- بقلم علي بدوان
صورة المأساة تتكرر، النّساء والأطفال، حيث تلك الهجرات الخارجية القسرية الأليمة، للأعداد الكبيرة من لاجىء فلسطين في لبنان وسورية، عبر قوارب الموت بالبحار والمحيطات، والتي أملتها ظروف قاهرة، في لبنان بعد العام 1983، وفي سورية منذ أواخر العام 2012. هجرةٍ قسريةٍ، وتشرّدٍ جديد، وتغريبةٍ ثانيةٍ قاسيةٍ، عبر قوارب الموت، ومنها الى الــ (البلم) الذي لم يكن يفصلهم عن مياه البحار والمحيطات سوى أمتارٍ قليلة, وأحيانا يقفز الماء نحو قلب الــ (البلم). فركبوا موجات البحار وتمتمات تتوسل الله النجاة والوصول, وعيون تحدق بالعيون، عيون أطفال وفتيان وصبابا ونساء، وحتى كهول، عيون تكتب بتحجّرها أسئلة يعرفها الجميع...؟
فمن له القدرة على استيعاب صرخاتِ قهرهم؟!
ومن له القدرة على استيعاب كارثة القارب الذي تحطم في البحر قريباً من جزيرة ارواد على بحر مدينة طرطوس السورية، وموت العشرات من المهاجرين، بما فيهم من لاجىء فلسطين في سورية ولبنان (خاصة من مخيم نهر البارد) مساء يوم 23/9/2022. والكارثة التي سبقت قبل عدة سنوات، قرب جزيرة (لامبيدوزا) على مسافات قصيرة من الشواطئ الإيطالية، حين مات غرقاً في البحر نحو 200 فلسطيني من لاجئي سورية ولبنان، ولم يُطلق أحد في العالم صرخة مدوية، ولا صرخة بسيطة من أجل هؤلاء الضحايا المنسيين؟!
ولكن، رُبَّ سؤالٍ يُطرح: هل نَلُومُ من هاجر واعتلى البحار من لاجئي فلسطين في سورية ولبنان؟ هل نوجِّه الاتهامات السهلة لهم، ونكيل في حقهم كل التهم، أقلها أنهم ابتعدوا عن فلسطين ونسوها؟!
كلا، لن نكون مُتجبرين في إجابتنا، فاللاجئ الفلسطيني في سورية ولبنان لا يلام عندما يسعى للهجرة إلى أصقاع المعمورة الأربعة، فالمواطن من أي بلدٍ كان، وفي نهاية المطاف ينتقل في اتجاه اللجوء إلى أحياء مدينته، وإلى ضيعته أو قريته داخل وطنه، وعلى أراضيه المترامية الأطراف، وخياراته مفتوحة، أما اللاجئ الفلسطيني فخياراته محدودة، والمجهول قد يكون في انتظاره، ولعنة وثيقة السفر تلاحقه من مكان لآخر.
الفارق بين اللاجئين الفلسطينيين وبين الجميع من لاجئي العالم ونازحيه، هو أن الشعب العربي الفلسطيني طُرد من أرضه طردًا واقتلاعًا وترحيلًا قسريًّا، بينما الآخرون لم يفقدوا أوطانهم، حيث إن رحلتهم إلى التِّيه داخل أوطانهم وحتى خارجها، ستبقى قصيره ومحدودة الفترة الزمنية مهما طالت، أما رحلة التِّيه الفلسطينية فمستمرة نكبة تلو نكبة، وهنا يكمن عُمق المأساة وجرحها الغائر.
الرحيل الإرادي إلى المجهول أراده البعض ويريده أن يكون تلبية للنداء الساحر لقتل حقيقة الفلسطينيين ودفنها هناك، وشطب حياتهم الماضية من أجل ميلاد معتوه في بلاد لا يحسن الواحد منَّا فيها سوى العيش أكلًا وشربًا وهواء. ومع هذا، فإن اللاجئين الفلسطينيين الذين غادروا لبنان وسورية تحت ظروفٍ قاهرة، لن ينسوا بلادهم ووطنهم الأزلي..
وفي هذا السياق، نقول، بأن ظاهرة الهجرات الإغترابية أمرٌ طبيعي في مُعظم بلدان ومجتمعات العالم المستقرة وغير المستقرة في عموم المعمورة بما فيها البلدان الصناعية الكبرى في العالم، إلا أن حالات الاضطراب الداخلي في بعض البلدان تعطيها استثناءً مغايرًا، قد يرفع من وتيرة تلك الهجرات الاغترابية ويجعل منها هجرات قسرية، لتصبح هجرات جماعية.
إن فلسطينيي سورية ولبنان، وفوق الرحيل القسري لأعداد واسعة منهم، يعانون الأمرَّين. فالأزمات، تنتج كوارث إنسانية تدفع الناس المنكوبين إلى الهروب من الموت والرحيل إلى المجهول، وفي كل الحروب هناك لاجئون ومهجرون وضحايا وكوارث إنسانية ... الفارق بينهم وبين الفلسطينيين، أن الشعب العربي الفلسطيني طُرد من أرضه طردًا واقتلاعًا وترحيلًا قسريًّا، بينما الآخرون لم يفقدوا أوطانهم حيث إن رحلتهم إلى التِّيه ستبقى قصيرة ... أما رحلة التِّيه الفلسطينية فمستمرة نكبة تلو نكبة، وهنا يكمن عمق المأساة...!.
وعليه، إن مساعدة لاجئي فلسطين في لبنان وسورية، وحل القضايا والاستعصاءات التي أصابتهم خلال المحن، يكون بعودة الناس إلى مخيماتها وتجمعاتها السكنية، وعلى رأسها مخيم اليرموك، ومخيم حندرات ومخيم درعا... والنظر بعين العدالة والإنصاف من قبل المرجعيات اللبنانية من أجل فلسطينيي لبنان، الواقعين تحت سقف الحرمان، والتمييز، والمضايقات ووووو .... هنا لباب القول…
أخيراً، لاجىئي فلسطين، وأمام هجراتٍ قسرية، هي في حقيقتها، "هجرات الموت من أجل الحياة"، هجرات لن تنسيهم حقهم في وطنهم الأبدي فلسطين، فالخيمة في داخلهم، تلك التي انتصبت في نكبة العام 1948، ورحلت معهم إلى كل جهات الأرض. أقسمت أن تبقى معهم، تقيهم في كل موسم ريح السموم، وفي الوحدة صقيع الغربة. وهم عاهدوها أن تظل فيهم، تُظلل أجسادهم، وتقي أرواحهم من حر النيران الملتهبة إلى أن يعودوا، وها هو مفتاح البيت معهم مهما ابتعدوا عنه، ومهما باعدتهم الظروف. وسيظل الجد يحكي للحفيد عن عكا التي لولا صمودها لما جاورت البحر، عن حيفا التي لا تنام إلا على هديره، عن المجدل، واسدود، واللد، وصفد، والرملة، ويافا التي ظلت عروسه مهما جف وعطش، يافا التي لم تأتِ بالمراكب بل قبل البحر كانت. ولن يكفَّ الإبن عن الرحيل من غربة إلى غربة وعن سؤال أبيه : يا أبي "لماذا تركت الحصان وحيداً"؟
نحن لسنا في هذه الدنيا بخالدين، لكن أجيالنا ستولد من جديد في الوطن، ودياسبورا المنافي والشتات، ستبقى تحمل الوعد الفلسطيني، ولن يموت الحلم بوطن ما زال وسيبقى اسمه فلسطين.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت