- محمد سيف الدولة
فى الأيام التالية مباشرة لوقف إطلاق النار فى 28 اكتوبر ١٩٧٣، انطلقت فى مصر حملتان اعلاميتان متزامنتان من ذات المصدر، فكلتاهما أطلقتها اجهزة السلطة والنظام الحاكم، احداهما تصدرت الخطابات الرسمية والصحف القومية والمنابر الاعلامية الرسمية. والثانية انتشرت كالنار فى الهشيم بين كل قطاعات الشعب عن طريق عناصر الاجهزة الامنية المنتشرة فى كل مكان.
الاولى كانت تحتفى بنصر اكتوبر العظيم وخطة العبور والخداع الاستراتيجى، والمعجزة العسكرية والقضاء على أسطورة خط بارليف وجيش اسرائيل الذى لا يقهر، وبطولات الجنود المصريين وشجاعة وعبقرية القيادة السياسية والقيادات العسكرية وكسر الهزيمة، وعودة الكرامة...الخ
أما الحملة الثانية فأخذت تروج للنقيض تماما من رواية النصر؛ فتدعى اننا خسرنا الحرب، وان ما حدث اثبت اننا لا قبل لنا بقتال (اسرائيل) التى يدعمها الامريكان، وان القوات الاسرائيلية بعد الثغرة كانت على بعد بضعةً كيلومترات قليلة من القاهرة، وأنهم كانوا على وشك دخولها لولا ستر الله، وانه اذا كان ربنا قد سترها هذه المرة، فلن تسلم الجرة كل مرة، وانه كفى عنترية وكفى فلسطين وكفى عرب وعروبة وكفى شعارات وطنية كاذبة، وكفى تحديا لموازين القوى الدولية، وكفى تحديا للامريكان، وكفى رهانا على الاتحاد السوفيتى وسلاحه الذى خذلنا فى الحرب، وكفى حروبا مع اسرائيل.
وقد قالها السادات صراحة فى خطاباته بعد الحرب حين قال: "اكتشفت انى بقالى ١٠ ايام أحارب امريكا وانا مقدرش احارب امريكا."
***
وبالفعل نجحت هذه الدعاية الموجهة السوداء، فى اختراق الوعى العام الشعبى فى اكبر عملية غسيل جماعى لأدمغة المصريين، ليستقر فى وجدان قطاعات واسعة منهم أن حرب اكتوبر يجب بالفعل ان تكون اخر الحروب وان "اننا لا قبل لنا بامريكا واسرائيل".
لنكتشف فيما بعد ان السادات ونظامه انما كانوا يمهدون للانسحاب من الصراع العربى ضد (اسرائيل)، وانهم ينتوون بيع فلسطين وقضيتها للصهاينة مقابل استرداد سيناء فى اطار توقيع اتفاقية صلح منفرد مع (اسرائيل)، يعترفون فيها بشرعية الاحتلال الاسرائيلى لارض فلسطين 1948.
***
لم يكن نظام السادات ليجرؤ بطبيعة الحال على الأقدام على مثل هذه الخطوة، الا اذا تمكن من كسر الناس وهزيمتهم هزيمة داخلية وخلخلة ثقتهم فى قدراتهم والقضاء على روحهم المعنوية تمهيدا للاستسلام الذى تم بعد ذلك بدءا بمفاوضات فض الاشتباك الاول فى ١٨ يناير ١٩٧٤ ومرورا بمفاوضات فض الاشتباك الثانى فى اول سبتمبر ١٩٧٥ وزيارة القدس فى 19 نوفمبر ١٩٧٧ وانتهاء بكامب ديفيد فى 17 سبتمبر 1978 ثم المعاهدة فى 26 مارس 1979.
***
ومنذ ذلك الحين، اصبحت القاعدة الاولى والمقدسة فى السياسة المصرية الرسمية، هى الخوف من (اسرائيل) والتبعية للامريكان. وتم فرض حصار واسع فى منابر الاعلام الرسمى، على أى خطاب عن "الوطنية والعروبة وتحرير فلسطين والعدو الصهيونى"، وتم استبداله بخطاب السلام والواقعية والاعتدال والأمن المشترك و"المقاومة ارهاب" و "مصر اولا" الذى ثبت فيما بعد ان حقيقته الفعلية هى أن "اسرائيل اولا".
وتم اختصار هذا الصراع التاريخى الوجودى وتقليص كل الحكاية فى احتفالات موسمية تاتى كل عام فى ايام معدودات، من شهر اكتوبر، تخرج علينا فيها بعض المقالات والأقلام والبرامج لتحيى ذكرى النصر بشكل روتينى ومكرر، ولتشيد بالقوات المسلحة المصرية، ولتضع أكاليل الزهور على قبر الجندى المجهول، بدون ان تسمح لكائن من كان ان يطرح الأسئلة الحقيقية حول ما آلت اليه احوالنا اليوم بعد ان تم تقزيم دور مصر بينما اصبحت (اسرائيل) هى القوة الاقليمية العظمى فى المنطقة وتكاد ان تبتلع ما تبقى من فلسطين. ويأتى على رأس هذه الأسئلة السؤال المحظور فى مصر منذ 49 عاما وهو:
"كيف ولماذا رفضت مصر المهزومة فى ١٩٦٧، الشروط الاسرائيلية والأمريكية وقررت الصمود ومواصلة القتال، بينما قررت مصر المنتصرة فى ١٩٧٣ ولا تزال، الانسحاب من المواجهة مع العدو وقبول هذه الشروط والخضوع والاستسلام لها؟
رحم الله شهداء أكتوبر الذين صنعوا لنا هذا النصر وغفر الله لمن أضاعوه.
*****
القاهرة فى 5 اكتوبر 2022
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت