- بقلم: الدكتور عصام يوسف – رئيس الهيئة الشعبية العالمية لدعم فلسطين
رسّخت دولة قطر منذ تسعينيات القرن الماضي أسس سياسة خارجية ذات محددات معينة، تضع الدولة صغيرة المساحة جغرافياً في موقع المنافس والطموح للدور الريادي في المنطقة والإقليم والعالم، وبما يحافظ على ثوابت ومبادئ الدولة الأخلاقية والإنسانية والحضارية، في إطارها القُطري والعربي والإسلامي.
الطموح القطري المشروع وإن كان يتمدد في فراغات تركتها دول إقليمية آثرت التراجع عن لعب أدوار محورية كانت تهتم فيما مضى بالاستئثار بها، حرص على تعزيز حضوره من أجل خلق توازنات تحافظ على الهوية الحضارية للدولة من جهة، وقضايا الأمتين العربية والإسلامية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، من جهة أخرى.
وللقيادة القطرية رؤيتها في تحديد مدى انسجام سياسة الدولة الخارجية في تحقيق مصالح البلاد، بما يتوافق مع مصالح وقضايا الأمتين العربية والإسلامية، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار المفهوم المجرد للسياسة الخارجية للدول، والذي يتلخص بكونه المنهاج الذي ينظم السلوك السياسي الخارجي للدولة تجاه الدول أو الوحدات والمكونات الأخرى لتحقيق وخدمة أهداف محددة خلال فترة زمنية ما، وهو ما يعبر عن الدولة ككيان سياسي وعن صناع القرار فيها. المؤشرات التي تقرأ التطور الهائل الذي هندسته القيادة القطرية لسياسة البلاد الداخلية والخارجية على حد سواء خلال ما يزيد عن العقدين، يمكن ملاحظته في تحول الدولة من إمارة صغيرة على ساحل الخليج، إلى فاعل أساسي في المعادلة الإستراتيجية والإقليمية، بدأت مع تولّي الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني الحكم، وما تزال مستمرة، وبوتيرة متصاعدة خلال حكم الأمير الحالي تميم بن حمد آل ثاني للبلاد.
وتسير عملية النهوض في إطارين داخلي وخارجي، ففي إطارها الداخلي سعت القيادة القطرية إلى رفع مستويات معيشة مواطنيها، من خلال تدعيم اقتصاد البلاد عبر تنمية ثرواتها وزيادة مداخيلها، حتى وصلت قطر إلى صدارة أكثر البلدان غنىً بالنسبة لعدد السكان، إضافة لتسجيل أرقام قياسية في مجالات عدة كالرياضة والإعلام والثقافة والفن والسياحة، وما تزال عملية التطوير والنهضة تسجل أرقاماً تحوز إعجاب دول وشعوب المنطقة برمتها.
وفي الإطار الخارجي تظهر إمكانيات الدولة القطرية الحديثة بشكل واضح في تعاطيها مع الأزمات التي عصفت، وتعصف بالمنطقة، وتصدرها في إدارة ملفات كبيرة كملف المصالحة الأفغانية، إلى جانب لعبها دوراً بارزاً في دعم صمود الشعب الفلسطيني، سيما ما يتعلق منه بحالة الحصار التي يعانيها قطاع غزة، ومشاركتها في هذا الإطار- في مرات عدة- في عمليات الوساطة لمنع العدوان الصهيوني على القطاع، أو منع التصعيد من قبل دولة الاحتلال، وفي جوانب أخرى لا تقل أهمية تتمثل في تقديم الدعم المادي المستمر لتحسين الظروف المعيشية للأسر الفقيرة في غزة. وترسخت سياسة قطر الخارجية من خلال مبادئها التي تميزها عقيدة الدولة القائمة على توطيد الأمن والسلم والاستقرار الدوليين، التي يؤكد عليها دستور البلاد بنصوصه الواضحة، ليدفع ذلك الدولة إلى انتهاج سياسة حملت ملامح وخطوط عريضة واضحة وراسخة، أهمها جعل الدوحة وجهة مميزة للوساطات الدولية، إلى جانب دعم حق الشعوب في التحرر، فضلاً عن تعزيز تحالفاتها وعلاقاتها مع القوى العظمى، ما أتاح لها إبراز حضورها بل ونفوذها وتأثيرها في بعض القضايا والملفات.
ومع تكفّل دولة قطر في عمليات الوساطة في قضايا مختلفة خلال السنوات الماضية، كالنزاع المسلح في السودان، واستضافة الأطراف السياسية في لبنان لإيجاد حل لإشكالياتهم السياسية بعد أن أوصلت حالة التفاهم لطريق مسدود، إضافة لوساطتها في الملف الأفغاني، والملف الأرتيري، إلا أن ملف القضية الفلسطينية يأتي في صدارة الملفات المذكورة، لاعتبارات عدة أهمها ارتباطات القضية العضوية بتاريخ وحاضر ومستقبل الأمة العربية، وكياناتها السياسية، إلى جانب مركزية القضية بالنسبة للأمة وشعوبها ودولها، يضاف إلى ذلك تداخلات وتعقيدات القضية الفلسطينية وانعكاساتها على العلاقات والتحالفات الإقليمية والدولية.
وعبّرت دولة قطر من خلال سياستها تجاه القضية الفلسطينية عن الدعم غير المحدود للثوابت الوطنية والقومية والأخلاقية، حيث اتخذ هذا الدعم أشكالاً مختلفة، كالمادي والسياسي والدبلوماسي، تشاركت فيه مؤسسات المجتمع المدني القطري من خيرية وتعليمية واقتصادية..وغيرها، جنباً إلى جنب مع مؤسسات الدولة الرسمية، لتؤكد قطر من خلال هذا الدعم على تمسكها بتقوية وتعزيز خيارات الشعب الفلسطيني في النضال والصمود في وجه الاحتلال الصهيوني، وآلة القتل والدمار التي يفرط باستخدامها تجاه أبناء الشعب الفلسطيني.
واتخذ دعم الصمود الفلسطيني، بحكم الضرورات، دعم مجتمعاته سواء أكانت في الضفة الغربية ومدينة القدس، أم قطاع غزة، أم في مناطق الشتات، وليس من المستغرب أن يحوز قطاع غزة النصيب الأوفر من الدعم، إذا ما جرى الأخذ بعين الاعتبار الأولويات بالنسبة لحجم الاحتياج، كون القطاع يتعرض لحرب همجية مباشرة لم يوفر فيها الاحتلال من وسيلة لإخضاع وتركيع الشعب الفلسطيني، من شن للحروب المتتالية عملت على هدم البنى الحياتية والتحتية-على حد سواء- للقطاع، وحصار جائر مستمر منذ 15 عاماً يهدف لتجويع الأهالي، بعدما أوصل القطاع لحدود التأرجح على حافة الكارثة الإنسانية. وتدلل جهود الدولة القطرية على انسجامها الأخلاقي والإنساني مع نفسها، حيث لا يعيي المراقب استنباط هذه الحقيقة من خلال جولات سفيرها محمد العمادي، الذي يطرق كافة الأبواب، وينطلق بحركة رشيقة ومكوكية باحثاً عن آفاق هنا وهناك لإغاثة آلاف الأسر المحتاجة، التي باتت توقّت منتظرةً المنحة القطرية باعتبارها بصيص أمل تنشده لسد رمق أيام مقبلة، سيما وأن تمضية يوم في حياة فقير أو جائع بأقل حجم من المعاناة يعتبره هذا الفقير إنجازاً وغاية بحد ذاتها. واجه العمادي محاولات التعطيل و"التيئيس" التي سعت من ورائها دولة الاحتلال للضغط على المقاومة، عقب الحرب الأخيرة على القطاع، بهدف مفاقمة معاناة الغزيين، بمزيد من المثابرة، حيث يعي السفير المخضرم بأن كسر طوق شرور الاحتلال الملتف حول أعناق الأبرياء المحاصرين، يحتاج للتسلح بالأمل والتفاؤل والحراك دون كلل أو ملل، فلم يستسلم أمام طغيان الشيطان، الذي "تفنن" في إنتاجه للعراقيل والاشتراطات، ليلملم العمادي أوراقه أخيرا باحثاً عن حل أممي يمكن من خلاله إيصال أموال المنحة لمستحقيها الفقراء، والإيفاء بالالتزام الأخلاقي والإنساني، بأقل الخسائر.
سجّل العمادي انتصاراً على رغبات الاحتلال الدنيئة، وعلى نواياه الشيطانية، لصالح الأخلاق، ولمبادئ الوفاء والمروءة والشرف، مجدداً خطاب الدبلوماسي العتيد، بروح الإصرار التي اعتادها، بوعوده أن بلاده ستستمر في تقديم المساعدات وفق الآلية الأممية الجديدة، وبأن الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني سيتواصل، وبأن الدعم من خلال المساعدات والمشاريع التنموية، وإعادة الإعمار لن يتوقف. تزرع دولة قطر من خلال تقديمها لأشكال الدعم المختلفة للفلسطينيين، الأمل في نفوسهم، وبأن صرخاتهم للنصرة ليست في واد، يرددها الصدى، بل إنها وصلت لأسماع الأوفياء من الأشقاء، بعدما لبت نداء المستنجد بسخاء، فلم تبخل بالدعم السياسي والدبلوماسي والإنساني للعديد من القضايا، كالقدس وما تواجهه من تهويد، والأسرى وما يعانونه من تنكيل وانتهاك يومي، والاستيطان وما يخلفه من التهام للأرض، وسرقة لمقدرات الشعب الفلسطيني، واللاجئون الذي يتعرضون للابتزاز والتهميش ومحاولات طي صفحة حقهم في العودة، فضلاً عن غزة التي يعاني أبناؤها الأمرين جراء الحصار، لتضيء بوقودها الذي عوّض قطع الاحتلال لكهربائها، منازل الغزيين على مدى سنوات عدة.
من خلال سياستها المنحازة لحق الشعوب في الحياة، والحرية، رسمت قطر صورة مشرقة لدولة الريادة لمبادئ تغليب إرادة الشعوب، والتي قامت من خلالها بتوظيف أدوات الدولة السياسية والدبلوماسية والمادية، ما عزز من استقلالية قرارها وإمكانيات سياسة القوة الذكية والناعمة، إضافة لمكانتها المتميزة في الإقليم والعالم، إلى جانب تعزيز السلم والاستقرار الدوليين، متوّجةً هذا الدور المحوري بمواقف الشرف المتمثلة في دعم قضية العرب والمسلمين المركزية بكل أمانة وإخلاص.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت