استخفاف إسرائيلي جديد بالعالم الحر

بقلم: سنية الحسيني

سنية الحسيني
  • د. سنية الحسيني

طالما كانت منظمات حقوق الإنسان في فلسطين والحقوقيون المدافعون عنها وعن شعبها هدفا لقمع ومطاردة من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، حيث تراوح ذلك الاستهداف ما بين اعتقال ومداهمة للمقرات والمنازل وسحب للهويات المقدسية، ووصل حد تهديد بالقتل، إلا أن قرار إسرائيل الأخير يعد انتكاسة جديدة، تحمل تبعات أشد. وزادت هجمة الاحتلال على مثل هذه المنظمات والعاملين فيها خلال السنوات الأخيرة، في ظل التطورات التي لحقت بملف محاسبة إسرائيل على جرائمها بحق الفلسطينيين، ووصوله إلى المحاكم الدولية. وشرعنت دولة الاحتلال ممارساتها تلك بإقرار قانون «مكافحة الإرهاب» العام ٢٠١٦، والذي تستعين به وزارة الحرب في إسرائيل، إذ يمنحها صلاحيات مفتوحة بوصم وصف «الإرهاب» لأشخاص ومؤسسات تعمل في الأراضي الفلسطينية، دون إعطاء هؤلاء أو من يدافع عنهم حق التحقق من المعلومات التي تستخدمها ضدهم. ويحق لدولة الاحتلال، حسب ذلك القانون، حجب الأدلة المزعومة التي تستخدم لتجريم الفلسطينيين لأسباب تتعلق بأمنها القومي، فهل ستقبل دول العالم الغربي وعلى رأسها الولايات المتحدة، حاملة لواء الدفاع عن حقوق الإنسان ومنظمات حقوق الإنسان الإقليمية والدولية بهذه المهزلة الجديدة؟

 

وكانت إسرائيل قد أعلنت، يوم الجمعة الماضي، في بيان صادر عن وزير الحرب بيني غانتس تصنيف ست منظمات غير حكومية فلسطينية في الضفة الغربية المحتلة بـ»الإرهاب»، وهي مؤسسة «الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان» و»الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال»، و»الحق» و»اتحاد لجان العمل الزراعي»، و»اتحاد لجان المرأة»، و»مركز بيسان للبحوث والإنماء». واتهم البيان هذه المنظمات بأنها تعمل تحت غطاء منظمات المجتمع المدني، وتستفيد من مساعدات دول أوروبية وتبرعات منظمات دولية، بينما يسيطر عليها ويعمل فيها أعضاء بارزون ونشطاء في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، تتهمهم دولة الاحتلال بممارسة أعمال «إرهابية»، وباستخدام مساعدات المانحين لتمول أنشطة للجبهة الشعبية، التي تتهمها إسرائيل بالسعي لتدميرها. وكان جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي زعم في أيار الماضي بأن لديه أدلة على أن تلك المنظمات تخدع دولاً أوروبية، حيث ساهمت تبرعاتها في تمويل «أنشطة إرهابية مسلحة» للجبهة الشعبية. وتعتبر كل من إسرائيل والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الجبهة الشعبية «منظمة إرهابية».

 
بالإضافة إلى الاستهجان الفلسطيني، أثار قرار حكومة دولة الاحتلال الجديد انتقادات من جانب الأمم المتحدة وهيئات مراقبة حقوق إنسان عالمية، إذ أدانت منظمتا «هيومن رايتس ووتش» و»العفو الدولية» في بيان مشترك قرار الاحتلال، كما أدانته منظمات حقوقية إسرائيلية على رأسها منظمة «بتسيلم»، التي سجلت تضامنها مع تلك المؤسسات وأكدت أنها فخورة بعملها المشترك معها وشددت على نيتها مواصلة القيام بذلك. وأكدت قناة «كان» الإسرائيلية غضب كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من القرار الإسرائيلي، ففي حين أنكرت واشنطن تبليغ إسرائيل لها بهذا القرار مسبقاً أو تلقيها إخطارا بشأن هذا التصنيف، أكدت أنها ستطلب توضيحا من إسرائيل حول الأسس التي تم اعتمادها لذلك التصنيف. كما أكدت دول الاتحاد الأوروبي بأن إسرائيل لم تبلغها بالقرار قبل إعلانه، وسيطلب الاتحاد توضيحا من تل أبيب بشأن ذلك. واتهم مكتب مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في إسرائيل بأنها لجأت لحملة وصم لمثل هذه المنظمات منذ وقت طويل بهدف تقويض قدرتها على القيام بعملها. كما اعتبرت منظمتا «هيومن رايتس ووتش» و»العفو الدولية» أن تقاعس المجتمع الدولي على مر السنين عن التصدي لانتهاكات الاحتلال الخطيرة لحقوق الإنسان شجع الوصول إلى هذا القرار بحق مؤسسات وصفها البيان بأنها من أبرز منظمات المجتمع المدني الفلسطيني، وفي انتهاك اعتبره البيان أيضاً، اعتداء إسرائيليا على حركة حقوق الإنسان الدولية. ويسمح هذا التصنيف لسلطات الاحتلال بإغلاق مكاتب هذه المنظمات، ومصادرة أصولها، واعتقال موظفيها، وتمويل أنشطتها، والذي يمر من خلال البنوك الفلسطينية العاملة في الأراضي المحتلة. 


في ظل محاولة إسرائيل لتقويض عمل المجتمع المدني الفلسطيني القابع تحت سيطرتها واحتلالها، تستهدف، اليوم، بشكل مباشر وصارخ مؤسسات المجتمع المدني التي توثق انتهاكاتها في مجال حقوق الإنسان عموماً كما هو الحال في منظمة «الحق» التي تهدف لتوطيد مبدأ سيادة القانون، وتعزيز صون حقوق الإنسان واحترامها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومؤسسة «الضمير لرعاية الأسير» المناهضة للاعتقال التعسفي والتعذيب. هذا بالإضافة إلى استهدافها لمؤسسات أكثر تخصصاً فيما يخص الطفل والمرأة كما هو الحال في الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال والتي تعنى بحقوقهم من خلال التحقيق في الانتهاكات الجسيمة بحقهم وتوثيقها وتحميل السلطات المتهمة بارتكابها المسؤولية، وتوفير الخدمات القانونية لهؤلاء الأطفال، وكذلك اتحاد لجان المرأة، الذي يعتبر جزءا لا يتجزأ من الحركة الوطنية الفلسطينية. كما يستهدف الاحتلال المؤسسات التي تعنى بالأرض الفلسطينية، حيث استهدف اتحاد لجان العمل الزراعي، والذي يعمل على تعزيز صمود المزارعين وسيادتهم على مواردهم خصوصاً في المناطق «ج» المهمشة، والقابعة تحت سيطرته الكاملة واستهدافه، بالإضافة إلى استهدافه لمركز بيسان للبحوث والإنماء، الذي يعمل من أجل تعزيز صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته لسياسات الاحتلال وممارساته. 


وتستهدف إسرائيل بذلك مؤسسات بدأت عملها منذ عقود، فـ»الحق» دشنت عملها العام ١٩٧٩، واتحاد لجان المرأة العام ١٩٨٠، واتحاد لجان العمل الزراعي العام ١٩٨٦، ومركز بيسان للبحوث والإنماء العام ١٩٨٩، بينما تأسست مؤسستا الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان والحركة العالمية للدفاع عن الأطفال العام ١٩٩١. كما أن إسرائيل تستهدف مؤسسات تمتلك مصداقية عالية، وتحظى باعتراف دولي ودعم من دول ومنظمات رسمية، والتي تدقق في نشاطها وأدائها وتصريف أموالها، حسب الأصول المعمول بها في جميع دول العالم، وتتلقى دعماً مشروطاً، ضمن تلك المعطيات السابقة. ويعمل في هذه المؤسسات مواطنون فلسطينيون ينتمون إلى جميع الفصائل الوطنية الفلسطينية أو مستقلون، ومنهم من اعتقل سابقاً من قبل قوات الاحتلال، على خلفيات وطنية، ويمثل ذلك التركيبة الطبيعية لأي مؤسسة فلسطينية تعمل في الأراضي المحتلة. ومؤسسة الضمير عضو في مجلس منظمات حقوق الإنسان، والشبكة العالمية لمناهضة التعذيب، والائتلاف من أجل الدفاع عن الحقوق والحريات، والائتلاف الدولي لمناهضة سياسة العزل، وغيرها. وتعتبر الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال في فلسطين إحدى فروع الائتلاف الدولي للحركة العالمية للدفاع عن الأطفال، وتتمتع بصفة استشارية في المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، والمجلس الأوروبي. وتتمتع «الحق» بالصفة الاستشارية لدى المجلس الاقتصادي الاجتماعي في الأمم المتحدة، وعضوية الشبكة اليورومتوسطية لحقوق الإنسان، والمنظمة الدولية لمناهضة التعذيب، والتحالف الدولي للحقوقيين الدوليين في جنيف. كما أن اتحاد لجان العمل الزراعي عضو في العديد من الشبكات الدولية والوطنية، مثل الشبكة العربية للسيادة الغذائية، والاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة وشبكة المعاملة التبادلية والمنتدى الاجتماعي العالمي، وحصد ثلاث جوائز عالمية فقط خلال عامي ٢٠١٤ و٢٠١٥. 


وتواصل إسرائيل بذلك القرار الأخير سياستها كقوة احتلال والمرتكزة على أساس انتهاك حقوق الفلسطينيين الواردة في أحكام العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية وغيره من الصكوك الدولية في مجال حقوق الإنسان، لا بل تصعد سياساتها مستهينة بمنظومة حقوق الإنسان الدولية. وتتركز معظم قرارات الإدانة في الجمعية العامة سنوياً، ومنذ العام ١٩٦٧، ضد ممارسات إسرائيل كقوة احتلال، إذ أدانت ٨١ بالمائة منها إسرائيل فقط، ما بين عامي ٢٠١٢ و٢٠١٩، على ممارساتها الاحتلالية. كما تتعلق نصف القرارات التي صدرت عن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بإسرائيل. إن الإعلان عن قيام دولة إسرائيل نفسه العام ١٩٤٨ يعتبر انتهاكاً لمبدأ السلام الدولي، الذي قامت الأمم المتحدة من أجل تحقيقه، وواصلت إسرائيل انتهاكه باستكمال احتلالها لباقي الأراضي الفلسطينية العام ١٩٦٧، مستغلة دعم الولايات المتحدة والقوى الغربية، ومستفيدة من نظام الأمم المتحدة العقيم، العاجز عن تحقيق العدالة الدولية، في ظل تركيبته المكبلة بإرادة ومصالح دول عظمى على رأسها الولايات المتحدة. منذ ذلك الوقت، وبعد أكثر من سبعين عاماً يستمر انتهاك إسرائيل لحقوق الإنسان الفلسطيني، سواء أكانت الحق في تقرير المصير أو الحق في الحياة أو الأمن أو المحاكمة العادلة أو التنقل أو التعليم أو حتى الاستفادة من الثروات الطبيعية.

 
وتتفاقم مشكلة الفلسطينيين أكثر في ظل احتلال ممتد، والذي تجاوز الحدود التي نصت عليها أحكام القانون الدولي، والممثلة في اتفاقية لاهاي بشأن احترام قوانين وأعراف الحرب البرية العام ١٩٠٧، واتفاقية جنيف الرابعة لعام ١٩٤٩، والبروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام ١٩٧٧، بالإضافة إلى ميثاق الأمم المتحدة والقانون العرفي الدولي، والتي وضعت جميعها التزامات على دولة الاحتلال، بما يضمن حماية مواطني الأراضي المحتلة، وضمنت الطبيعة المؤقتة للاحتلال. واشترط بعض الفقهاء القانونيين الدوليين المخضرمين عدم تجاوز الفترة الزمنية للاحتلال عن خمس سنوات، مؤكدين أن أي تجاوز لهذه المدة يجعله غير قانوني. واستخدم مجلس الأمن لأول مرة مصطلح «الاحتلال الطويل» لوصف الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية في قراره رقم ٤٧١ لسنة ١٩٨٠. وتضمن أحكام القانون الدولي المعاملة الإنسانية للفلسطينيين، وفق مبادئ حقوق الإنسان، والتي فرضت على قوة الاحتلال الالتزام بطبيعته المؤقتة، وعدم ضم الأراضي المحتلة أو فرض السيادة الفعلية عليها، والالتزام بمبدأ حسن النية، وهو ما تخل به إسرائيل، بما يمكننا من تكييف هذا الاحتلال برمته، كجريمة ضد الإنسانية، وفقا لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

المصدر: -

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت