- المحامي علي ابوحبله
كانت الأسطورة الدينية قائمة في الفكر الصهيوني منذ البداية مع سيطرة النخبة العمالية اليسارية، ولكنها لم تكن في الحقيقة سوى وسيلة وليست غاية في حد ذاتها، أي لاستقطاب التعاطف إن من قبل اليهود المتدينين أو اليهود عامة أو من قبل الدوائر الدولية المختلفة، ولكن هذه الأسطورة تحولت إلى غاية في حد ذاتها، أي إقامة مجتمع يهودي متدين ومتشدد بعد الاندماج بين التيار الديني المتشدد والتيار اليميني المتشدد؛ حيث أصبح الأول صهيونياً والثاني دينياً، وتبنيا خطاباً واحداً متجانس المفردات حول الأرض والشعب الفلسطيني والتوراة وأرض الميعاد والعداء للمحيط العربي.
هذا الصعود للأسطورة الدينية والتشارك في تداولها، جاء ترتيباً على الانتقال من حكم الجماعة الواحدة المهيمنة ألا وهى النخبة الإشكنازية العمالية، إلى هيمنة جماعات متعددة من اليهود الأرثوذوكسي وجماعات المستوطنين والتيارات العنصرية المتدينة، من شتى الاتجاهات، والذين التفوا حول نتنياهو، وهى الجماعات التي تسعى إلى السيطرة على الإعلام والثقافة ومؤسسات الدولة العميقة. وقد أفضت هذه السيطرة اليمينية إلى خلق تناقض واضح بين مظهر إسرائيل كقوة إقليمية تضرب ذات اليمين وذات اليسار في سوريا وإيران ولبنان وغزة، إلى دولة مأزومة داخلياً وغير مستقرة وتواجه للمرة الأولى تحديات داخلية تهدد مناعتها الجماعية والثقة فى مؤسسات الدولة، بل يذهب بعض الكتاب إلى تحول إسرائيل على غرار جمهورية "ڤايمار" فى ألمانيا، ووقوعها في قبضة العنصريين والفاشيين كما وقعت ألمانيا في قبضة النازية.
هذه الأزمة الراهنة فى إسرائيل ليست مجرد صراعات حزبية أو شخصية وإن كانت لا تخلو من ذلك بشكل جزئي، ولكنها أزمة بنيوية عميقة تنتج تحولات كبيرة في المجتمع، لم تجد حتى الآن من يستطيع أن يتعامل معها بذكاء، أو حصافة، وتتوفر له القدرة على احتواء مضاعفاتها، خاصة مع اختفاء جيل المؤسسين وظهور أجيال من الساسة أقل تفهماً لهذه التحولات وطبيعة علاجها بعيداً عن الأيديولوجيات والرؤى السياسية فى خضم هذه الأزمة والصراعات المحتدمة بين هذه القوى ، صارع نتنياهو حتى النهاية ليمسك بخيوط اللعبة؛ استناداً على ما اعتبره منجزات حققها حكمه، ولكنه كما اصطدم هو بعجز مؤيديه عن سن قانون يمنحه الحصانة ضد الاتهامات الموجهة له، كذلك فشل مناهضوه في سن قانون يحظر تكليف عضو كنيست موجهاً له اتهامات رسمية بتشكيل حكومة، إلى أن كلف رئيس الدولة يائير لابيد بتشكيل هذه الحكومة ونجح في تشكيلها ربما إلى حين.
مقاربات ما بعد نتنياهو، حيث تواجه الحكومة الإسرائيلية التى تشكلت فى يونيو الماضى، وحصلت على ثقة الكنيست، والمعروفة إعلامياً بحكومة "التغيير"، والتي أنهت عهد نتنياهو ووضعت هذا الأخير في موقع زعيم العارضة الإسرائيلية، صعوبات شتى. وقد استندت هذه الحكومة بادئ ذي بدء على مناهضي حكم نتنياهو وإصرارهم على إزاحته، ويكاد تكون هذه النقطة بمثابة القاسم المشترك الأعظم بين مختلف مكوناتها من اليمين الديني والقومي والوسط واليسار؛ وضمت هذه الحكومة حزب "يوجد مستقبل" بقيادة يائير لابيد "الوسط"، و"أبيض أزرق" بزعامة بيني غانتس، و"العمل" و"ميرتس" و"يمينا" بزعامة نفتالى بينيت، و"القائمة العربية الموحدة" برئاسة منصور عباس، و"أمل جديد" بزعامة جدعون ساغر المنشق عن تكتل "الليكود".
وكما هو واضح، فإن هذه المكونات ما يفرق بينها أكثر مما يوحدها سياسياً وأيديولوجياً واجتماعياً، فثمة رؤى ومواقف مختلفة ومتباينة إلى حد التناقص إن على الصعيد الاجتماعي الداخلي أو على الصعيد الإقليمي وبالذات فيما يخص القضية الفلسطينية. أن الصراع بين الشعب الفلسطيني وإسرائيل لن يحسم بالقوة العسكرية، فكما أن إسرائيل ليست قادرة على تصفية الشعب الفلسطيني بقوتها وهيمنتها، فإن الشعب الفلسطيني لن يستطيع بمفرده الحصول على حقوقه المشروعة فى الدولة والقدس، بل هو فى حاجة إلى الدعم الإقليمي والعربي والإسلامي والدولي، ومصر تقود هذه الجهود في الأعمار والتهدئة وأفق الحل السياسي، وما دون ذلك فإن الانفجار قادم وقادر على التجدد والانتشار في الصراع العربي- الإسرائيلي. الحالة الإسرائيلية بمكوناتها السياسية والخلاف والصراع بين النموذج العلماني والديني الأسطوري غير قادرة لقبول التعاطي مع حل الدولتين، رغم إزاحة نتنياهو -ربما مؤقتاً- وتشكيل حكومة "تغيير" حطت بثقة الكنيست، ذلك أن الائتلاف هش وغير متجانس، وتحيط به العقبات من كل جانب وتناوئه المعارضة اليمينية بقوة.
فتجاذبات المتعصبين والمتطرفين والمتشددين دينياً والمستوطنين تسيطر على عقول صانعي السياسات، بقدر ما يسيطر صانعوا هذه السياسات على عقول هذه الفئات، وذلك يجعل من التعاطي مع الحل نوعاً من الخيانة والخروج عن الملة، ولا يعتقد أن أياً من السياسيين الذين يتصدرون المشهد الراهن قادر على مواجهة هؤلاء.
غير أن ذلك- أى هذه الحالة الإسرائيلية- ليست فى نهاية التحليل معطى ثابتاً أو أبدياً أو غير قابل للتغير، بل على العكس يمكن تغييره، بتضافر الضغوط العربية والإسلامية والدولية خاصة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وروسيا والصين واقتناع هؤلاء الفاعلين بضرورة وضع نهاية لهذا الصراع، وأن البديل لذلك هو استمرار المواجهات ونزيف الدماء ومزيد من عدم الاستقرار، والبقاء فى هذه الحلقة من الصراعات وسفك الدماء وتعريض امن وسلامة المنطقة للخطر. أما الحالة الفلسطينية عليها استنهاض نفسها ، والتحرر يتطلب من جميع النخب الفلسطينية، إن فئ فتح أو فى حماس والجهاد وكل القوى والفصائل ، أن تفكر بعقلية "الأمة الفلسطينية" والشعب الفلسطيني وليس بعقلية "الفصيل " و" المكسب والمغنم " من أجل أن يتوج النضال الفلسطينى بتحقيق أهدافه فى الدولة والقدس والأقصى، باختصار تحقيق الوحدة على قاعدة برنامج وطني محكوم باستراتجيه تجمع جميع القوى فى إطار منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها التنظيم الأم للنضال الفلسطيني والمعترف به عربياً وعالمياً بصفتها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني ، وليس ذلك هدفاً مثالياً بل فى متناول اليد إذا صدقت النوايا.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت