- المتوكل طه
***
نارٌ على حَجَرِ النّبيِّ،
وشهقةٌ من سورةِ الإسراءِ في بال المدينةِ،
وابتهالُ التينِ والزيتونِ في جبلِ المكبّرِ
والفضاءُ على ضياءِ السّورِ يعلو بالفضاء.
القدسُ أرضُ اللّهِ،
بيتُ الشمسِ،
ترتيلُ النجومِ،
وما تهامى من كلامِ الأنبياء.
والقدسُ طفلتُنا التي قصّوا جدائلَها
بأسئلةِ الضغائنِ والمكائدِ والحروبْ،
هُمْ غيَّروا ذَهبَ الشروقِ على مآذنِها،
فأدركها الغروبْ،
هُمْ هجّروا أطيارَها، من بَعْد أن هدّوا منابرَها
فَتاهت في الدروبْ،
هم غرَّبوها عن مطالعِ قلبِها النبويِّ ساقوها إلى حضنِ الذي اغتصبَ الزنابقَ والهواء.
هيَ ذي تكابرُ تستريبُ وتستفيقُ على
أقانيمِ العماءْ.
***
هذي ليستِ القدسَ التي رفَّتْ
على أيقونةِ القسيسِ والشيخِ المجاورِ!
إنها حدْسُ الأماكنِ والأمومةِ والسَّرائِرِ؛
حيث يَسْكنُ رَبُّها السّريُّ؛
إنْ كانتْ يكُنْ
وإذا أتت يأتي..
وإنْ شاءت.. يشاءْ .
ها أنتِ وحْدَكِ
فوقَ جُثَّتِكِ الُممَزَّعةِ الرضيّةِ
بين جدرانِ الغُراب،
ودونَ أُمَّتِكِ الذليلةِ في العراءْ.
فالشكرُ كلُّ الشكرِ للحفّارِ
والحانوتِ والتابوتِ والقُطنِ المنُقّى والغطاءْ،
والشكرُ كلُّ الشكرِ للأُممِ التي حملتْ جنازتَها،
ولم تبخلْ علينا بالرثاءْ،
شُكراً لأُمّتِنا على هذا الغيابِ
وألفُ شكرٍ للسلامِ وللتفاوضِ
والذّهابِ إلى الهَباءْ.
***
ويقول مجنونٌ يبيعُ الريحَ:
لم ألقَ المدينةَ في المدينةِ،
سافَرَتْ في الناي،
أو في لُعبةِ التاريخِ، كُنّا
إنْ عشقنا لم نَنَم،
وإذا دخلنا النارَ نِمْنا،
والهزيعُ بنفسجُ القُطْنِ الوثيرِ،
وإنْ صَحَوْنا لم يعد في الدَّنِّ روحٌ،
كلُّ ما في الأمرِ؛
أن العمرَ بيتٌ من صغارٍ يلعبون،
ونسوةٌ تغلي حليبَ الليلِ
في العيدِ الكبير،
وعندما جاؤوا انكسرنا
مثلَ مئذنةٍ، وما عُدنا نرى
في قطعةِ الحلوى المرارةَ والرضا،
كُنّا ننامُ كما تنامُ الدارُ،
أو نبكي كما يبكي الجدارُ،
وتضحك الطرقاتُ فينا أو علينا،
إنّما كُنّا هنا،
مثلَ الجبالِ، على ذراعيها الدروبُ،
وعندَ غُرَّتها الغروبُ،
وفوقَها تاجُ الصنوبرِ والطيورِ،
وفي حواشيها البراكينُ الدماءُ،
وهذا ما بدا، وله نعودُ غداً، لنبدأ
من جديدٍ في السؤال: متى
تُحرّرُنا البيوتُ
من الشهادةِ والجنازةِ والرثاء؟
ومَنْ سيفضحُ سرَّنا الغاوي
على حجر المساء،
وكيف نسرق حَبّةَ النهدين
من ثوبِ النداء،
وأين نزرعُ شمعةَ الدوريِّ
إنْ ضاق الفضاء،
وما الذي يبقى هنا
إنْ غاب مجنونُ الرياحِ
عن الشبابيكِ الهواء؟
***
القدس أبوابٌ إلى كلّ الجهاتِ السَّتِ،
نافذتي الأخيرةُ للبهاء،
وللملائكِ يحملونَ العرشَ بالتسبيحِ
فوقَ الماءِ،
لا حدٌّ هنا ما بين مَنْ نادى،
و مَنْ سمع النداءْ.
القدسُ أغنيةُ الرخامِ،
من اليبوسيينَ، حتى آخرِ الشهداء،
في الأقصى،
الذين توّردت بهم العروقُ البيضُ،
وانسابوا على المنديلِ دمعاً،
من ورودِ الأُمّهاتِ،
وضوّعوا شمعَ الكنائسِ ساعةَ الترتيلِ
للأرضِ الحزينةِ والدماءْ.
***
ونقولُ: قد سرقوا، هناك، حصانَنا الناريَّ
والسيفَ المذهّبَ،
كنزَ كنعانَ القديمَ
وتاجَ مريمَ والخزائنَ والكتابْ،
نهبوا، هنا، ثوبَ الفلاةِ،
لُقى المعاركِ والصحائفَ
والطوائفَ والكهولةَ والشبابْ
نهبوا الأساورَ والمنابرَ،
برُدةَ الزهراءِ، أو
ما قد تبقّى للحواريين من خُبزِ العَشاءْ.
وهنا.. هناك تسلّقوا نايَ المُغنّي
والمُعلّقةَ الكحيلةَ
والغزالةَ
والذي عَشِق السيوفَ
لأنها لمعت على ثغرِ الجِواء.
هنا.. هناك الطَّفُّ والعَطَشُ المحاصَرُ
والمَحارمُ والرحيلُ بلا عزاءْ.
فَمَنْ يقولُ: أنا وأنتَ
ولا نرى حولَ الحصارِ سوى العواء؟
***
والقدسُ آخرُ ما تلفّظَت الأعالي،
فوقَ رايةِ أرضنا؛
هي سندسُ الزيتونِ
أجنحةُ الحَمامِ
ولمْعَةُ الشريانِ
أو كُحْلُ الصَّبيةِ
لم تُصِبْ من عمرها إلا البُكاءْ.
***
والقدسُ عينُ اللّهِ في الأرضِ الصغيرةِ،
أوّلُ الصلواتِ والآياتِ،
محرابُ البتولِ،
ونخلةُ الميلادِ،
معراجُ الأمينِ،
ومربطُ الفَرَسِ المُجَنَّحِ،
خُبزُنا البلديُّ،
زيتُ سراجِنا الكونيُّ،
أو رَقْصُ البلادِ،
وزفّةُ الأعراسِ في وَهَجِ الغناء.
***
والقدسُ واحدةٌ لنا،
ولها نشيدُ الجُرْحِ، والكوفيةُ السمراءُ،
والعيدُ البعيدُ، وصورةُ المقلاعِ
واللونُ الذي رفعَ الحنينَ
إلى المجازْ!
فهناك في المنفى هي العنوانُ
في الثوبِ المطرّزِ بالحكايا
والزغاريدِ النبيهةِ والخرائطِ
والدفاعِ عن المعاني،
والمعلّقةِ التي فهقتْ
على الحيطانِ أو صدرِ الصَّبيّةِ،
في الهواتفِ والملاحفِ والمصاطبِ والحِساءْ.
وهنا، هي الرحمُ الخصيبُ، وما
تبقّى من حكايتنا، وما عقدوا عليه
من النوايا في الصلاةِ أو الممات،
أو الدفاعِ عنِ السلامِ أو الحِمامِ،
أو الذهابِ إلى النجَاءْ.
وهي الشرارةُ والترابُ أو الغمامةُ
والهواء، هي الهيولا، والقيامةُ،
والصَّحاحُ من النّزول على النبيِّ
بعُزْلةِ الجبَلِ المُقدَّس
أو حِراء.
وهي التي ربطوا بها قلبي
وحفّوا نهدَها بالهِندِباءْ.
هي زوجتي، أُختي، وأمّي وابنتي
أبتي وعمّي، خالتي، أهلي
وجيراني وأفراحي وسلطانُ الإباءْ
هي آيتي، عِرضي، حياتي
أصدقائي الأوفياءُ، مدينتي
بيتي، غدي، سندي، عمادي، زهرتي، لغتي
دموعي، قصّتي، أمسي، وأحلامي
كتابي، دُرّتي، زمني، عيوني، شمعتي
وجعي، شفائي، نظرتي، صوتي
غطائي، نوْمتي، صحوي
وخطوي والدواءُ وصرختي،
أملي، جدودي، شهقتي الأولى
وروحي، نجمتي، شُهُبي، عُروشي
نخلتي، تفاحتي، قمحي، وقافلةُ الرّواءْ..
القدسُ أزمانٌ على زمنٍ طويلٍ،
ثم يأتي آخَرٌ.. حتى
تكونَ ذُرى ابنِ آدمَ في المدينةِ،
بعضُها يعلو على بعضٍ،
وأجْمَلُ ما يتوِّجُها السلامُ إذا
تخلّى الميّتونَ عنِ ادّعاءِ الادّعاءْ.
فهنا البُراقُ وقهوةُ الشريانِ والآياتُ
والتاجُ المُرصّعُ بالسّناءْ.
وهُنا.. هُنا حريّةُ الأطيارِ
طُهْرُ الطهرِ، ترنيمُ التجليّ والخفاءْ.
فبأيِّ شمسٍ نستنيرُ
بأيِّ ماءٍ نستجيرُ
ومَنْ يُصدّقُ أنَّ قُدْسَ اللهِ
يَحْكُمها عبيدُ المومياء؟!
***
القدسُ أُنثى الكونِ تعرفُ طَيْشَها النسويَّ
في زمنِ الرخاءِ..
وتعرفُ الحّناءَ نارياً على يدِها
إذا جاسوا الديارَ،
هنا، يكونُ صراخُها الوحشيُّ مكتوماً،
بِكُوزِ صنوبرٍ خلفَ النوافذِ،
ثم تَسْمَعُ زَّخةً هتكت ستارَ الرُّعبِ،
قَعْقَعةً ورشّاتٍ
وأصواتاً تنادي بعضَها...
ويعمُّ ضوءُ الطائراتِ..
وَيحْضُرونَ...
.. وقيل: قد قتلوا أباها في الجرود،
وقيلَ: قد هَدَمتْ منازلَها السدودُ،
وقيلَ: قد سجنوا أخاها،
قيل: قد حرقوا سنابلَ شَعْرِها
وعلى الرمادِ أقام حارِقُها البنودَ،
وقيل: إن جاءتْ عواصِفُها
سَيُزْهرُ بَعْدَها أَلَقُ الجلاءْ.
***
القدسُ أوّلُ قِبْلَةٍ أو قُبْلَةٍ،
والنهرُ يجري تحتها،
وينامُ في ذَهَبِ المصاحفِ
مثلَ طفلِ السَّرْوِ،
ثَمةَ ما يضفضفُ فوقَ خَطِّ السورِ؛
هذا سيفُ يوسفَ أو صلاحِ الدين،
مَنْ شدَّ الرحالَ إلى الحرائرِ والكنائسِ والتكايا
كي يحررّها من الغرباء، هذي
رؤيةُ الصوفيِّ في ليلِ الثناء،
وهذه حلقاتُ أبناءِ المغاربةِ
الأفارقةِ
اليمانيةِ
الشراكسةِ
الهنودِ
الأولياءِ
وهذه بعضُ المقاماتِ التي
صعدوا بها،
والنقشبنديُّ الذي كشف المسافةَ
حلّ في نبعِ الصَّفَاء!
فلإيليا تأتي البحارُ على دفوفِ الرَّحلِ،
والمضيافُ عاهِلُها؛
يزيِّنُها عُروشاً للخليلِ وللسبيلِ وللفراءْ.
فهنا، إذا حفروا بأرضِ القدسِ
لن يجدوا سوى حاءٍ وباءٍ.
هيَ ليلةُ القَدْرِ الأثيرةُ،
ياسمينُ البرقِ،
أو صوتُ الإمامِ
إذا ترنَّم بالقيامِ والانحناءِ،
وطافَ بالجَمْعِ المَهيبِ على الأرائكِ
والملائكِ
في القيامةِ نبعُ أطيارٍ ترفُّ
على صدى الناقوسِ..
هذا كرنفالُ القدسِ،
مَوْقِدُ نَحْلِها،
ورِهَامُ فضَّتِها على طِيبِ البقاء.
***
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت