- نهاد ابو غوش
النقاشات الجارية بشأن الانتخابات الفلسطينية وقرار تأجيلها، تكاد تنحرف إلى مسالك فرعية وعرة وشائكة، ملغومة بالشكوك والاتهامات الجاهزة، ومقرونة بحجج وادعاءات واهية، وأساليب عمل وتحشيد وتجييش عفا عليها الزمن. استمرار ذلك يهدد بعودة الحالة الفلسطينية إلى أسوا محطات الانقسام والاحتراب الداخلي والتآكل، ويوسع الشروخ والصدوع سواء بين القوى السياسية، أو بين هذه القوى منفردة ومجتمعة وبين الشعب. ومع التذكير بمقولة ماركس الشهيرة بأن التاريخ يعيد نفسه مرتين، مرة على شكل مأساة، والمرة الثانية على شكل مهزلة، فإن العودة لظروف ما قبل التفاهماتسوف تكون كارثية بكل المعاني، وقد تنسف ليس فقط الجهود التي بذلت خلال العامين الماضيين لاستعادة الوحدة وإنهاء الانقسام، وإنما مسيرة عقود من النضال والعمل السياسي الفلسطيني المعمّد بتضحيات عشرات آلاف الشهداء ومئات آلاف الجرحى والأسرى. وفي النتيجة فإن هذه التطورات من شأنها إيصال الوضع الفلسطيني إلى أسوأ حالاته وأضعفها، سواء من حيث الوحدة الوطنية أو من ناحية تماسك الهيئات والمؤسسات الوطنية وبخاصة القيادية، وسلامة أوضاعها الداخلية، وثقى الناس بها وبمشروعيتها، في مواجهة مشاريع ومخططات معلنة ومكشوفة، بل يجري تنفيذها من قبل الاحتلال وداعميه على الأرض جهارا نهارا، لتصفية القضية والحقوق الوطنية الفلسطينية.
قرار تأجيل الانتخابات اتخذ، وفق ما رأيناه جميعا، من خلال توافق نسبي محدود، وليس إجماعيا للقوى المنخرطة حاليا في أطر ومؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، وليس للقوى الفاعلة في الساحة الفلسطينية ومن ضمنها ما تعبر عنه القوائم الانتخابية من ميول واتجاهات وربما حركات سياسية قيد التشكل، وبالتالي بات من مسؤولية جميع القوى السياسية، والنخب والمؤسسات الحقوقية والمدنية البحث عن صيغ لحلّ المعضلة، أي لقضية إجراء الانتخابات مع التمسك بحقنا غير القابل للمساومة في القدس، بدلا من تراشق الاتهامات، ومحاولات كل طرف إثبات أنه كان على صواب، فالشعب يريد الانتخابات وفي نفس الوقت متمسك بالقدس بكل ما أوتي من قوة وإيمان واستعدادات للتضحية.
وقبل الوصول إلى صيغة إبداعية وخلّاقة لحل العقدة، ينبغي أولا تقييم ما جرى ووضع النقاط على الحروف، وامتلاك شجاعة النقد والنقد الذاتي، سواء في الاعتراف بالأخطاء أو في تقييم مواقف الآخرين بكل نزاهة، وإعادة بناء الموقف الوطني على قاعدة الجمع بين ثابتين لا يمكن التفريط بهما وهما أولا أن الحق الفلسطيني في القدس مقدس وثابت ولا يمكن التفريط فيه وفق اية صيغة من الصيغ، وثانيا أن الاحتكام للشعب عبر صناديق الاقتراع هو مصدر السلطة وأداة بناء الشرعية وتجديدها.
وفي سياق هذا التقييم لا بد من التنويه إلى أن الربط بالطريقة التي جرت، بين قرار إرجاء الانتخابات وصيغة مشاركة المقدسيين لم يكن مقنعا لجميع الناس بما في ذلك لقوى أساسية في منظمة التحرير، ولقوائم انتخابية جدية، فالموقف الإسرائيلي لم يكن وليد لحظته، والارتهان إلى هذا الموقف يعني منح الاحتلال حق النقض لإجراء الانتخابات في القدس، ومنحه كذلك، اي منح الاحتلال، حق تقرير مصير الشعب الفلسطيني.
كان يمكن للسلطة والقوى السياسية الفلسطينية أن تفعل الكثير خلال المائة يوم بين صدور مراسيم الانتخابات في منتصف كانون الثاني وقرار التأجيل في أواخر نيسان، ثم إن صيغة مشاركة المقدسيين بموجب ملاحق اتفاق أوسلو هي أصلا صيغة مجحفة ومشوّهة، والأهم من كل ذلك ان المقدسيين أثبتوا للعالم أجمع، من خلال عديد المعارك والهبّات التي خاضوها وآخرها "هبة باب العامود" أو "هبة رمضان" ، أن هويتهم وهوية المدينة ليست محل شك على الإطلاق، بل إنهم طليعة النضال الفلسطيني، وأن القدس كانت وستبقى بؤرة الصراع مع المحتل.
ترافق مع أزمة تأجيل الانتخابات كثير من الغثاء السياسي الناشز الذي لا يفعل سوى التوتير والتأزيم وصبّ الزيت على نار الانقسام، والتي ما زال جمرها مشتعلا تحت الرماد، من قبيل الدعوة الفجة لاحتلال المجلس التشريعي، أو بعض التصريحات التي لا تزيد عن كونها سيلا من الشتائم المقذعة، والتي لا تصمد أمام أي محكمة نزيهة من قبيل الطعن المبتذل في أشخاص وسيرة كل أعضاء القيادة الفلسطينية، من دون الخوض في نقاش جدي لمواقفهم، فضلا عن التخرصات بشأن السفارات الفلسطينية وباقي مؤسسات السلطة.
المواقف التي ترتدي زي المعارضة وهي في الحقيقة لا تنشد سوى بناء شعبية رخيصة، ولا تقترح بديلا جديا، لا تساعد أبدا في تصويب الأمور، ولكنها تساهم في فقط في تعميق الشرخ، ومثلها أيضا في المقابل، المواقف والمسلكيات التي تستدعي أساليب عمل وآليات أكل عليها الدهر والشرب وباتت جزءا من الفولكلور العربي، من قبيل تمرير صيغة ثابتة لإعلانات الولاء والبيعة، على المجالس القروية والبلدية، ويبدو أن من اقترح هذا الأسلوب نسي أن المجالس المحلية ليست مفوضة بتمثيل الآراء السياسية لمواطنيها الذين تختلف آراؤهم مثل اي مجتمع حيوي يتبنى الديمقراطية والتعددية والتداول السلمي للسلطة نهجا لحياته وأسلوبا لاختيار قياداته.
قرار تأجيل الانتخابات كان صادما لكل من رأى في هذه العملية الديمقراطية مدخلا لإنهاء الانقسام، وتجديد الشرعيات، وتفعيل آليات الرقابة والمساءلة، وإعادة بناء الشراكة، ولعل أخطر ما في القرار أن العناصر الانقسامية والانتهازية سوف تجد فيه محفّزا لها على تكريس الانقسام وتحويله إلى انفصال دائم، ومواصلة إضعاف وتبهيت الهوية الجمعية الوطنية، ولقطع الطريق على كل هذه السيناريوهات المدمرة على القيادات والقوى الفلسطينية أن تتخذ قرارا واضحا وبسيطا هو التوافق على التعجيل في إجراء الانتخابات، وخوض معركة القدس ضمن هذا التوافق، وإلى أن يحين موعد ذلك، لا بد من تغيير وتطوير صيغة العمل القيادي من خلال إيجاد آلية مؤقتة تمنع التفرد في القرارات المصيرية، وتضمن أوسع مشاركة ممكنة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت