- بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
تتقدم إسرائيل خطوةً إلى الأمام، وتتراجع ألف خطوةٍ إلى الوراء، كلما فكرت في تنفيذ عملية برية ضد قطاع غزة، فهي تحشد قواتها البرية، وتعيد تموضع دباباتها الحديثة، وتنشر مدفعيتها الميدانية، وتجوب بوارجها الحربية شواطئ قطاع غزة، الذي تحاصره وتغلقه، وتغطي طائراتها الحربية والمسيرة سماء قطاع غزة على مدى الساعة فلا تغيب ولا تتوقف، وتعلن من حينٍ إلى آخر عزمها تأديب المقاومة، ونزع سلاحها، وإرغامها على دفع أثمانٍ باهظة، وتتهيأ لدخولٍ بريٍ، وعملياتٍ حربيةٍ على الأرض، لكنها سرعان ما تتراجع وتنكفئ، وتعلن مؤسساتها العسكرية الرسمية أن خبر البدء بعمليةٍ بريةٍ هو خبرٌ خاطئ، وأنه وقع نتيجة ترجمة خاطئة، إذ لا نية لدى الجيش لتنفيذ عمليةٍ بريةٍ الآن، رغم جاهزيته واستعداده، وقدرته على تنفيذها إذا لزم الأمر.
تقفز فجأة أمام رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، وقادة أركان جيشه، صورة عدوانهم على قطاع غزة عام 2014، ويستعيدون صورة جنودهم الفارين، وحجم خسائرهم بينهم، والحالة النفسية التي كانوا فيها، والإصابات المباشرة التي طالت قادتهم الميدانيين، الذين قضوا في المستشفيات شهوراً يتعالجون، وما زال بعضهم يعاني مما واجه، ويشكو مما لاقى، وتظهر لهم النتائج الوخيمة التي وصلوا إليها، والحصاد المر الذي جناه جيشهم، إذ لم يحققوا شيئاً مما حلموا به وخططوا له، حيث بقيت المقاومة صامدة، وحافظ الشعب على رباطة جأشه وصبره، فأيد مقاومته وصبر معها، وساعدها وتحمل الصعاب من أجلها، وضحى بالكثير من أجلها.
كما يستعيدون صورة جنودهم الذين فُقدوا في المعركة، وسُحبوا من الميدان جثتاً أو أحياءً، وما زال مكانهم بالنسبة لهم مجهولاً، ومصيرهم غير معلوم، وهو الأمر الذي أقلقهم على مدى سنوات، وأزعجهم حتى الآن، إذ أظهر عجزهم عن استعادتهم، وكشف عن عدم قدرتهم على تطمين أهلهم واسترضائهم، وأجبرهم على التفكير جدياً في التوصل إلى اتفاقية تبادل أسرى جديدةٍ مع حركة حماس، يكونون فيها على استعداد لدفع أثمانٍ كبيرة، والتراجع عن أخطاء كثيرة، والإفراج عن مئاتِ الأسرى والمعتقلين ثمناً لحرية جنودهم أو استعادة رفاتهم. ذاك كان في العام 2014، يوم أن كانت صواريخ المقاومة قصيرة المدى غير دقيقة الإصابة، وأسلحتها قليلة، وخبرتها محدودة، أما اليوم في العام 2012، فإن قدرات المقاومة قد تضاعفت كثيراً، ومستودعاتها قد غصت بالصواريخ الحديثة بعيدة المدى دقيقة الإصابة، وأنفاقها غدت مجهزة ومهيأة لحربٍ طويلةٍ ومواجهةٍ دامية، وبات مقاتلوها أكثر خبرةً وأعمق تجربةً، وأكثر تسليحاً وأشد عزيمةً، وهم يتطلعون لمواجهةٍ ميدانيةٍ وقتالٍ بري، يظهرون فيه حماستهم، ويبرزون فيه قوتهم، ويفضحون خلاله زيف عدوهم وضعفه، وجبن جنوده وخوفهم، وترددهم وفرارهم من أرض المعركة خوفاً من القتل أو الأسر، حيث يعلمون أن عين المقاومة على أسر جنودهم، أكثر من سعيها لقتلهم الذي قد يتحقق بسهولةٍ ويسرٍ.
هذه الحقائق كلها تظهر أمام صناع القرار العسكري والسياسي الإسرائيلي، فيجدون أنهم غير قادرين على أن يخوضوا ذات التجربة التي خاضوها من قبل أكثر من مرةٍ، ثم يأملون منها أن تأتي بنتائج مختلفة وثمار أخرى غير تلك الثمار المرة التي جنوها، فلهذا تراهم يقدمون خطوة ويتراجعون ألفاً، ويهددون ويجبنون، ويصرحون ويعتذرون، فالأمر بالنسبة لهم مغامرة كبيرة، وحربٌ طويلة، ومعركة مفتوحة، وعداد الخسائر سيبقى يعمل ضدهم، وصواريخ المقاومة ستستمر في السقوط عليهم، وفي الميدان سينشط المقاومون الفلسطينيون، فهم على الأرض التي خبروها، وفي المناطق التي يعرفونها، وبالقرب من الأنفاق التي حفروها، ومستودعات السلاح التي عمروها، وربما فوق الأرض التي لغموها وهيأوها. لا ينكر الفلسطينيون أن الحرب البرية ستكون موجعة بالنسبة لهم أيضاً، وستكون مؤلمة وقاسية، وقد يدفعون فيها أثماناً كبيرة، ويقدمون خلالها شهداء ومصابين أكثر، وسيتعرض قطاعهم للتدمير والتخريب نتيجة القصف المدفعي الأهوج، إلا أنهم يدركون في الوقت نفسه أنهم إن كانوا يألمون فإن العدو سيتألم أكثر منهم، وسيدفع ضريبةً تفوق ضريبتهم، وأن المعركة البرية معه ستؤسس لمرحلةٍ جديدةٍ واستراتيجية مختلفة، تقوم على قاعدة أن إعادة احتلال ما تحرر من أرضنا مستحيل، وإخضاع مقاومتنا دون ثمنٍ غير ممكنٍ، وأن القتال البري قد لا يقتصر حصراً على قطاع غزة، بل قد يتطور نحو بلدات الغلاف استعادةً وتحريراً. يتبع....
بيروت في 14/5/2021
[email protected]
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت