- نهاد أبو غوش
انتهت هذه الموجة الأخيرة من المواجهات بين الشبان المقدسيين المنتفضين وسلطات الاحتلال الإسرائيلي، أو ما عرف ب"هبة رمضان" و"انتفاضة باب العامود" بانتصار فلسطيني صغير في جانبه العملياتي، ولكنه يمكن أن يكون كبيرا وذا دلالة حاسمة إذا ما أحسن استثماره في هذا التوقيت الحرج.
الإنجاز الملموس بكل بساطة هو إزالة الحواجز المعدنية التي وضعها الجيش الإسرائيلي في ساحة باب العامود، أو "باب دمشق" كما يقال له باللغات الأوروبية، أهم مداخل المدينة المقدسة وأكثرها شهرة وحيوية، لمنع تجمع الشبان المقدسيين في أمسيات رمضان جريا على عاداتهم المتوارثة منذ سنوات طويلة، لإحياء ليالي الشهر الفضيل ببعض الطقوس والعروض الشعبية، وهذه الإشارة الرمزية هي دلالة على الجهة التي تملك السيادة الفعلية على الأرض في مدينة القدس المحتلة.
تواصلت الأحداث والمواجهات على امتداد النصف الأول من شهررمضان، وكادت تشعل الأراضي الفلسطينية المحتلة بأسرها، استمرارا لنماذج مشابهة من الهبات الشعبية المحلية، أي التي انحصرت أحداثها داخل مدينة القدس وتحديدا في البلدة القديمة من المدينة، وكان أبرزها ما عرف بمعركة البوابات الأليكترونية في تموز /يوليو 2017، ومعركة باب الرحمة في شباط / فبراير 2019، وكانت جميعها ذات طابع عفوي، ومن دون قيادات واضحة، وقد نشأت وتطورت خارج إطار الحركة الوطنية الفلسطينية وفصائلها التقليدية.
لكن الهبة الأخيرة كانت ذات ميزات استثنائية، فهي جاءت بعد قرار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل سفارة بلاده إليها وما تلا هذه الخطوات من سعار إسرائيل محموم لتغيير طابع المدينة، والتسريع في خطوات تهويدها، ومحاربة أي مظهر من مظاهر الوجود السياسي الفلسطيني فيها. يكفي للتدليل على ذلك الإشارة لاعتقال عدنان غيث محافظ القدس المعيّن من قبل السلطة الفلسطينية 25 مرة خلال الأعوام الثلاثة الماضية، وكذلك اعتقال الوزير الفلسطيني لشؤون القدس فادي الهدمي، ومنع اي نشاط علني ذي طابع فلسطيني بما في ذلك إغلاق المؤسسات الفلسطينية كافة، ومنع النشاطات الاجتماعية والرياضية والثقافية كاقتحام مجالس العزاء وفضّها بالقوة، ومنع الإفطارات الجماعية في رمضان، وحظر إقامة بطولات رياضية برعاية المرجعيات الرياضية الفلسطينية، ومنع تنظيم فعاليات أهلية تطوعية للتوعية بشأن جائحة الكورونا.
كما جاءت الأحداث وسط احتدام الجدل الفلسطيني الداخلي بشأن إجراء انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني في موعدها المقرر في 22 أيار/ مايو المقبل، أو تأجيلها بسبب عدم استجابة إسرائيل حتى الآن للطلب الفلسطيني بإجراء الانتخابات، ورفعت جميع القوى السياسية الفلسطينية شعار "لا انتخابات من دون القدس" ولكنها تباينت في كيفية ترجمة الشعار، بين داع لخوض معركة شاملة لانتزاع حق المقدسيين في المشاركة في الانتخابات، وفرض هذا الحق عمليا عبر نشر صناديق اقتراع رمزية، وبين من يكتفي بانتظار الاستجابة الإسرائيلية للطلب، وتفعيل بعض الضغوط الدولية على سلطات الاحتلال، وصولا لاستخدام القدس ذريعة لتأجيل الانتخابات أو إلغائها كليا.
الجدير بالذكر أن اتفاق أوسلو وملحقاته وضع ترتيبات خاصة لمشاركة الفلسطينيين في الانتخابات، من خلال مشاركة عدد قليل منهم (نحو 6300) عبر صناديق البريد، وباقي المواطنين اي أكثر من 150 ألفا من خلال مراكز الانتخاب الفلسطينية المنشرة خارج حدود المدينة.
إذن هو موضوع السيادة على مدينة القدس، وتحديدا على شطرها الشرقي المحتل في حرب حزيران 1967، ما يثير كل هذا الصراع ويؤججه في المحطات المختلفة، سواء عبر المواجهات السياسية والقانونية، أو من خلال الصدامات الميدانية العنيفة والتي كانت القدس ومسجدها الأقصى بشكل خاص الحلبة الرئيسية التي انطلقت منها كثير من الهبات والانتفاضات والمعارك الطويلة، ثم عمّت جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وكشفت عفوية التحركات الجماهيرية في القدس، وغياب قيادة واضحة لها، اتساع وعمق الفجوة بين الحراك الشبابي الفاعل على الأرض والقيادات السياسية المتركزة في رام الله والتي اكتفت بإطلاق النداءات والبيانات، لكنها كانت أبعد ما تكون عن التأثير في مجرى الأحداث. ويمكن تعميم هذا الحكم على كثير من الحراكات والنشاطات الوطنية والاجتماعية التي جرت في الأراضي الفلسطينية المحتلة خلال السنوات السابقة بما في ذلك حراكات المعلمين والمحامين المطلبية، والحركات ذات الطابع السياسي المباشر مثل "ارفعوا العقوبات عن غزة" في الضفة، وحراك "بدنا نعيش" في قطاع غزة.
ومن نافل القول أن آخر ما فكر فيه الشباب المنتفض في القدس هو المشاركة أو عدم المشاركة في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، أو ان تكون هذه القضية هي محرك الهبة الأخيرة. فالأسباب المباشرة الداعية للانفجار أكثر من أن تحصى، وهي تمثل ترجمات يومية لسياسات تطهير عرقي وتمييز عنصري للسكان الفلسطينيين، وتشمل جميع مجالات الحياة في القدس، من الاستفزازات اليومية التي يقوم بها جنود الاحتلال للشبان في القدس وتوقيفهم الاعتباطي وتفتيشهم واحتجازهم لأصغر الأسباب، ومختلف أشكال التسلط والمضايقات على الحياة التجارية وفرض الضرائب الباهظة، ومنع تراخيص البناء، وهدم البيوت والمنشآت، وعمليات الدهم والاقتحام للأحياء والمنازل، والهجمة على مؤسسات التعليم، والاقتحامات المتكررة للأماكن المقدسة وخاصة للمسجد الأقصى ومحاولات حكومة الاحتلال فرض تقسيم زماني ومكاني جديد بدل الوضع القائم منذ مئات السنين. فضلا عن الدعم الأمني والقانوني الذي تحظى به الجماعات الاستيطانية واليمينية المتطرفة من قبل حكومة الاحتلال، سواء كانت جمعيات متخصصة في الاستيطان والاستيلاء على المنازل الفلسطينية مثل جمعيتي(إلعاد) و(عطيرت كوهانيم"، أو مجموعات من غلاة المتدينين المتطرفين التي لا تخفي نيتها في هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل اليهودي مكانه مثل جماعة أمناء جبل الهيكل، وكذلك الجمعيات المنبثقة عن مجموعات سياسية عنصرية تتبنى العنف مثل جماعة (لهافا) التي بادرت إلى تصعيد المواجهات الأخيرة ضد المواطنين الفلسطينيين في القدس.
الحكومة الإسرائيلية التي بادرت إلى التراجع ونزع الحواجز المعدنية تعاملت مع الأحداث الأخيرة بدرجة عالية من ضبط النفس بحيث امتنعت عن استخدام الأسلحة النارية الحية، خشية امتداد لهيب الأحداث بسرعة إلى سائر المناطق الفلسطينية، وهو تراجع لا يمكن فهمه إلا بوصفه تراجعا تكتيكيا مؤقتا في ضوء النيات المعلنة لتهويد المدينة وفصلها عن محيطها الفلسطيني، وتقليص نسبة الفلسطينيين من مجمل سكان القدس من نحو 38 في المائة حاليا إلى ما دون 15 في المائة، عبر إخراج أحياء سكانية فلسطينية بأكملها من حدود البلدية وضم تجمعات استيطانية محيطة. وفي المقابل سجل الفلسطينيون انتصارا مهما، لكنه انتصار يمكن أن يتبدد في حال بقاء الطابع العفوي والموسمي لهذه التحركات وعزلتها عن الحركة السياسية الفلسطينية المنظمة، وعلى العكس من ذلك يمكن له أن يترسخ ويثمر منجزات سياسية في حال تطوير الحركة الوطنية الفلسطينية لأدوات تعاملها مع القدس ومواطنيها، وانتقالها من لغة النداءات والتعميمات إلى حالة الانخراط الفعلي في هذه المعركة وتوفير استحقاقاتها على جميع المستويات.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت