رافق والدته إلى أرض المقثاة، قال لها إنه يريد مساعدتها، قالت له إنها ستعمل على تعشيب الأرض من النبات البري من حول نبات الفقوس. قالت له إن هذا العمل ليس سهلاً، فأصر على مرافقتها ومساعدتها.
وصلا هناك، اتجها إلى شجرة الزيتون الوحيدة الموجودة في الزاوية الشرقية من قطعة الأرض، وضعا إبريق الماء وصرة الأكل في ظلها. طلبت منه أن يجلسا قليلاً ليرتاحا من مشوار الطريق، وقالت له أنهما سيبدآن العمل بعد قليل وأنها ستطلب منه عملاً سهلاً. أوكلت إليه مهمة أن يخلع نباتات "المدادة" تحديداً وأن يجمعها في الكيس الذي أعطته إياه ليأخذاها غذاء للأرانب التي تحب هذا النبات كما أوضحت له، ولكنها حذرته من الخلط بينها ونبات آخر قد يكون ضاراً لها.
فرح بمنظر نبات الفقوس الناهض الذي رآه قبل أسبوعين وكان قد شق الأرض واطمأنوا عليه يومها، وقاموا بتتبيع البذور التي لم تنبت ببذور جديدة، ولاحظ بفرح أن البذور الجديدة قد شقت التربة وبانت أوراقها الأولى الصغيرة. النباتات الأكبر قد تشعبت بأوراق يانعة حتى أن القليل منها قد أخرج أزهاراً.
كانت تعمل منحنية الظهر والفأس الصغيرة بيدها، وكان يمشي بموازاتها وهي تخلع النباتات الضارة من حول بيوت الفقوس وتلك الموجودة في المسافة بين صفوف النبات التي تمتد على طول قطعة الأرض التي أصبحت المقثاة لهذا العام. كانت تتقدم بالعمل تمشي بين صفين من نباتات الفقوس التي ما زالت تحمل بقايا قطرات الندى، فتخلع النبات الضار وتحرك التربة حولها بالفأس لتجمع التراب حول البيوت دعماً لها لتستقر أقوى في الأرض في مواجهة أية ريح، وتتفقد النبتة الصغيرة بسبب وجود بعض الديدان التي تهاجم النباتات فتنزعها عن النبتة وتهرسها بين حجرين صغيرين. انتبهت له وهو يراقبها فأوضحت له أن هذه الديدان خطيرة على النبتة الصغيرة تحديداً ويجب التخلص منها.
بعد إنجاز عددٍ من الصفوف سألها متى سيستريحان ويتناولان الفطور، مازحته "صرت تعبان؟ مبين عليك مش قوي"، ثم قالت بأن الوقت فعلاً وقت استراحة الفطور. توجها إلى الزيتونة، جلسا وفتحا صرة الأكل، رغيفا خبز مدهونان بالزيت وقطعتان من الجبنة البيضاء. بدأ بتناول قطعة صغيرة من الخبز وقضم جزء من قطعة الجبنة، تمنى لو يشرب الشاي مع هذا الفطور، عبّر لها عن أمنيته فوعدته أن تجلب في المرة القادمة إبريق شاي وما يلزم لعمل الشاي على النار. كان ظل الزيتونة قد انحسر عمّا كان عليه عند وصولهما، قالت له إنهما سيعودان للعمل ويتوقفا قبل الظهر، قبل اشتداد الحرارة.
&&استأنفا العمل بالوتيرة نفسها. أوشك الكيس الذي يجمع فيه نبات المدادة على الامتلاء، لفت نظرها بأن الكيس سيمتلئ، ضحكت وقالت له بأن بإمكانه أن يضغطه قليلاً فسيتسع لكمية أكبر، ولكنها فهمت ما كان يلمّح إليه، فهمت أنه يتمنى التوقف عن العمل بسبب الحرّ. أكدت له أنهما سيتوقفان عن العمل عند نهاية الصف الذي كانا قد وصلا نصفه، فحاول أن يدافع عن نفسه نافياً أن يكون هذا قصده، وأضاف بأن بإمكانه أن يستمر بالعمل لأي وقت تشاء.
لم يكن أمامه إلاّ السير في الطريق والتحمل حتى محطة الاستراحة القادمة كما وعدته حين شكا تعبه، حكمة سنواته التسع جعلته يوفّر على نفسه النطق بالشكوى من هذا القيظ الذي يجعله يتصبب عرقاً، ويوفر على أمه سماع الشكوى مرة تلو مرة رأفة بها، فلا ينقصها تحمّل ألم شكواه زيادة على ما تحمله على رأسها وما تتحمله مثله من شدة القيظ. كان جوابها عندما تذمر من التعب وشدة الحر في المرة السابقة أنهما سيستريحان عند المحطة الأولى في الطريق، إذ لا يمكنهما الاستراحة هنا تحت الشمس كما أخبرته، "تحمل، عندما نصل زيتونات الحاج صالح سنستريح" ومدت يدها الطليقة لتمسك بيده وتساعده على السير قدماً وكلمات الحنان تتابع حركتها مشجعة بينما يدها الأخرى مشغولة بإسناد الحمل الموجود على رأسها. منحته إجابتُها أملاً في الاستراحة وطاقة جديدة للمشي. بدأت الطاقة تتلاشى ومحطة زيتونات الحاج صالح ما زالت بعيدة. بلع شكواه مرة أخرى وبدأ يحدث نفسه بأمل الوصول إلى المحطة المأمولة مركزاً سمعه على أصوات صراصير الصيف التي تملأ الجو بصوتها الرتيب فتعلو موجاته وتهبط وكأن الصراصير تسلي نفسها هي الأخرى لتتغلب على هذا الحر الشديد، بينما أمواج من السراب تتحرك أمامه على مد النظر في الطريق الصاعد نحو طرف حقل الزيتون. ألهمته أصوات الصراصير فكرة "لماذا لا يغني ليسلي نفسه؟". بدأ بغناء موال كان قد سمعه من الشباب في أعراس القرية، نظرت إليه وتبسمت، فتشجع ورفع صوته بالغناء منهياً الموال، ثم بدأ بموال آخر، لكنها هذه المرة نهرته وسألته من أين تعلّم هذا الغناء "العيب" فسكت وأوضح لها أنه سمعه من بعض شباب الحارة، أعادت تنبيهه بألاّ يتلفظ بمثل هذه الألفاظ، وأن يبتعد عن مثل هؤلاء الشباب. بدأ بالاعتذار والتوضيح بأنه لم يكن يعرف بأن هذه الكلمات ليست مؤدبة، فخففت عنه شعوره بالذنب وأنها لم تكن تلومه، فهذا ليس ذنبه، بل إنها تريده أن يتعلّم ما هو الصحيح وما هو الخطأ، وأضافت "بس صوتك حلو، حافظ شي ثاني؟ يلاّ غنّي". رفع نظره نحوها بعد أن كان مركزاً على الأرض خجلاً مما سمعه في البداية، فوجدها تبتسم، فتبسم هو الآخر، حضنته قليلاً بيدها الطليقة. بدأ بغناء موال ثالث وكله أمل ألاّ تحتوي كلماته على أية كلمة غير مؤدبة تثير استياءها.
وصلا مع نهاية الموال الثالث إلى المحطة المنشودة، ركض نحو ظل الزيتونة الطرفية، جلس على حجارة السلسلة الحجرية التي تفصل قطعة الأرض عن الطريق، أنزلت الصندوق الذي تحمله عن رأسها وجلست إلى جانبه. هبت نسمة هواء خفيفة مفاجئة حركت أغصان الزيتونة، شعر ببرودة العرق على وجهه فانتعش، تمنى لو تطول الاستراحة. لم تعش أمنيته سوى لحظات، قالت له "استرحت حبيبي، يلاّ نكمل الطريق، إذا تعبت مرة ثانية ممكن نستريح عند بير الرعيان".
نهضا واستأنفا السير. لم يعد في جعبته غناء ليسليه في الجزء الباقي من الطريق حتى المحطة القادمة، سيطلب الاستراحة في المحطة الموعودة في ساحة البئر تحت شجرة الخروب. قال لها إنه لم يعد لديه ما يحفظه من الأغاني، وطلب منها أن تغني. لبّت طلبه وقالت إنها ستغني له، وغنت "ما أحلى حمام الدار، ما أحلى زغاليله…"، قاطعها "هذه لزفة العرسان، أنا مش عريس". حضنته بيدها الطليقة "إن شاء الله تكبر وتنجح في المدرسة وتكبر وتصير عريس"، وأكملت الغناء. شعر بطاقة جديدة وفكّر ألاّ يطلب الاستراحة القادمة وأن يتحمل ليصلا البيت بأقرب وقت.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت