولأمتنا وللإنسانية جمعاء، فالأردنيين تربوا على التضحية وارخصوا دمائهم الزكية من أجل رفعة وطنهم والحفاظ على ترابه الطهور فقدموا كواكب الشهداء، فكانت مسيرتهم مطرزة بالعز على الدوام.
ليس من دم يمتزج تاريخيا كدم الأردنيين والفلسطينيين، إنها علاقة موقعة بالدم في الأرض والسماء، موقعة على أسوار القدس وجبال اللطرون وباب الواد، في سهول جنين وأغوار أريحا وجبال نابلس والخليل علاقة وحدها نهر الأردن ودم الشهداء لن يفرقها بشر، لقد علمنا أجدادنا بإن دماء الشهداء هي التي ترسم حدود الوطن وفلسطين، جزء منا ومن عقيدة الأردنيين الدينية والسياسية والاجتماعية الى يوم الدين.
أجل أنهم رجال أردنيون دكوا بنعالهم مستوطنات ومستعمرات الغزاة، وجثت قيادات الطغاة عند نعالهم أسرى، ووقعوا صكوك الاستسلام لهؤلاء الابطال الغر الميامين، وقد اعترفت ببطولاتهم أعرق الاكاديميات العسكرية فدرست بطولاتهم في مدارس قياداتها الكبرى، واعترف بهم العدو قبل الصديق، فنصب لبطولاتهم النصب التذكارية وكتب عليها هنا قاتل جنود ومناضلون اردنيون ببسالة. ولم تتوقف التضحيات الأردنية مع توقف القتال بل استمرت الى يومنا هذا، وصفحات التاريخ المنسية يتداولها الآباء والاجداد في مجالس السمر ومجالس الشتاء القارس.
كان تراب القدس عطش لدماء الشهداء والسماء مشرعة أبوابها استعدادا لاستقبال أرواحهم، وكان الشهيد الجندي رقم عسكري 5683 محمد حسين عبد الوالي من أبناء قبيلة بني حسن الأشاوس أول شهيد في الجيش العربي يسقط على أسوار القدس وتزفه الملائكة الى السماء وسط زغاريد المقاتلين وتكبيراتهم لينضم الى رفاقه ممن سبقوه من قوافل شهداء جيوش صلاح الدين وخالد بن الوليد الذين ضحوا في سبيل القدس.
رحم الله شهداءنا الأبرار الذين قاتلوا ببسالة واستشهدوا في فلسطين، وعلى أسوار القدس، والذين رووا بدمائهم الزكية ثراها الطاهر وخلدوا بطولاتهم في ذاكرة التاريخ لتنير للأجيال القادمة طريق البطولة والتضحية والفداء.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت