- بقلم: مصطفى عبد الفتاح
- 27.1.2022
صعد حسن إلى الباص في طريقنا إلى القدس، وهو يحمل بسمته المُعتادة، يوزِّعها على جميع المعارف، ويحتضن رُزمة يضمها الى صدره، نظر اليَّ بوجه بشوش، وفرحة طفل يريد أن يُفرغ ما في جُعبته من أخبار سارَّة، عرفت أنَّه يحمل خبرًا جديدًا، وهو يعرف شغفي بتتبّع أخبار سُجناء الحرية ومتابعة إصداراتهم الأدبية، وأكاد أُقدِّس هذا العمل الأدبي والإنساني الرَّائع، لأنها كلمة الأدب الحُر، تخرج صادقة مُعبّرة، يُطلقها أصحابها مِن خلف القضبان إلى عالم الحرية، مُعبّرين عن لواعج قلوبهم وعقولهم المقهورة مِن ظُلم السَّجان، فتبقي جذوة الامل مشتعلة، وأحترم هذه الرِّسالة السَّامية الَّتي يحملها حسن عبَّادي بين جناحيه في دعم معنوياتهم، ورصد حركاتهم، وإعطائهم جذوة عزيمة، ورسم بسمة أمل رغم الألم.
صُدفة تعرَّفت إليها، أثناء زياراتي المُتعاقبة إلى السُّجون، عرفتني مِن بعيد، رغم القهر والكبت ما زالت تُحافظ على روحها الانسانيَّة، كانت ابتسامتها الخجولة رغم الحزن الدفين، رسالة قوَّة وتصميم عَلى مُتابعة المشوار، ما زالت في ريعان الشباب، مُتعلِّمة مُثقفة، تحمل هموم شعبها مِن أجل حريّته، تُناضل مِن أجل الحريَّة والكرامة، وتُقاتل مِن أجل الفقراء والمحرومين، يتوقف لحظة تفكير ثمَّ يَستطرد، ليس هذا ما يميّزها، فمثلُها العشرات، يحملن قِصص وحكايات، يعزفن لحن النِّضال، وينتظرن الغد الآتي ليكون فجر الحرية.
أماني حشيم أمٌّ، وقلب الأمّ بُركان، لها طفلان، أحمد وآدم، تركتهم في المهد يبكيان، يصرخان، يبحثان عَن قلب الأُم فلا يجدان غير صدى صُراخ يملأ الفضاء، يومها اختطفتها يد الغدر مِن أحضان عائلتها الصَّغيرة منذ سنوات، ليلقى بها في غياهب السّجون، وبقيت هي تشاركهم صرختهم، ترسم صورتهم على جدار السجن، تخبئهم في قلبها، وتتابع نُموهما، تُحاول أن تقيس طولهما وتعدّ أيامهم، وتطلب من الله المزيد، فكل يوم عندهم يزيد يقصر عندها.
ها هي ملامحهم تتَغيَّر عند كلّ زيارة، فتُغيّر شكل صورتهم، يعيشون في قلبها وكأنَّهم لم يخرجوا من احشائها بعد، تريد أن تحتضنهم، أن تضمّهم إلى صدرها كأي أم.
حدَّثتني عَن حُلمها، فعيد ميلاد أحمد يقترب، وهي تستعد لذاك اليوم الَّذي تغير فيه وجه العالم، فقد أصبحت أم، وأيّ شيء في العيد تهديه لمُهجة روحها وهي خلف القضبان، وهل يوجد هنا غير عتمة السّجن وظُلم السّجان، وفي وهج الألم قرَّرت أن تهديهم الأمل، قرَّرت أن تهديهم كلمة، تُرافقهم أبد الدَّهر، أمنيتها أن تهديهم كتاب، نصوص مِن مسارح أفكارها، كتبته في ظلمة السجن بدمع القلب، تريده أن يخرج إلى النّور، في السابع والعشرين من هذا الشهر يوم وُلِد أحمد.
وتبسَّم حسن عبادي بسمته العريضة، سأحقّق لها أمنيتها، ها هو الكتاب سأقدّمه اليوم في القدس لأحد أفراد العائلة على أن يبقى سرًا بيننا حتى تاريخ الميلاد، ليكون مُفاجئة للأولاد، وأخرج من رُزمته نسخة مِن كتاب لونه أخضر بلون الوطن، عنوانه "العزيمة تُربّي الألم"، مؤلفه " الاسيرة أماني خالد حشيم"، المكان سجن الدَّامون حيفا، عدد صفحاته خمسون، قدّمه لي بفرح جندي انتصر في معركة حاسمة.
تصفَّحته، قرأت عناوينه، في كل صفحة تقريبًا عنوان يحمل فكرة أو عبرة، يليها حُلم وحكمة ودرس حياة، بقيتُ في ذهول، لم يبق في جعبتي كلمات لأقولها لحسن، لم يبق كلمات أكتبها عن الكتاب، لم يبق في ذهني غير صورة الحريَّة تتجسّد في صورة امرأة اسمها أماني خالد حشيم، ولم يبق في جعبتي مِن كلمات أحكيها لحسن عبادي ومَن ساعده لإخراج الكتاب إلى حيّز التنفيذ، فقد نقَّحه وحرَّره الصّديق الأديب فراس حج محمد، وطبعته سوسن فراس حج محمد، وصمَّمه الفنان ظافر شوربجي غير أن أقول لهم هنيئًا لكم هذا العطاء فأنتم تستحقونه.
تهدي أماني حشيم مخطوطتها الجميلة إلى والدها ووالدتها وإلى أبنائها أحمد وآدم، "لانَّ ابتسامتهم بحجم الوطن" (ص 7) وفي مُقدّمة كتابها تُخبرنا عَن لواعج صدرها وعن الحنين إلى الحُرية، فترى في القلم والورق ملاذها الوحيد تكتب فيه " نصوصًا من مسارح أفكارها" فتقول "فجاء القلم وفك قيدي وقالت الورقة هيا انطلقي، وثِق قلمي بصوت العزيمة لدي وآمنت ورقتي بأُمنياتي" (ص 13) وتستعرض بعجالة افكارها وتأمّلاتها ورُؤيتها إلى الحياة، وقوة العزيمة والإصرار على مواصلة النّضال لديها في الكثير مِن النّصوص والمواقف، بأسلوب مُقتضب جذاب يجعل القارئ يقف متأملًا هذه النصوص الجميلة.
تحت عُنوان المكان يصنعُني تقول "فاخترت أن احوِّل الألم إلى طوق إنقاذ" (ص 20)، يشعر القارئ بحجم المعاناة، يصاحبه الإصرار والتَّصميم عَلى تحويل الألم إلى أمل، إلى طوق نجاة، فليس أمَام الظّلم مِن مُقاوم غير الإصرار على قهره. وتحثّ أماني زملائها على الصمود والصّبر والتّحمل حتى تقهر السّجان وتطرد الظّلم مِن المكان، فتصف الشمس بأنها تخجل عندما ترى نورهم يسطع فتقول على لسان الشمس في، عندما تخجل الشمس" أنتم نتيجة عشق الحياة وحب الأرض، أنتم شموس الأرض ونورها ومركزها ولست أنا، أنتم الشّمس الحقيقية للحياة". (ص 22).
وكأنها تحفظ ذاتها في الكتابة، وترى في القراءة مُتنفّس لها، يهذّب الأفكار ويحفظها ويساعدها على الصبر والصمود فتراها تقول في لي عالم يقرأ:" في داخلي فوضى من العواطف والأفكار اهذّبها في كلمات" (ص. 21).
وتصر بعدها أنَّ لغة الأسير لغة مقاومة لغة نضال، حتى لو كانت لغة شوق وحنين، فهي أيضًا لغة أمل وتحدّي، فتقول في اللغة الثلاثية "حروف العيون تُخبركم عَن شُعلة الأمل بداخلنا، وحروف الأنامل تخط عَلى زجاج فاصل بيننا شوقنا وحنيننا، أمَّا حروف اللغة النّارية فتُسمعكم صدى عزيمة فلسطينية" (ص 23). وتبقى في ذهنها الكلمة الحرّة التي تخترق جدار السَّجان هي من يستطيع أن يتحرر ويحرّر مَن في السجن، لا قيد على الفكر وعلى القلم وعلى الورق، والكلمات الخارجة من خلف القضبان كلمات ناريّة صادقة مُعبرة حرّة فتكتب في "رسائل كتبت في الزنزانة" تقول" فلا قيد على القلم ولا قيد على السطور وهناك دائما مُتَّسع في ضيق الورق، يحوي كلّ أنين القلوب وحنينها، فلا تحسبوا أنَّها مُجرد كلمات وحروف، فكل حرف قد تأرجح ما بين الذكريات والامنيات" (ص 25).
في خضم فوضى الأفكار تبحث عَن الهدوء والسَّكينة، تبحث عَن ذاتها، عن راحتها النفسية، عن العزيمة والإصرار في تحقيق الامل" كنت اجدّف قاربي بمجداف العزيمة والإرادة، وأغني ترنيمة الأمل وأسرح بعيون حالمة" (ص 44) ولكنها تصطدم بواقع مر يجب ان تقاومه" رأيت في كل موجة عيونًا بشريّة يضجون بعنف من حولي يحاولون تحطيم مجداف العزيمة والإرادة وخطف ابتسامتي وقتل حلمي" (ص 44) هذا هو صراعها ومعركتها مع الحياة لتصل في نهايتها إلى فكر صاف وإلى وعي على الحقيقة ومقدرة على الصّمود برؤية الواقع من أجل الوصول إلى الأمل المنشود" وذابت الأمواج في الأعماق وسكن البحر وجاء سرب من الطيور لتزين السّماء وتُعلن عن اقتراب وصولي إلى شاطئ الآمال" (ص 45) ويبقى كتابها صفحة مُضيئة في سماء النضال من أجل التَّحرر، وشمعة تضيء الدَّرب يوم ميلاد احمد وآدم ، فتعالوا أيّها الأحرار نشعل شمعة حب وامل في درب أحمد وآدم ونقول لهما "عيد ميلاد سعيد لأحمد وآدم".
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت