- المتوكل طه
***
I
ثلاثُ صَبايا اتَّفقنَ
أن يَذهبنَ ، مع العَروسِ ، إلى بيتِ النَّبع ،
حضَّرنَ الحلوَ الحامضَ ، وسَراويلَ جديدة ،
وجاءَ لهنَّ الرَّاعي بإضمامةِ ريحانٍ ،
واقتطفتْ إحداهنَّ أوراقَ النَّعناعِ ،
وجدَّلت إضمامةَ قُرنفلٍ ثانية ..
كان ثديُ الأرضِ ، هذا الصَّيف ، مِدراراً سَلسبيلاً ،
وهبطنَ حتَّى أفخاذِهنَّ في الماءِ الرَّاكدِ ، الجاري
نحوَ المساكبِ والعَدم ..
وخلعنَ كلَّ شيء !
وراحتْ تَغمسُ أكبرُهنَّ حزمةَ المريَميَّةِ في الماءِ ،
وتحكُّها بالصَّابونِ المطبوخِ بزيتِ طفاحٍ صافٍ ،
يتخلَّلهُ ورقُ الغارِ
وشيءٌ من مبروشِ الشَّبَّة ،
فتُرغي أعوادُ المريَميَّةِ مثلَ اللِّيفَةِ الطَّازجة
ويَبدأنَ بِفَرْكِ أجسادهنَّ
حتَّى يشفَّ الإبطُ والسَّاحلُ والمرمرُ الذي لا ينتهي ..
ويَخُضنَ في الماءِ ، ويَتراشقنَ بهِ ،
وتستلقي الواحدةُ إثرَ الأُخرى
على تلكَ الصَّخرةِ السَّعيدة ؛
لِتَنقيبِ الحجرِ الرَّخوِ من زَغبِ الرَّغبة
ويتأَوَّهنَ ..
ويَسألنَ ..
ويَغبطنَ بعضهنَّ بعضاً
على ما اكتنـزنهُ من فطائرَ ومَواقد ..
ويَنغمسنَ ثانيةً في الماءِ ، ويُمسِّدنَ برفقٍ مُتوهِّجٍ
الزَّوايا والأبواب ،
ثمَّ يَخرُجنَ للجلوسِ على تلكَ الحجارةِ اللامُبالية ،
ويَدعكنَ أعرافَ القُرنفلِ وأوراقَ الرَّيحانِ مراراً
حتَّى يَفوحَ النَّدى السَّاخنُ ،
ويَعلكنَ أوراقَ اللّيمونِ الطريَّةَ والنَّعناع ..
ثمَّ يلبسنَ السَّراويلَ اللامعةَ ،
ويَرْدُدْنَ شَعرَ رؤوسهنَّ على كلِّ الجَنبات ،
يَحرثنهُ بالمشطِ ، حتَّى يَرعوي
بِبَريقهِ الذي يَقطرُ بالبَلَل ،
ويُصلحنَ هندامهنَّ ، ويُتْمِمنَ زينَتهنَّ بالإّثِمدِ ،
ويقفلنَ إلى دارِ العَروس .
II
ولمَّا أَصبحتِ الغزالةُ فوقَ الرُّؤوسِ مباشرةً ،
حان وقتُ الرِّجالِ ليفترعوا ماءَ النَّبعِ بأجسادهم ،
- النَّاغريَّةُ للرِّجال ،أمَّا النِّساءُ فلهنَّ الشُّروق -
فذهب صديقا العريسِ معهُ إلى النَّبعِ
بعدَ أن سدُّوا ، بالحجرِ الكبيرِ، الدَّربَ اليَتيمَ
الذي يُفضي إلى المصبِّ الهادئ ..
وما إن خَلعُوا ثيابَهم ، وشقُّوا الماءَ بأرجلهم
حتَّى تبيَّنوا كثافتهَ واختلافَ لَونِه ،
فألقى أحدهم بِطُولهِ إلى الصَّفحةِ اللَّزِجَة ،
وما إن غمرهُ الماءُ حتَّى هبَّ واقفاً .. مشدُوهاً :
الماءُ شديدُ العُذوبة !
وسألَ صَديقَيه : هل رَميتُما قَفيراً هنا ؟
... واغتسلوا وتطيّبوا ،
وأنكرُوا على العريسِ عانَتَهُ ،
وغيابَ الملحِ عن أسنانِه ..
لكنَّهما جعلاهُ ، بالمُوسى والملحِ ، يُضيءُ من جديد ..
وخرجوا والشَّهدُ الرَّانخُ يُضوِّعُ قماشَ الغباني
الذي لفَّ أجسادَهم ..
وقَفلوا إلى بيتِ العريس .
III
كانتِ الزّغاريدُ ترنُّ تَحتَ السُّرَّةِ ،
والبهجةُ تُنسي المحتفلينَ أسماءَهم .
- مشهدٌ غارقٌ في الغُموض -
ثَمَّة حركةٌ وألوانٌ وصخبُ حمامٍ ..
يبدو أنهُ مشهدٌ يتماهى مع ذَّهبِ الأصيل ،
غير أنكَ تَتبيَّنُ هالةَ الفرسِ ، والوردةَ التي فوقَها !
وتلحظُ جَمْعَيْنِ ، وطوفانَ بخورٍ ،
وطيوراً تَلِدُ من الغَيب .
ربّما كانت تلك القريةُ ، بِما تحملُهُ من فَرحٍ ،
أقربَ إلى اللَّوحةِ التي تستطيعُ أن تُعلِّقها على الجِدار ،
لكنَّ رائحَتها القويَّةَ تَنفذُ إلى أطرافِ يديك ،
وتشهقُ مع رئتيكَ بتلك المواسِمِ الباذخة ،
والشَّهواتِ المكتومة ،
واللَّيلِ الذي لا يَنام .
IV
يذهبُ المتعبونَ تاركينَ أوانيهم على حالها ،
واللّيلُ النَّهاريُّ يُلفِّعهم بِعَرَقٍ قويّ
سيحملهُ النَّبعُ الجاري طبقاتٍ بَصليَّةً
إلى شُقوقِ البَعيد ،
غير أنَّ امرأتينِ تقفانِ قبالَةَ بعضهما
تنتظران ..
لتُثبتَ إحداهما ضراوةَ النَّمرِ ،
وتُسْعَدَ الثَّانيةُ ببراءة لَحمِ الغزال !
وتلوِّحُ كلتاهما بالمنديلِ المرشوقِ بعسلِ النَّبعِ الصَّغير ..
إنه الدَّمُ الذي لا يزالُ على النَّصل !
V
لماذا يَحضرُ هذا الغبشُ اللَّذيذُ الغائمُ بقوَّةٍ أمامي ، الآنَ ،
مثلَ بركةٍ لا أعرفُ قرارها
تترجرجُ بِمائها العميقِ السَّاهي ؟!
وتُلحُّ عليَّ الصُّورةُ ..
وأكادُ أسمعُ نُواحَ الأرغولِ ،
ويذبَحُني ندمُ النَّاي العاشقِ ..
وهاهي خطواتُ السَّامرِ وسَحجاتُه الخَشنة
تصطفقُ كجناحي طيرٍ كَبير .
وهاهي النَّارُ المتعاليةُ التي تلفُّ القِدْرَ بلسانِها الصَّافي .
وهاهي غيمةُ بُخارِ لذائذِ الطَّعامِ البِكْرِ
الذي سيدلحونَهُ، بكرمٍ فائضٍ ، أمامَ الرِّجالِ والصِّبيان .
وهاهي الأصواتُ، من حولي ،
تتعانقُ مثل الأيدي المُتشابكةِ في الزفَّةِ الريَّانةِ المُمتلئةِ
بكلماتٍ مُشتعلةٍ مَرضيَّة..
أحسُّ ، لحظةً ، أنَّ قميصي رانخٌ بينَ أكتافِ الرِّجال ،
والماءُ الرَّاشحُ يتناثرُ
مع الصَّرخاتِ الوادِعَة المُطالبةِ بِفَتحِ الجُرحِ ثانيةً ؛
حتَّى يَفيضَ العَندم .
وهاهي شهوةُ الكرزِ المعضوضِ .
وهاهي ورقةُ العجينِ على بوَّابةِ الدَّار .
أُحاولُ أن أذهبَ إلى الكهولةِ ،
لكنَّ العُرسَ يُلاحقني !
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت