بين دبلوماسية القدر ودبلوماسية التخطيط

بقلم: رائد الدبعي

رائد الدبعي
  • بقلم: رائد الدبعي: محاضر بقسم العلوم السياسية/ جامعة النجاح الوطنية

    هل من الممكن أن يحدد بائع بطاقات يانصيب  في أحد شوارع ولاية "ميشيغان" في الولايات المتحدة الأمريكية قرار نقل السفارة الأمريكية في اسرائيل من تل أبيب  إلى القدس الشرقية، أو إعادة افتتاح  القنصلية الأمريكية العامة لفلسطين في القدس الشرقية من جديد بعد قرار إدارة الرئيس ترامب إغلاقها وتحويلها إلى قسم هامشي في سفارة إسرائيل، وهل من الممكن أن يقرر بائع مرطبات في أحد الشوارع المنزوية في مدينة 
"
هلسينغبورغ" السويدية إن كان الشعب الفلسطيني لا يستحق الإنضمام إلى اليونسكو، أو يستحق الاعتراف بدولة كاملة السيادة،  وهل من الممكن أن يقلب رجل عصابات في أحد أحياء "ريو دو جانيرو" مواقف البرازيل المعتدلة تجاه الحقوق الفلسطينية، لتصوت بين ليلة وضحاها ضد قرار يتعلق بشعبة حقوق  الفلسطينيين في الأمانة العام للأمم المتحدة،  وهل من الطبيعي  النظر إلى   تصويت  المانيا، وجمهورية التشيك، والنمسا، وبلغاريا، والدنمارك، وإستونيا، واليونان، وليتوانيا، وهولندا، ورومانيا، وسلوفاكيا، والبرازيل وكولومبيا ضد مشرع قرار يتعلق بـ"شعبة حقوق الفلسطينيين" في الأمانة العامة للأمم المتحدة على أنه  خطأ أخلاقي يستوجب الإدانة والاستنكار فقط، دون امتلاك أدوات وخطط لتدارك الإنحراف،  وكيف تحولت التشيك من دولة تعقد صفقات سلاح  مع  الدول العربية بما في ذلك نظام عبد الناصر، وحركات التحرر الوطني وفي مقدمتها حركة فتح ، إلى حارس دائم لنظام التمييز العنصري في إسرائيل، ومدافع شرس عن جرائمها ضد الفلسطينيين،  وهل هناك ما يضمن استمرار برلمان جمهورية ايرلندا بدعم القضية الفلسطينية على المدى الطويل،  أو ضمان حصولنا على قرارات من مجلس حقوق الانسان ضد اسرائيل بشكل مستمر، وهل جاء قرار الإدارة الأمريكية بإعادة افتتاح القنصلية الأمريكية لفلسطين في القدس الشرقية نتيجة امتلاكنا لأدوات التأثير، أم أنه أحد ركائز السياسة الخارجية المعلنة مسبقا لسيد البيت الأبيض الجديد، وهل هناك ما يضمن استمرار دعم قارات  إفريقيا، وأمريكا اللاتينية وأوروبا لحقوق الشعب الفلسطيني، أم أننا أمام تحديات قد تقود نحو تغيرات سلبية في مواقف تلك الدول، بما فيها الهند، واليونان، والبرازيل، وهل من الممكن أن تتحول الحكومة السويدية، الدولة الأوروبية الوحيدة التي اعترفت بفلسطين إلى خصم يعادي شعبنا، ويصوت ضدنا في الأمم المتحدة، وغيرها من المنظمات الدولية.

الإجابة على تلك الأسئلة يعتمد بشكل أساسي على الأداء الفلسطيني، والأسلوب الذي تقاد به دفة العمل الدبلوماسي الفلسطيني، من خلال رؤى واستراتيجيات واضحة، أم من خلال ما أطلقت عليه في  هذا المقال، "دبلوماسية القدر والصدفة" ، والمقصود بدبلوماسية القدر والصدفة هنا  تلك الدبلوماسية التي تعتمد على نتائج الانتخابات في دول الغير، وتوجهات الناخبين لديهم، وتنامي أو تراجع اليمين الشعبوي في تلك المجتمعات، وتأثير ذلك على السلوك التصويتي، والسياسي، والإنساني تجاه القضية الفلسطينية، أو هي تلك التي تعتاش على إرث الماضي، وحقب النضال المشترك، ضد الإستعمار والعنصرية، والظلم، وافتراض أن نبش الماضي،  واستحضار الوازع الأخلاقي،  في زمن "السوشال ميديا" ورأس المال العابر للحدود والقارات، والتوجهات الاقتصادية " النيوليبرالية "   يكفي وحده لضمان الحفاظ على الأغلبية الدولية المدافعة – نظريا – عن  حقوق الشعب الفلسطيني، وهو افتراض تنقصه الحكمة والوعي وبعد النظر،  ويحتاج إلى إعادة تقييم لمجمل الأداء، والدلائل على ذلك كثيرة، بدءا من الهند  التي رفضت الاعتراف  بقرار 181، ولم تعترف باسرائيل إلا عام 1950،  بل  ورفضت عام 1966 نزول الرئيس الاسرائيلي " زالمان شازار" من طائرته في نيودلهي في طريقه لبورما، وتقدمت خلال رئاسة انديرا غاندي لمجلس الوزراء باحتجاج رسمي للخارجية المصرية، لمجرد نشر المستشار في السفارة المصرية في نيودلهي " مصطفى الفقي " مقالا تنبأ به بتعزيز الهند علاقاتها مع اسرائيل، باعتبار ذلك إساءة للقيم الهندية، وتوجهاتها ضد الظلم والعنصرية،  والتي توقع اليوم اتفاقيات بالمليارات مع اسرائيل في مجالات التسلح، والزراعة، والتكنولوجيا، وأبحاث الفضاء، وهو الأمر الذي ينطبق على حكومة السويد أيضا، إذ أن الاعتراف السويدي بدولة فلسطين، والسلوك التصويتي لصالح حقوق الفلسطينيين ما هو إلا نتيجة فوز  الحزب الإشتراكي الديمقراطي السويدي بالانتخابات العامة 2014،  وتحالفه مع  حزب الخضر اَنذاك ، إذ أن  السويد  صوتت عام 2011، خلال فترة حكم القوى المحافظة ضد انضمام فلسطين الى اليونسكو ، بل أن وزير خارجيتها اليميني  " كارل بيلت " صرح في حينه أن الحل الوحيد للصراع الفلسطيني الاسرائيلي يتمثل بالعودة الفورية لطاولة المفاوضات، في مشهد يذكرنا بموقف إدارة ترامب، وهو الموقف المرشح للظهور على السطح من جديد على المدى المتوسط في السويد  نتيجة تنامي قوى اليمين، واليمين الشعبوي، انتهاءا بمواقف عدد من أنظمة التطبيع العربية التي ارتدت عن مبادرة السلام العربية وتحالفت مع إسرائيل علنيا.  

  أما دبلوماسية التخطيط والرؤى، فهي تلك التي تمتلك الأدوات اللازمة للتأثير في قرارات حكومات اليمين واليسار والوسط، هي تلك  التي تتقن قراءة الخارطة الدولية بشكل واقعي غير حالم، والتي تحصد زرعها، لا نتائج صناديق اقتراع الغير، هي تلك التي تعرف أين وكيف ومتى تتموضع في المكان الصحيح، لا المكان المريح،  والتي تخوض الدروب الوعرة، وتبني علاقات مستدامة، على مبدأ المصالح المشتركة، والقيم الإنسانية، والإستفادة المتبادلة، إذ أن بريق القضية الفلسطينية، وعدالتها لم تعد اليوم كافية لإقناع العديد من دول إفريقيا، واَسيا، وأمريكا اللاتينية والبلقان، على الصمود والتمترس خلف القيم الأخلاقية أمام الإغراء الإسرائيلي بتوفير مشاريع مائية، وغذائية، وزراعية، والاستثمار في مجال الطاقة، والتكنولوجيا، وعلوم الفضاء، فالدول كما كان يكرر الراحل الكبير الدكتور صائب عريقات " عبيد لمصالحها".

دبلوماسية التخطيط والرؤى هي تلك التي تعبر عصور الدبلوماسية التقليدية،  نحو جيل الدبلوماسية الرقمية، والدبلوماسية الشعبية، والدبلوماسية العامة،  وتؤسس لعلاقات وطيدة مع الأحزاب  السياسية، والمجتمع المدني، والحركات المجتمعية، والقوى الشعبية، والجماهير، وهي القادرة على استثمار كل مقومات الشعب الفلسطيني، الحضارية منها والإقتصادية والسياسية، والبشرية،  بدءا برمزية الشهيد ياسر عرفات،  والحاج أمين الحسيني، واعتدال الرئيس محمود عباس،  مرورا بحناجر ريم البنا، ومريم تماري، ومحمد عساف الصادحة بالحب والجمال والسلام، وإبداع  محمود درويش  وإميل حبيبي،  والثلاثي جبران، وحنان عشراوي، وسميح القاسم، وفدوى طوقان، وغسان زقطان، ونعومي شهاب، وناجي العلي، وأدوارد سعيد، ورشيد الخالدي، وعفيف صافية، وغسان كنفاني، وسحر خليفة، المتجاوزة لكل الحدود، نحو فضاء الإنسانية، ونجاحات  الياس سقا، وسيرجيو بيطار، وعبد المحسن القطان، وطلال أبو غزالة، وحضور بيلا حديد، وقدرتها على التأثير في العشرات من الملايين، وإبداع حنان الحروب، وفريق "بالسيتنو" لكرة القدم  في تشيلي، ، ونجاحات أسيل عنبتاوي في ناسا، وغيرهم الاَلاف من المبدعين من أبناء فلسطين.

دبلوماسية التخطيط والرؤى تتطلب بناء  تحالفات أوسع مع الاقتصاد  الفلسطيني الوطني الملتزم، والمنتشر في كل أصقاع المعمورة، من أجل توجيهه لصالح القضية الفلسطينية، وهو الأمر الممكن والواقعي في حال توفر النموذج، والإرادة وروح العمل المؤسسي، ويتطلب تقديم وجوه دبلوماسية واعدة، قادرة على الحديث مع العالم بلغته، تمتلك المعرفة، والشغف، والإرادة والدافعية للعمل، والخبرة،  تماما كما هو حال العشرات من سفرائنا الذين تقلدوا مناصبهم منذ عشرات السنوات حينما كانوا بعمر الشباب، ونجحوا في إبقاء إسم فلسطين على أجندة العالم،  ويتطلب إعادة تصويب علاقة النظام السياسي الفلسطيني مع النخب الفلسطينية في الوطن والشتات، وهوالأمر الذي يتطلب الاستماع بمسؤولية وجدية إلى  مقترحاتهم، واَرائهم، وأفكارهم،  فهم كنز بشري ورأس مال وطني نوعي، وغير مستثمر بالشكل الأمثل  حتى الاَن،  ويمكن أن يغير الكثير لصالح فلسطين في حال أحسن التعامل معه  .

 أرى أن الواقع الدبلوماسي الفلسطيني لا زال حبيسا يراوح تارة بين دبلوماسية القدر، وأخرى بين دبلوماسية التخطيط والرؤى، فالتوجه الفلسطيني نحو الإنضمام إلى المنظمات الدولية بما في ذلك محكمة الجنايات الدولية، واليونسكو، والحصول على دولة مراقب  في الأمم المتحدة، والإنضمام لعشرات الهيئات والمنظمات  الدولية،  والصمود الفلسطيني في وجه الإدارة الأمريكية، ورفض خطة القرن، يندرج في إطار دبلوماسية التخطيط والرؤى، إلا أن التعويل على القدر الذي حالفنا بسقوط الرئيس ترامب في الولايات المتحدة الأمريكية، ونجاح الحزب الاشتراكي الديمقراطي في الدنمارك والسويد، وشاكسنا بنجاح  الرئيس الشعبوي اليميني المتطرف  "بولسورانو" في البرازيل، و"فيكتور اوربان" في المجر، أو الصدفة التي قد تقود نحو رياح صديقة، أو معادية لشعبنا، فإنها ستبقي قضيتا رهينة بأيدي مزاج ورغبة الناخبين في تلك البلاد، أو قدرة اليمين الشعبوي، والصهاينة غير اليهود على اختراق المجتمعات الغربية،  وتحول شعبنا بأكمله إلى ضحايا لنوازع العنصرية والتطرف والجنوح نحو اليمين، التي تعتري قادة بعض الأنظمة اليمينية الشعبوية، سواء كانت أنظمة عربية لا تخفي رغبتها الجامحة بالتطبيع والتحالف مع الاحتلال، أو انظمة غربية تجد  بالتقرب من نتنياهو ورموز اليمين الإسرائيلي  بوابة لحصد المزيد من الأصوات،  وللاستفادة من قدرات إسرائيل في مختلف المجالات، في ظل تراجع تأثير لغة  القيم والمبادىء، لصالح لغة المال، والنفط، وتجارة السلاح، والموت والحروب.

 ختاما، العمل الدبلوماسي لا يزرع دائما  في أروقة الحكومات فقط ، إنما يزرع  في الكثير من الأحيان بعيدا في كل الساحات الخصبة، مع الأحزاب، والجامعات، والمؤسسات البحثية، واللوبيات المؤثرة، والقوى المجتمعية، والإعلاميين، والاقتصاديين، ورجال الدين، والتأثير في قطاع الشباب، فيما بوابات الحكومات وأروقة العمل الرسمي في الكثير من الأحيان  هي حقل الحصاد، وكما نزرع سنحصد لا محالة، مما  الذي يتطلب اختراقا فلسطينيا لمعسكرات القوى المحافظة في العالم أجمع، وعدم اقتصار علاقاتنا  كقوى وأحزاب وعاملين في الحقل الدولي بمعسكر اليسار الديمقراطي، أو اليسار الراديكالي،  الذي يعتبر شريكا تاريخيا لنا، وهو الأمر الذي نجحت به الكثير من حركات التحرر الوطني سابقا وفي مقدمتها حزب المؤتمر الوطني الإفريقي " ANC " في جنوب افريقيا.

لفتة صغيرة لموجهي العمل الدبلوماسي الفلسطيني،  الا تلاحظون حجم الحضور والأثر الدولي الإيجابي شعبيا ورسميا  الذي يتركه الدبلوماسيون الفلسطينيون الشباب، ومنهم حسام زملط في بريطانيا،  وماجد بامية في نيويورك،  وعمار الزربا في تشيلي، وحنان جرار في جنوب افريقيا،  وفائد مصطفى في تركيا، وغيرهم العشرات، مقابل نماذج أخرى لا تتقن لغة البلاد التي يمثلون فلسطين بها، هذا ليس انتقاصا من نضال جيل الدبلوماسية الفلسطينة المؤسس ، ولا من تضحياتهم من أجل الوطن، لكنها دعوة للمزواجة ما بين حكمة المؤسسين ودافعية الشباب.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت